الصيام للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

الصيام

الصيام للعلامة #محمد_الخضر_حسين مقال أدبي علمي كعادة مقالات الشيخ رحمه الله تناول فيه الكلام عن شعيرة الصيام بأسلوب مليء بالروحانية، نشر المقال في مجلة السعادة العظمى _ عدد14، 16 رجب 1322هـ وجاء في 865 كلمة و 58 فقرد يستغرق من الوقت للقراءة الصامتة 4 دقائق و 48 ثانية . تكرر فيه عبارات ( أبواب الجنة ، و أطيب عند الله ) وكلمات ( الصيام ، الإمساك ، أبواب ، الدرجة ، ريح ، الصوم ، الأوامر )

الصيام للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

الصيام (1) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]البقرة:183.

هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بـ: يا أيها الناس؛

فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم،

وكذلك جرت سنة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بـ: يا أيها الذين آمنوا،

نحو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا] الحج:77،

ونحو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] البقرة:254،

وكقوله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ] المائدة:90، إلى غير ذلك.

ويصدر الأوامر الاعتقادية بـ: يا أيها الناس، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان؛

فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا،

مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم، والمبالغة في التهييج إلى العمل؛

فكأنه يقول لهم: أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال.

ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه العدول عن يا أيها الناس في الأوامر الفرعية.

[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] الصيام في اللغة الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح.

وفي الشريعة الإمساك عن المفطرات بياض النهار.

الصيام رياضة النفس

وشرع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها وإمساكها عن خسيس عاداتها،

وليذوق الموسرون لباس الجوع؛ فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء.

وللصوم عند من تنبهوا لأسرار العبادات ثلاث درجات: صوم العامة وهو كف البطن والفرج عن شهوتيهما،

وصوم الخاصة وهو ما تقدم مع قصر الجوارح عن أفعال المخالفات،

وصوم خاصة الخاصة وهو صوم القلب وترفعه عن الهمم الدنيَّة والأفكار الدنيوية التي لا تراد للدين وإلا فهي من زاد الآخرة ومطاياه،

وهذه هي الدرجة الكاملة التي جمعت بين عمل الظاهر والباطن.

وينبئك على حطة الدرجة الأولى وقصور صاحبها عن الانخراط في زمرة الصائمين حقيقة،

قوله “: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.

وقال أبو بكر العربي: كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب؛

فكانوا في حرج ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج؛

فوقعت في ارتكاب الزور، واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله _ سبحانه _ على لسان رسوله أن من اقترب زوراً،

أو أتى من القول منكوراً، أن الله _ سبحانه _ في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه.

ريح المسك

يسمع الناس بحديث: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك،

وحديث كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به،

وحديث: الصيام جُنّة، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح؛

كيف تكون رائحة فم تَقَذَّر بتناول الأعراض والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟

وكيف يستاهل صيامٌ تَجهَّم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك _جلَّ جلاله_ ويتولى جزاءه بنفسه؟.

وكيف يكون الصيام جُنّة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه، وتدنس ذيلُه بقول الزور والتلبس بالآثام التي تهيء له في نار جهنم وطاءاً وغطاءاً؟.

نعم، لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم؛ فيستحقون هذه الكرامات.

ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل،

والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت،

ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس،

ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغمات صبيّها عند ما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية.

وإنه ليعظم في عينك الرجل باديء الرأي حتى تحسبه واحداً من رجال الأمة،

فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيآتها يحلِّلها لك تحليلاً كيماوياً ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى.

وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات، وتحسين العادات.

[كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم،

والمعنى أن الصوم لم يُفْرَض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم،

بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم.

وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره _أيضاً_ لا يلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته،

وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت.

تهوينُ العبادةِ الشاقةِ

وفائدة هذا التشبيهِ تهوينُ هذه العبادةِ الشاقةِ، وتخفيفُ وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛

لأن الأمور الشاقة إذا عُمِلت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطوق بعدتها.

[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] تصيرون أتقياء؛ فإن الصوم يقهر النفس، ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى،

وقد فسرت الجنّة في حديث الصيام جنّة بالوقاية والسترة من المعاصي؛ رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث.

أولهما: ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنّى _ عليه الصلاة والسلام _ عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين،

كما كنّى عن تنزيل الرحمة، وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة _ وللبخاري أبواب السماء_ وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين

وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة _ أيضاً _.

الهامش

(1) السعادة العظمى _ عدد14، 16 رجب 1322هـ المجلد الأول، ص268_271.

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_العادات_والعبادات

#محمد_الخضر_حسين

اسماء مقالات مميزة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية المجموعة الثانية

اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

 

Be the first to comment on "الصيام للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين"

تعليقك يثري الموضوع