العاطفة والتسامح في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين

العاطفة والتسامح في الإسلام

العاطفة والتسامح في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين

العاطفة والتسامح في الإسلام (1) للشيخ محمد الخضر حسين

يظهر الناس في نسق الائتلاف، وينهض بعضهم لإسعاد بعض على حسب ما يكون بينهم من الاتحاد، والتماثل في مسالكهم الحيوية، وأحوالهم النفسية من آراء وآداب،

بل تنعقد الألفة بين الرجلين؛ لتشابههما في بعض أحوال عارضة كغربة، وقد أشار إليها الشاعر العربي بقوله:

وكل غريب للغريب نسيب

وكون كل منهما مضطهداً لسلطة واحدة، أو غرضاً لمتحفز ينوي القبض على ناصيته.

تتقوى العاطفة بمقدار شدة التماثل وكثرة وجوهه، وتخف على قدر ضعفه وقلة مقوماته،

فالألفة التي ينتظم بها أولوا العلم والأدب مثلاً أمتن من الألفة التي تدور بين طائفة لا جامع بينها سوى الاشتراك في نسب أو صناعة:

عند الأَدِيْبِ قُرَابَة الأَرْحَامِ

وقُرَابَةُ الأُدباء يَقْصُرُ دُونَها

وعلى هذا المبدأ تقوم الرابطة الدينية، أو القومية، أو الوطنية، فيعطف الإنسان على من يدينون بشريعته، أو ينتمون إلى قبيلته، أو يَشُبُّون في وطنه.

والمثير لهذه العاطفة شعوره بوفاقهم له في كثير من مبادئه وتقاليده، وطَرْز حياته.

وإذا كانت العاطفة الدينية تتولد من الاتحاد في كثير من الأحوال النفسية والتقاليد العملية _ دخلت في جملة العواطف الفطرية،

أعني ما يقوم بالنفس من أسباب واقعية، دون أن يتوقف عن أمر الشارع، أو موعظة الخطيب.

وينبئك بكونها من الطبائع التي ترتسم في النفس لمجرد التوافق في العقيدة أو المسلك

أنَّك لا ترى أمة تنتحل ديناً، أو مذهباً اعتقدت حكمته إلاَّ وقد اشتبكت بينها أوصال التراحم،

ولو لم تتلقن من دينها أو مذهبها تعليم هذه العاطفة والحثَّ على تأكيدها؛

فمن تقلد ديناً، وادعى أنَّ عواطفه على شيعة هذا الدين وغيرهم في درجات متساوية _ فقد ادعى ما تأباه الفلسفة، ويرده الاختبار والتجربة.

فَلِسُلْطَان المغرب، الذي راسله صلاح الدين الأيوبي، طالباً منه المدد بالأساطيل لحماية ثغور الشام عاطفة دينية،

ولكنها كانت من الضعف بحيث أخمدها وأَطْفَأَ بارقتها أنَّ ذلك المجاهد العظيم خاطبه بأمير المسلمين بدل أمير المؤمنين الذي هو لقب الخلفاء،

فرد البعثة الصلاحية إلى مرسلها خائبة، ولم يبال بالسهام التي ترشقه بها أقلام المؤرخين، والحيرةُ في الجواب عندما تنصب لأمثاله الموازين.

حَذَّرَ الإسلام أنْ تتضاءل العاطفة الدينية، فيضيع كثير من حقائق الشريعة وعزة أهلها، فجاء بها يربيها، ويحييها في النفوس زاكية كقوله تعالى:

[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]الحجرات: 10،

وقوله عليه الصلاة والسلام: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.

ثم كرَّه أن تطغى كما طغت في نفوس أمم أخرى، فَتَحْمِلَها على التحيز إلى من يوافقها في الدين،

فتؤثره بحقوق غيره، وتَشُد أزره وإن كان مبطلاً،

فجاء بما يهذب حواشيها، ويسكبها في قالب عمراني يتمكن معه الشعب المسلم من معاشرة غير المسلمين،

فيعيشون على صعيد واحد ولواء السلام والعدالة الصادقة يخفق على رؤوسهم كما قال الله _ تعالى _:

[لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]الممتحنة: 8.

وكقوله _ تعالى _ في حق الوالدين: [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً]لقمان: 15،

فقد أرشدت الآيتان وما يُشَاكلهما إلى صحة معاشرة غير المسلمين، وإقامة معاملتهم على قواعد البر والعدالة،

ولكنها أذنت للمسلم إذا ابتغوا الخروج به عن سيرة الشرع المحكمة، وآدابه اللامعة، أَنْ يقبض يده عن وفاقهم، ويَلْوِي بعنقه عن طاعتهم،

وإن كانوا بمنزلة والديه اللذين هما أَشَد الناس به صلة، وأحقهم بامتلاك زمامه.

فالعاطفة الإسلامية لا تصادم غيرها من سائر العواطف الصحيحة،

فيستقيم للنفس الواحدة أنْ تحمل عاطفة تَحْنُو بها على من يسايرونها في طريق سعادتها الباقية،

وأُخْرَى تشفق بها على من نشأوا معها في منبت، أَو قاسموها القيام بمرافق الحياة الدنيا.

(1) مجلة البدر _ الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في منتصف شهر صفر سنة 1340هـ _ تونس.

#محمد_الخضر_حسين

تعليقك يثري الموضوع