اللغة والأمة للأستاذ محمد صادق عنبر

اللغة والأمة

اللغة والأمة للأستاذ محمد صادق عنبر : اللغة من الأمة كالقلب من الجسم: كلاهما ألطف شيء وأدقه، وكلاهما لا تكون بدونه الحياة.  وما من أمة خلعت دهراً لبسته، فخرجت بذلك من ماضيها،

اللغة والأمة للأستاذ محمد صادق عنبر

اللغة والأمة (١) للأستاذ محمد صادق عنبر

اللغة من الأمة كالقلب من الجسم: كلاهما ألطف شيء وأدقه، وكلاهما لا تكون بدونه الحياة.

وما من أمة خلعت دهراً لبسته، فخرجت بذلك من ماضيها،

وطفقت تعمل لحاضرها وتمهد لمستقبلها _ إلا كانت لغتها معقداً لهذه الأطراف الثلاثة من التاريخ؛

ذلك أن اللغة من مُشَخصات الأمة الناطقة بها؛

فما فرَّطت أمة في جانب لغتها إلا كان ذلك إيذاناً بفدح مصابها، أو إيذاناً بوشك ذهابها،

بل ليس هذا التفريط إلا انقطاعاً من سلك التاريخ، وما انقطعت أمة من سِلْكه إلا جهلته،

فكان مَََثَلُها مثلَ الرقيق الذي يألف من فقدان حريته أن يجهل حريته إذا مَلَكَ أمرَه؛

فهو إن لم يجد مالكاً يسخره كرهاً سخَّر نفسه طوعاً على أن يؤجر بمساك حياته؛

إذ تكون حريته مادة في معدته بعد أن كانت معنى روحانياً في فطرته.

أجل، إن اللغة وِصْلةٌ بين غابر وحاضر؛ فإذا ضاعت لغةُ أمةٍ انقطعت أواصر النسب بين السلف والخلف،

وفقدت الأمة بفقدان لغتها سجلها الحي؛ فالتوى لسانها الناطق، وسكن قلبها الخافق، وفي بعض ذلك كل الموت.

وأنت ألست ترى إذا ذهبت توازن بين أخطار الأمم أن أهونها على الدهر خطراً هي التي جهلت لغتها،

وما لغتها إلا لسان تاريخها؛ فلم تعد ترتبط من الزمان بصلة، وكان من الهيِّن على من يشاء أن يستلحقها

وهان عليها _ أيضاً _ أن تلتحق بكل تاريخ كما يلحق الخادم بكل من يستخدمه لا يميز بين سيد وسيد إلا بمقدار الأجر الذي يبيع به كرامته، ويشتري به مهانته.

أمتين ميتة

وهل تفرق بين أمة بليَ فيها لسانها، وأمة غابرة بليت عليها أكفانها، وكلتا الأمتين ميتة، إلا بأن الأولى لم يُشَقَّ لها قبر!

ألا إن اللغة تَرِكةُ الماضي، وغنى الحاضر، وميراث المستقبل،

وهذه الثلاثة الأزمنة هي كل أعمار الأمم في التاريخ؛ فما أرى إذا أضاعت أمة لغتها بأي شيء يشار إليها،

وبأي دلالة يُدَلُّ عليها، ولا أعرف إذا لم تتميز جنسية أمة بلغتها أي حد يفصل بينها وبين غيرها من الأمم.

ولقد علمنا أن لكل أمة شاهداً من لغتها على ما فطرت عليه من دِين،

ودوّن لها من تاريخ، وعرف عنها من نسب ومدنية وفنون، ففقدان أمة لهذه الثورة المعنوية اعتراف منها بسفاهتها، وبأنها في حاجة إلى القوَّام.

ولقد أراق الكتَّابُ كثيراً من المداد في بيان أن اللغة هي الأساس الذي يقام عليه بنيان الوحدة في كل جنس،

وأنها هي الصلة الحسية بين المتكلمين بها أفراداً، وصورة الحياة الاجتماعية عندهم تركيباً؛

وكفى في الدلالة على ما بين اللغة والأمة من علاقة وثيقة أنك لا تجد أمة في مكان من العزة مكين إلا حيث تجد لغة أهلها قائمة السلطان على الألسنة،

ولا تجد لغة عرضة لغائلة الحوادث إلا حيث تجد أمة عرضة لعوادي المقادير.

ألا إن اللسان من حيث هو مضغة مرآة للصحة، ومن حيث هو لغة مرآة للأمة؛ فأخلق بأمة تُسلم لغتها للفناء أن نقرأ عليها منذ الآن قصائد التأبين والرثاء.

الهوامش

(١) الحديقة 5/ 108_ 111، عام 1349هـ

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_اللغة_والأدب

#محمد_صادق_عنبر

اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

 

Be the first to comment on "اللغة والأمة للأستاذ محمد صادق عنبر"

تعليقك يثري الموضوع