دفاع عن الفضيلة للشيخ علي الطنطاوي

دفاع عن الفضيلة

دفاع عن الفضيلة للشيخ علي الطنطاوي مقال في الأخلاق عن دعاوى الحرية والابتذال في إخراج النساء وتشجيعهم على الاختلاط . دمشق وأثر ثقافة الفرنسيين على المسلمين

دفاع عن الفضيلة للشيخ علي الطنطاوي

هال بعض المصلحين منذ سنتين ما رأوا من فشوِّ التبرج والاختلاط في دمشق البلد العربي المسلم،

فقاموا يدافعون عن الفضيلة المغلوبة ويردُّن الرذيلة الغالبة، وانقاد إليهم الناس؛

لأن الكثرة الكاثرة من أهل دمشق لا تزال متمسكة بدينها،

ولا تزال نساؤها في الحجاب الساتر، ومشت الأمور في طريقها وكادت تصل إلى غايتها، ودعاة الفجور ينظرون ويتحرقون لولا أن دفعت الغيرة على الأخلاق الإسلامية،

والسلائق العربية بعض العامة إلى الدخول على النساء في السينما، وإخراجهنَّ منها وترويعهنَّ، وإلى التجوال في البلد ونصح كل متبرجة ووعظها وزجرها…

وقد أنكر العلماء وعقلاء البلد ذلك عليهم، فكفوا عنه وأقلعوا،

ولكن دعاة الفجور لم يرضهم أن تنتصر دمشق للفضيلة وأن تهدم عليهم عملهم على رفع الحجاب وإباحة الاختلاط؛

فاستغلوا عمل هؤلاء العوام وأعلنوا إنكاره، وكبَّروه وبالغوا في روايته، وذهبوا يقيمون الدنيا، ويبرقون البرقيات ويُرعدون بالخطب،

وما أهون الإبراق والإرعاد، وما أسهل إثارة الشبان الفاسقين على الستر والحجاب، باسم (الحرية الشخصية)

التي تمتع عيونهم بما وراء الحجاب من جمال، وتُنيلهم ما بعد حدود الفضيلة من لذائذ!

أيخرجون النساء من السينما؟ أيعرضون بالنصح للمتبرجات الكاشفات؟ يا للحدث الأكبر، يا للعدوان على الحرية الشخصية التي ضمنها الدستور!

أليست المرأة حرة ولو خرجت عارية؟ أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا؟ أليس كل امرئ حرَّاً ولو نقب مكانه في السفينة()؛
فأدخل إليها الماء؛ فأغرقها وأهلها؟!

كذلك فَهَم الحرية هؤلاء الجاهلون، أو كذلك أراد لهم هواهم،

وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن الحرية،

وهاجوا() بعض النواب، فجرب كل واحد منهم أن يتعلم الخطابة في تقديسها،

ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة؛ فساقوهم إلى المحاكم سوق المجرمين، وأدخلوهم السجون، وجرعوهم كؤوس المهانة،

حتى صار من يذكر السفور بسوء، أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى،

جرأة النساء

وصار النساء إذا رأين شيخاً في الطريق شتَمْنَه، وسخرن منه، وتوارى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء،

وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم،

وحسب أولئك أن الظفر قد تمَّ لهم، وأن أهل الدين قد انكسروا كسرة لا تجبر؛

فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون،

وكانت النتيجة أن انحطم السدّ، فطغى سيل الرذيلة وعمّ، وامتد في هاتين السنتين أضعاف ما امتد أيام حكم الفرنسيين الذين هم أفسق الناس.

وهذه حقيقة نثبتها بأسف وخجل، وكانت النتيجة أن ازدادت جرائم التعدي على العفاف، واستفحلت حتى رأيت في المحاكم من يتعدى على عفاف بنته وأخته، ومن يفجر بطفل رضيع،

وماذا يصنع هذا الوحش الذي أثارت (الحرية الشخصية) غرائزه فلم يجد إلا البنت والأخت أو الطفل الرضيع؟

وكانت النتيجة أن دمشق التي تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة شهدت في يوم عيد من أعياد الوطن،

بنات في السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، ترتج نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة.

وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل، وألبست لباس عروس، وركبت السيارة وسط الشباب _

قالوا: إنها رمز الوحدة العربية _.

ولم يدر الذين رمزوا هذا الرمز أن العروبة إنما هي في تقديس الأعراض لا في امتهانها.

ومشى الموكب أمام الناس وفيهم والد هذه البنت لا يستحي ولا يخجل،

وأخرى قالوا: إنها رمز سورية الأسيرة قد فكت قيودها، وأمثال هذا الهذيان الذي لا معنى له إلا استغلال العيد الوطني في هدم أركان الفضيلة، وتمزيق حجابها.

وأُخِذَت صور هذا كله؛ فنشرت في الجرائد، وعرضت في السينمات،

ثم ازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق حتى رأينا صور رجال منا مع نسائهم على (بلاج) الإسكندرية

منشورة في مجلة من المجلات التي لا تدع فرصة فيها تشهير بنا،

وفضح لنقائصنا إلا استغلتها، ثم ازدادت الجرأة حتى صارت مجلات دمشق تنشر صور العرايا،

فيشتريها الشباب لهذه الصور؛ لأنه ليس فيها ما تشترى له.

مستقبل الفضيلة

ثم… ثم ماذا؟ الله وحده الذي يعلم ماذا يكون _ أيضاً _ وإلى أين يبلغ بنا المسير؟.

وقد نزلت هذه الضربات على وجه الفضيلة متلاحقة متتابعة لا تصحو من واحدة حتى تحس بالأخرى،

وهم يريدون منا مع ذلك أن نسكت وألا نقول شيئاً؛ لئلا نشوِّه (زعموا) جمال العهد الوطني.

كلا، إن العهد الوطني هو الذي تنتصر فيه الفضيلة، ويسود الحق، ويحفظ العفاف، كلا، ولا كرامة،

إنها أعراض بناتنا وأخواتنا، ولو غير الأعراض لهاوَدْناكم عليها، ولكن لا هوادة في العِرْض!.

إنها حياة هذه الأمة: لا تحيا أمة بلا أخلاق، أفئن قامت فئة من العامة بما لا نرضى عنه، وانتهكت حرمة هذا الحرم الأقدس:

السينما، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات _ النساء المتبرجات _ نسكت كلنا عن نصرة الفضيلة إلى يوم القيامة؟!.

إن من الأمور ما يتفق عليه أبناء الملل كلها، وما يلتقي فيه أتباع الأديان جميعاً كما يلتقي سالكو شوارع مختلفة في ساحة من الساحات، ومن ذلك الدعوة إلى العفاف؛

إنها دعوة لا بد منها، فإذا لم يريدوها عن طريق الجمعية الغراء والمشايخ، فلتكن عن طريق غيرهم،

المهم أن يجهر بها جاهر ونحن معه مؤيدون له، ومحاربون لمن يحاربه، ونحن نريد الجوهر لا المظهر.

ثم ما هذه الحرية التي طبَّلتم لها وزوَّرْتم، وهوَّلْتم وعظَّمْتم، وجعلتم الاعتداء عليها كفراً بدين الحضارة والديمقراطيَّة،

أهي حرية المرأة أن تكشف ما تريد من جسمها متى أرادت وأين شاءت؟ أهي حرية ناظر المدرسة في أن يحوّل مدرسته إلى مرقص؟ أهي حرية الفسوق والعصيان؟.

أهذه هي الحرية المقدسة؟.

إنكم _ أيها السادة _ بين أمرين: إما أنكم تقولون ما لا تفهمون،

وإما أنكم تسترون بهذه الأسماء الحلوة أغراض نفوسكم ورغبات أجسادكم؟ وإلا فخبّروني أي أمة في الدنيا تصنع هذا الصنيع:

العرب؟ إن العرب أغْيَر الناس على الأعراض، وإن كلمة العرض في لسانهم لا يقابلها كلمة في ألسنة الأمم تترجم بها!.

المسلمون؟ إن الإسلام أمر بغض البصر، وستر العورة، ولعن الناظر إليها والمنظور!

الاقتداء بالفرنسيين ؟

الفرنسيون؟ إن الفرنسيين يكشفون أفخاذ الشباب في الملعب فعلام تكشفونها أنتم في سوق الحميدية وهو للبيع والشراء،

وفيه الرجال والنساء وهو كالموسكي في مصر، والشورجة في بغداد، ما كان قط ملعباً ولا ميدان كرة.

وإن الفرنسيين ينشؤون بيوتاً للهو واللذة، وبيوتاً للعلم، وأنتم جعلتم بيوت العلم بيوت لذة ولهو، وإن الفرنسيين كانوا يسترون سيقان الجند،

فلما استلمتم أنتم أمرهم كشفتم عن أفخاذهم().

الروس؟ إن الروس فصلوا بين الجنسين في المدارس لما رأوا بالتجربة أن الاختلاط لا يأتي بخير، وأنتم تسعون الآن بكل طريق لجمع الجنسين في المدارس.

العفاريت؟ الجن؟ فمن إذن؟ أنكون نحن بدعاً في الأمم نأخذ من كل واحدة شرَّ ما عندها،

ونريد أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليط من الشرور مركباً تركيباً مزجيَّاً، كحضرموت، إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة!.

لا، لم أرد أن أنحو في هذا الحديث نحو الخطابيات، ولم أنشئه لأخاطب به العواطف وحدها،

ولكن نحوت فيه نحو التدليل والتعليل، وقررت حقائق بأدلتها،

وأنا أدعو إلى مناظرتي فيه كل مخالف في رأسه عقل، وفي يده قلم، وفي فمه لسان.

ولم أوجه للمسلم وحده، بل لكل من قال أنا عربي، لا أخص مسلماً ولا مسيحيَّاً؛

لأن من صفات العربي التي تقوم عليها عروبته الشهامة والغيرة على الأعراض،

ومن ادعى العربية ولم تكن له على العرض غيرة، ولم يغضب لحرمة فهو كذاب دعي ليس بعربي.

وسيقول ناس من القراء: هذا رجل معروف بالدعوة إلى الرجعية فلا تسمعوا له؛ إنه يريد أن يعود بنا إلى الوراء، ونحن نريد أن نتقدم.

وهذا كلام لا يناقش ولا يرد عليه، إنما يناقش كلام مؤيد بحجة،

إنما يدفع اعتراض قائم على منطق، إنما يقرع الدليل، فهل في هذا الكلام حجة أو منطق أو دليل؟.

ماهية الرجعية

إنهم حفظوا كلمات فهم يرددونها لا يحاولون فهم معناها،

يقولون: رجعيَّة، وما الرجعية؟ هي الرجوع إلى الماضي، أي إلى أخلاقه وعاداته؛

فما يمكن أن يرجع إلى زمان مضى، فهل الرجوع إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفع أو ضرر؟ وهل يكون الداعي إلى تلك الأخلاق مصلحاً أو مفسداً؟.

هذه هي الرجعية!.

هي رجوع إلى الدين، أفترجع فرنسا إلى دينها، أي إلى كاثوليكيتها،

ويظفر الحزب الديني فيها بأكثر مقاعد المجلس النيابي،

فلا ينكر عليها أحد، ولا يتهمها بالتأخر، ولا يصمها بالجمود، ونطلب نحن العودة إلى ديننا الحق،

فيقول السفهاء: إنا متأخرون جامدون؟.

لا، هذا كثير! هذا كفر بالمنطق، وتعطيل للفكر، وإلحاد في المدينة، هذا شيء نستحي من الأمم أن يكون فينا من يقوله!.

ونحن إذ ننتقد شيئاً نبيِّن أضراره، فبينوا أنتم منافعه، حتى إذا وجدنا المنافع أكثر أخذنا به،

ولو حملنا معه شيئاً من الضرر، ونحن نعلم أنه ليس في الدنيا خير محض ولا شر محض،

وإن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما، فلذلك حُرِّما.

فتعالوا نتناظر!.

إنه لا بد في كل مناظرة من مبادئ يتفق عليها الطرفان؛

ليعودا إليها، ويرتكزا عليها، وما المنطق إلا رد الفروع إلى هذه الأصول،

فإذا كان المتناظران مختلفين في كل شيء، يرى هذا أن العفاف نافع، فيقول الآخر بل هو ضار،

ويدعي هذا أن اتباع الدين واجب فينكر الآخر هذه الدعوى،

ويرى هذا العمل على منع الفجور، ويرى ذاك العمل على نشره فلا يمكن أن يكون بينهما كلام؟.

فلنتفق أولاً على الأصول:

هل العفاف وقصر الاتصال الجنسي على المشروع منه خير أم شر؟.

هل قيام المرأة على تربية أولادها بنفسها وإخلاصها لزوجها وبيتها خير أم شر؟.

هل مراقبة الله، وخوفه وتمسك كل امرئ بفضائل دينه خير أم شر؟.

هذه ثلاث مسائل أطلب الجواب عليها.

غرور وازدراء

وإنه ليكون غروراً مني وازدراءاً للخصوم والقراء إذا افترضت أنهم يرون هذه الأمور شرَّاً، وحاولت إقامة البراهين على أنها خير،

وأتعبت نفسي والقراء في إثبات هذا الأمر الذي أظنه ثابتاً عند العقلاء جميعاً،

وإني أؤجل هذا الإثبات إلى حين الحاجة إليه، وأبني المناظرة على هذه الأسس الثلاثة.

فتفضلوا قولوا، هل هذا الذي نحن فيه يحفظ علينا عفافنا أم هو يضيّعه علينا؟

هل يعمر بيوتنا أم يقوّضها على رؤوسنا؟ هل يرضي ربنا أم يسخطه علينا؟ هل يجعلنا أمة قوية أم هو يذهب بقوتنا؟.

وإذا سلمنا جدلاً بأن من الخير مشاركةَ الطالبات الطلاب في أفراح الجلاء،

فهل يشترط في هذه المشاركة أن يكشفن سيقانهن وأفخاذهن، وأن يُنتخَب لها الجميلات منهن لا النابغات ولا المجدات ولو كن قبيحات،

وإذا لبسن الجوارب الساترة والثياب الطويلة أيبطل رواء العيد وتذهب بهجته؟ أم أنتم تريدون النظر إلى أفخاذهن بحجة المشاركة في أعياد الجلاء؟.

وإذا حسُن أن نقوي بالرياضة أجساد الطالبات، فهل يشترط في هذه التقوية أن يختلطن بالرجال؟.

لا والله، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي، إنكم لا تريدون الصحة، ولا الرياضة، ولا المشاركة بالعيد،

إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحة؛ إنكم لصوص أعراض،

ولكن ليس الحق عليكم، الحق علينا نحن آباء الطالبات والطلاب؛

فنحن عُميان لا نبصر، خُرسان لا ننطق، حمير لا نغار، وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل،

على لسان داود وعيسى بن مريم.

اللهم لقد بلغت، اللهم لقد أنكرت المنكر.

اللهم لا تنزل علينا لعنتك، ولا تحلل بنا غضبك.

الهامش

(1) نشرت عام 1946م، انظر كتاب (في سبيل الإصلاح) ص88_94.

(2) إشارة إلى الحديث المشهور.

(3) أي هيَّجوا.

(4) وما أستحسن عمل الفرنسيين، ولكن أقيم الحجة على المخالفين.

#علي_الطنطاوي

#مقالات_عربية_رائعة

مقالات عربية رائعة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية (٣)

تعليقك يثري الموضوع