القضاء العادل في الإسلام للشيخ العلامة محمد الخضر حسين

القضاء العادل

القضاء العادل في الإسلام للشيخ العلامة : محمد الخضر حسين ، جاء هذا المقال موضحاً آهمية القضاء

وأثر اختيار القاضي العادل على استقرار الناس وإقامة العدل فيهم وما يترتب على ذلك من تمكين الرعية من تحقيق شعائر الدين في أمن وأمان وكيف تكون علاقة الحاكم أو الخليفة بالرعية في ظل توفر القضاء العادل

القضاء العادل في الإسلام للشيخ العلامة: محمد الخضر حسين

القضاء العادل في الإسلام(1) للشيخ العلامة: محمد الخضر حسين

الشيخ محمد الخضر حسين

الشيخ محمد الخضر حسين

أحاط الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً , فدل على كل ضرب منها دلالة تقوم بها الحجة , وتَقْطَع عن الناس عُذْرَ الجهلِ به.

وله في هدايته درجات, فقد يرشد إلى الشيء دون أن يلهج به, أو يُلْحِفَ في الترغيب فيه,

حيث يكون سهل المأخذ على النفس, أو يكون في طبيعة البشر ما يسوق إليه, كإحسان الوالد لولده, والسعي في الأرض؛ لابتغاء الرزق.

وقد يكون في الأمر ثقل على النفس، وصرف لها عن بعض شهواتها, فلا تكاد تقبل عليه إلا بعزم صميم,

ونظر في العواقب بعيد, كإقامة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد.

وهذا ما يأمر به المرة بعد الأخرى, ويسلك في الدعوة إليه أساليب شتى؛

حتى يأخذ إليه النفوسَ على تفاوت هممها، واختلاف رغائبها, وكذلك ترى مسلكه في الدعوة إلى العدل في القضاء.

يتقدم الخصمان إلى القاضي وكثير ما يجد في نفسه ميلاً _ شديداً أو ضعيفاً _ إلى أحدهما, يميل إليه؛

لنحو قرابة, أو صداقة, أو وجاهة, أو غنى, أو يميل إليه؛ لأنه فقير, أو ضعيف, أو خصم لمن يناوئه .

وقلما استطاع القاضي في هذه الأحوال أن يضع الخصمين من نفسه في درجة واحدة إلى أن يفصل في القضية بما أراه الله من الحق.

تلك العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية هي في حكم المعفو عنه

إلا أن يكون لها في رجحان أحد الخصمين على الآخر أثرٌ غيرُ ما تقتضيه البينةُ, وأصولُ الحُكْمِ .

شأنُ تلك العواطفِ أن تجاذبَ القاضيَ, وتناجيَه أن يَنْحُوَ بالحكم نحوَ منفعةِ المعطوف عليه,

وعلى قدر العطف تكون هذه المجاذبة والمناجاة,

ومتى قَوِيتا في نفس لا تخاف مقاَم ربِّها, ولم تكن على بصيرة مما في لباس العدل من زينة وفخار_ نبذت الحق وراء ظهرها,

وانحدرت مع عاطفتها إلى هاوية الظلم, وما هاوية الظلم إلا حفرة من النار.

العواطف الجاذبة وأثرها على القضاء العادل :

هذه العواطف التي تجاذب القاضي, وتناجيه

أن يُرْضِيَ خصماً بعينه تجعل العدل في القضاء من قبيل ما يثقل على النفس, ويجمح عنه الطبع؛

فكان من حكمة الدعوة الإسلامية أن تُعْنى به عنايةً صافية, وتَدْخُلَ إلى الترغيب فيه من أبواب متعددة.

عُنيت الشريعةُ بالعدل في القضاء عنايتَها بكل ما هو دَعامةٌ لسعادة الحياة؛

فأتت فيه بالعظات البالغات : تُبَشِّرُ مَنْ أَقامَه بعلو المنزلة, وحسن العاقبة,وتُنْذِرُ مَنِ انحرف عنه بسوء المنقلب, وعذاب الهون.

فمن الآيات المنبهة لما في العدل من فضل قوله _ تعالى _: [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ].

فقد أمر بالعدل, ونبه على أن خيراً عظيماً ينال الحاكم بالقسط هو محبة الله له,

وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا والعيشة الراضية في الأخرى.

ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله _ تعالى _ قوله “”:

إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن _ عز وجل _ وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (2).

وفي ذكر الرحمن تربية للرجاء والثقة بأنَّ الحاكم العادل يجد من النعيم ما تشتهيه نفسه، وتلذه عينه،

شأن مَنْ يكون قريبَ المنزلة من ذي رحمةٍ وسعت كلَّ شيء.

وإن شئتَ مثلاً من آيات الوعيد فانظر قوله _تعالى_:

[يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ].

تجد الآية تنادي بأن الفَصْلَ في القضايا جرياً مع الأهواء ضلالٌ عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله مُلْقٍ في شديد العذاب.

ومن ذا الذي يستخف بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع من هذه الحياة؟

إلا من سفه نفسه، ولم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلبه.

القضاء العادل : أثر بليغ في النفوس:

فلهذه الآية أثر بليغ في النفوس المطمئنة بالإيمان،

كان أحمد بن سهل جاراً لقاضي مصر بكار بن قتيبة،

فحدث أنه مرَّ على بيت بكار في أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية،

قال: ثم قمت في السحر فسمعته يقرؤها ويرددها؛

فلا عجب أن يكون بَكَّارٌ هذا من أعدل القضاة حكماً، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفاً.

ومن الأحاديث الواردة في الوعيد على الجور في القضاء قوله “”: من ولي من القضاء فقد ذبح بغير سكين (3)

ففي هذا الحديث تمثيل القاضي إذ يلاقي جزاءه في الآخرة بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين.

وهذا حالُ مَنْ يكون حظُّه من علم القضاء بخساً، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهياً.

ويصح حمل الحديث على معنى الإشارة إلى صعوبة القضاء،

حتى كأن القاضي مِنْ أجلِ ما يلاقيه مِنْ تَعَرُّفِ الحق وتنفيذه مِنْ مكاره ومجاهدةٍ للأهواء _ مذبوحٌ بغير سكين.

وهو بعد هذا مُشْعِرٌ بسمو منزلة القضاء؛

إذ كان القاضي العادل يضاهي القتيل في سبيل الله بما انقطع عنه من شهوات، وقاساه من آلام؛ يبتغي أجر الله، والله عنده أجر عظيم.

ومما جمع بين الوعد والوعيد قوله “”:

القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة،

ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار (4)

وَصَفَ هذا الحديثُ عاقبةَ مَنْ يقضي بالحق على بينة منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة مَنْ يقضي على جهل أو جور، وهي المصير إلى النار.

ولا يتناول هذا الوعيدُ العالمَ بأصول الشريعة يجتهد رَأْيَهُ فلا يُصيب الحق، ويقضي بما رأى.

“قرأ الحسن البصري قوله _تعالى_:

[ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً… الآية](الأنبياء:78_79).

وقال: لولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أنَّ القضاة هلكوا؛ فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.

القضاء العادل : الفوز في العدل:

وصف الإسلام ما في العدل من فوز، وأعلن بما في الحيف من شقاء،

وكان قضاؤه “” المثل الأعلى لصيانة الحقوق، والتسوية بين الخصوم،

ويكفي شاهداً على هذا أنَّه “” أراد إقامة الحد على امرأة مخزومية سرقت، فخاطبتْ قريشٌ أسامةَ؛ ليكلم رسول الله “” في إسقاط الحد عنها

فقال _ صلوات الله وسلامه عليه _: أتشفع في حد من حدود الله !

ثم قام؛ فخطب قال: يا أيها الناس إنما ضلَّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد،

وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .

رسم _ عليه الصلاة والسلام _ طريقَ العدلِ في القضاء قَيِّمَةً غيرَ ذات عوج، وزادها بسيرته العملية وضوحاً واستنارة؛

فاستبانت لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديها الحكيم، وأروا الناس القضاء الذي يزن بالقسطاس المستقيم؛

انظر إلى قول عمر بن الخطاب  في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: آس(5) بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛

حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك .

كان للإسلام وسيرةِ الذين أوتوا العلم من رجاله أثرٌ في إصلاح القضاء كبيرٌ،

ولا تُشْرِقُ المحاكم بنور العدل إلا أن يمسك زمامها رشيدُ العقل، راسخ الإيمان بيوم الفصل.

فتقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة؛ حتى يتعرف الحق، ولا يأخذ بأول ما يلوح له من الفهم،

وإن تيقنَ أن قضاءَه نافذ، وما له في الرؤساء من مُعَقِّب.

ومن أمراء الأندلس من كان يعزل القاضي متى رأى منه السرعة في فصل القضايا التي تستدعي بطبيعتها شيئاً من التروي؛

إذ يفهم من هذه السرعة عدمَ تحَرُّجِه من إثم الخطأ في الحكم.

وتقوى الله هي التي تقف القاضي في حدود العدل: لا يخرج عنها قيد أنملة في حال.

قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: ألا تؤلف كتاباً في أدب القضاء؟ فقال:

اعدل، ومد رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام؟ .

الصرامة في تنفيذ الحقوق من القضاء العادل :

وفي سيرة أبي عبدالله محمد بن عيسى أحد قضاة قرطبة أنه التزم الصرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيان في السر،

والصدع بالحق في الجهر، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهنَ ذا مرتبة،

ولا أغضى لأحدٍ من أرباب السلطان وأهله، حتى تحاموا حِدَّةَ جانبه، فلم يجسر أحدٌ منهم عليه .

ونقرأ في وصف إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي أحد قضاة مصر أنه كان لا يَقْبَلُ رسالة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً .

وامتُحِنَ عبدُالله بن طالب _ أحد قضاة القيروان _ فكان يقول في سجوده وهو في السجن:

اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، ولا خفت فيك لومة لائم .

ووصف المؤرخون محمد بن عبدالله بن يحيى _ أحد قضاة قرطبة _ بأنه لم يداهن ذا قدرة، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان،

ولم يطمع شريف في حيفه، ولم ييأس وضيع من عدله، ولم يكن الضعفاء قطُّ أقوى قلوباً ولا ألسنة منهم في أيامه .

ومن القضاة العادلين مَنْ تُطْرح بين يديه قضية يدلي فيها أحد الخصمين بشهادة الخليفة نفسه، فيرد الشهادة في غير مبالاة،

شهد السلطان با يزيد عند شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي الأستانة في خصومة رُفعت إليه، فرد القاضي الشهادة،

ولما سأله السلطان عن وجه ردها قال له:

إنك تارك للجماعة، فبنى السلطان عند قصره جامعاً، وعين لنفسه فيه موضعاً، ولم يترك الجماعة بعد ذلك.

ورفعت قضية إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة أحد الخصمين فيها سعيد الخير عم الخليفة عبدالرحمن الناصر،

وأقام سعيد بيِّنةً أحدُ شهودِها الخليفةُ نفسه، ولما قدم كتاب شهادة الخليفة إلى القاضي نظر فيه ثم قال لوكيل سعيد:

هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل .

فمضى سعيد إلى الخليفة، وجعل يغريه على عزل القاضي، فقال الخليفة: القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم،

ولست _ والله _ أعارضه فيما احتاط به لنفسه ولا أخون المسلمين في قبض مثله . (٣٠٧)

القضاء العادل . رد شهادة الخليفة:

ولما سُئل ابنُ بشير عن رد شهادة الخليفة قال: إنه لا بد من الأعذار في الشهادة،

ومن الذي يجترئ على القدح في شهادة الأمير إذا قبلت! ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه .

فالإسلام يلقن القاضي أنه مستقل ليس لأحد عليه من سبيل،

وقد قص علينا التاريخ أنَّ كثيراً من القضاة العادلين

كانوا لا يتباطؤون أن يحكموا على الرئيس الذي أجلسهم على منصة القضاء حكمهم على أقصر الناس يداً، وأدناهم منزلة.

قال ابن عبدالسلام يصف القضاة العادلين: وربما كان بعضهم يحكم على من ولاه، ولا يقبله إن شهد عنده .

وقال المقري يصف القضاء في الأندلس: أما خطة القضاء في الأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة؛

لتعلقها بأمور الدين وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي .

وحكم ابن بشير قاضي قرطبة على الخليفة عبدالرحمن الناصر في قضية رفعها عليه أحد المستضعفين من الرعية،

وأبلغ الخليفة الحكم مقروناً بالتهديد بالاستقالة من القضاء إذا لم يُسلِّم الحكم، ويبادر إلى تنفيذه.

ومن القضاة العادلين مَنْ يرمي بالمنصب في وجه الدولة إذا أخذ بعض رجالها يتدخل فيما يرفع من خصومات،

فعل هذا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر حين تخاصم إليه رجلان،

وأمر بكتابة الحكم على أحدهما، فتشَفَّع المحكوم عليه إلى الأمير،

فأرسل إليه الأمير يسأله الرجوع، فقال: لا أعود إلى ذلك أبداً، ليس في الحكم شفاعة.

وفعل هذا برهان الدين بن الخطيب بن جماعة أحد قضاة مصر، عارضه محب الدين ناظر الجيش في قضية،

فقال: لا أرضى أن أكون تحت الحجر، وصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه، وأغلق بابه،

فبلغ أمره الملك الأشرف، فانزعج وما زال يسترضيه حتى قبل، واشترط أشياء تلقاها منه بالإجابة.

القضاء العادل : إرضاء القاضي العاقل :

والرئيس الناصح يكبر القاضيَ الذي يأنس منه استقامة، ويعمل لإرضائه؛ حتى يصرفه عن الاستقالة.

أرسل أبو عبيد قاضي مصر أبا بكر بن الحداد إلى بغداد؛ ليستعفي له عن القضاء، فأبى الوزير علي بن عيسى بن الجراح أن يعفيه وقال:

ما أظنه إلا أنه كره مراقبة هلال بن بدر؛ لأنه شابٌ غِرٌّ لا يعرف قدره؛ فأنا أصرف هلالاً، وأولي فلاناً وهو شيخ عاقل يعرف قدر القاضي .

والرئيس العادل يعجب بالعالم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم، وتجرده من كل داعية غير داعية ظهور الحق،

ويدعوه هذا الإعجاب إلى إقامته قاضياً بين الناس؛ أخذ عمر بن الخطاب ÷ فرساً من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب،

فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح القاضي،

فقال شريح: أخذته صحيحاً سليماً، فأنت ضامن له حتى ترده صحيحاً سليماً،

قال الشعبي _وهو راوي القصة_ فكأنه أعجبه؛ فبعثه قاضياً.

ولصعوبة القضاء من ناحية التثبت من الحق أَوَّلاً، والقدرة على تنفيذه ثانياً _ أبى كثير من العلماء الأتقياء أن يقبلوا ولايته،

ورفضوها بتصميم يخشون أن يعترضهم في التنفيذ ما لا طاقة لهم بدفعه، أو يخشون الزلل عند النظر في بعض النوازل،

وتَعَرُّف أحكامها؛ فإن إدراج الوقائع الجزئية تحت الأصول الكلية عسير المدخل؛ لكثرة ما يحوم حوله من الاشتباه؛

فكثير من الجزئيات تحتوي أوصافاً مختلفةً، وكلُّ وصفٍ ينزع إلى أصل،

وقد يكون في الأصل الذي هو أَمَسُّ بالواقعة خفاءٌ لا ينكشف إلا أن يرددَ القاضيْ الألمعيُّ نظره، ويجهد في استكشافه رَوِيَّتَه.

عرض هارون الرشيد على المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث قضاءَ المدينة بجائزة قدرها أربعة آلاف دينار،

فأبى، وقال: لأن يخنقني السلطان أحب إلي من القضاء.

القضاء العادل : إلزام العالم الكفؤ بالقضاء:

ومن العلماء من يأبى قبولها، ويكون الأمير ممن يقدر قدره، ويراه أقدر أهل العلم على القيام بها؛ فيهدده بالعقاب، أو يسومه العذاب؛ ليكرهه على قبولها،

ومنهم من يقبلها بعد التهديد البالغ، مثل عيسى بن مسكين أحد الفقهاء بالقيروان؛

عرف الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب من زهده في المناصب أنه يأبى ولاية القضاء،

فأحضره وقال له: ما تقول في رجل جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء، وألم به شعث هذه الأمة فامتنع؟

قال له عيسى بن مسكين: يلزمه أن يلي، قال: تَمَنَّع، قال تجبره على ذلك بجلد، قال:

قم فأنت هو، قال: ما أنا بالذي وصفت، وَتَمَنَّع حتى أخذوا بمجامع ثيابه، وقربوا السيف من نحره، فتقدم لها بعد أمر خطير.

ولارتباط سعادة الأمة باستقامة القضاء جاز للرئيس الأعلى متى رأى في أهل العلم من هو أدرى بمسالكه، وأقدر على القيام بأعبائه _ أن يكرهه على ولايته بالوسائل الكافية،

قيل للإمام مالك: هل يُجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: لا، إلا أن لا يُوجد منه عوض فيُجبر عليه، قيل له: أيُجبر بالضرب والسجن؟ قال: نعم.

وطلب ابن الأغلب أمير القيروان الإمام سحنون لولاية القضاء فامتنع، وبقي نحو سنة يطلبه لها وهو يمتنع،

حتى قال له حالفاً: لئن لم تتقدم لها لأقدمن على الناس رجلاً من غير أهل السنة؛ فاضطره هذا الحلف إلى قبولها.

ومن العلماء من يُطلب للقضاء فلا يُجيب إلا على شرط يصعب على رجال الدولة قبوله،

ولا يسعهم إلا أن يتركوه، طلبوا أبا محمد بن أبي زيد لقضاء القيروان، وقطعوا دون قبوله كل عذر؛

فشرط عليهم أن يجعلوا لمن بين يديه من الأعوان ما يقوم بكفايتهم من بيت المال بحجة أن من واجب السلطان أن يوصل لكل ذي حقٍّ حقه،

وليس على صاحب الحق أن يُعطي من حقِّه شيئاً(6)، فاستكثروا ما يُنفق في هذا السبيل، وتركوه.

القضاء العادل : الاعتزاز بالعلم والزهد :

وإن شئت مثلاً يريك الاعتزازَ بالعلم والزهد في المناصب إلا أن يتيقن السير بها في استقامة _ فإليك قصةَ زيادِ بن عبدالرحمن:

دعاه هشام عندما تولى الخلافة بالأندلس إلى القضاء،

فأبى، وبعث إليه الوزراء، فلم يتخلص منهم حتى قال لهم: عليَّ المشيُ إلى مكة إن وليتموني القضاء،

وجاء أحد يشتكي بكم _ لآخذن ما بأيديكم، وأدفعه إليه، وأكلفكم البينة؛ لما أعرفه من ظلمكم؛ فعرفوا أنه سيفعل ما يقول؛ فتركوه.

وعناية الإسلام بالقضاء رَفَعَتْهُ إلى درجة أفضل الطاعات؛

فمن سار فيه على بينة وهدى كانت الأوقات التي يشغلها بالنظر في النوازل، وإعداد الوسائل لساعة الفصل أوقاتاً معمورة بالعمل الصالح،

كافلة لصاحبها الكرامة في الدنيا، والفوز في الأخرى.

ولهذا ترى بعض العلماء يتقلدون القضاء، ويأبون أن يأخذوا عليه رزقاً.

ومن هؤلاء العلماء الزاهدين أبو القاسم حماس بن مروان

ولاه زيادة الله ابن الأغلب قضاء إفريقية فتولاه وأبى أن يأخذ عليه أجراً وكانت أيامه أيام حقٍّ ظاهر، وسنة فاشية، وعدل قائم .

وكان سحنون قاضي إفريقية لا يأخذ لنفسه رزقاً ولا صلة من السلطان، وإنما يأخذ لأعوانه وكتابه من جزية أهل الكتاب

ومن أبى أخذ الأجر على القضاء فليدخر ثوابه كاملاً عند الله، أو لأنه كان في غنى، وليس في أهل العلم من يكفي كفايته، فتكون ولايته من قبيل القيام بفرض عين،

ومن تعين عليه القضاء وهو في بسطة من المال فهو الذي لا يُجيز له الفقهاء أن يأخذ على ولايته عوضاً.

حقيقةً إن الإسلام بنى القضاء على أسس محكمة، ونظم صالحة،

وأخرج للناس قضاة سلكوا إلى العدل في الحكم، والحزم في التنفيذ مسلكاً هو أقصى ما يستطيعه البشر،

وأرقى ما يجده الباحث في القديم والجديد؛ فإذا وفقت الدول الإسلامية لأن تربي رجالاً مثل من وصفنا علماً وجلالة _ أمكنها أن تحتفظ بروح

العدل الذي لا يجري إلا على يَدِ مَنْ تفقه في كتاب الله وسنة رسوله، واهتدى بحكمتهما إلى أنَّ الدنيا متاعٌ، وأن الآخرة هي دار القرار.

 

نهاية المقال : القضاء العادل

#المقالات_المختارة

#مقالات_في_السياسة_والإجتماع

#محمد_الخضر_حسين

 

الهوامش

هوامش مقال القضاء العادل

__________________________________________________

(1) رسائل الإصلاح 1/28_37.” 1 143

(2) صحيح الإمام مسلم.” 1 145

(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه.

(4) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم.” 1 146

(5) آس: أي سوِّ بينهم، واجعل كل واحد أُسْوَةَ خصمه.” 1 147

(6) نص على هذا ابن رشد في كتاب البيان،

وعمل القضاة جار على غير هذا وهو أنَّ أجرة العون على طالب الحق.” 1 152

 

المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية

المكتبة العربية الكبرى

Be the first to comment on "القضاء العادل في الإسلام للشيخ العلامة محمد الخضر حسين"

تعليقك يثري الموضوع