فوائد تتعلق بالمنهج .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم

فوائد تتعلق بالمنهج

فوائد تتعلق بالمنهج .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم

ثالثاً : فوائد تتعلق بالمنهج .

اللغة الإنجليزية (مثلا) فيها حروف تكتب ولا تقرأ ، وحروف تقرأ وهي غير مكتوبة ، وحروف تقرأ مرة شيئا ، ومرة شيئا آخر ، ولابد لكل طالب لهذه اللغة من أن يتعلم كيف يكتب كل كلمة فيها ثم يتعلم كيف تلفظ ،

وهي بعد لغة سماعية ، لا يطرد فيها قياس ، ولا يعرف لها قاعدة ، ومخارج حروفها عيبه ، وألسنة أهلها ملتوية ، ثم إنها لغة ليس لها نسب ثابت ، ولا أصل معروف ، ولا يفهم إنجليزي اليوم كلام الإنجليز في عصر المعري والشريف الرضي ، فضلا عن عصر امرئ القيس وزهير .

وألفاظها لإمامة من الطرق ، من كل لغة كلمة ، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فرنسية وكلمات من العربية .

وهي على هذا الضعف ، وعلى هذا العجز ، وهذه المعايب كلها ، قد سمت بها همم أهلها ، حتى فرضوها على ربع أهل الأرض ، وأنطقوهم بها .

ولغتنا العربية ، وهي أكمل لغات البشر ، وأجودها مخارج ، وأضبطها قواعد ، ذات القياس المطرد ، والأوزان المعروفة ، قد أضاعها أهلوها وأهملوها ، لم يكفهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس كما فعل أجدادهم من قبل ،

بل هم قد تنكروا لها ، وأعرضوا عنها ، وجهلها حتى كثير ممن يدرسها ، وجهلها حتى كثير ممن يدعون الأدب فيها وأين اليوم من أدباء العربية كلهم من يروي من الشعر مثل رواية الشنقيطي ؟

أو يعرف من علوم العربية مثل معرفة حمزة فتح الله ؟ أو يتذوقها ويكتب فيها مثل كتابة الرافعي ؟ أو يحفظ من نوادر نصوصها مثل حفظ النشاشيبي ؟ وإذا ولى إذا (بعد عمر طويل) هؤلاء النفر من أدباء مصر وكتابها ، فمن يبقى المرجع في اللغة وعلومها ؟ .

العربية في خطر يا أيها العرب ، العربية في خطر يا من يعتز بالقومية ، إن اللغة هي ركن القومية الركين ولقد عملت في بناء حضارتنا عوامل مختلفات منذ عهد العباسين ، ودخلت فيها (في الفكر وفي العادات ) ، عناصر أجنبية يونانية وفارسية وهندية ،

ولكن بقي الدين إسلاميا خالصا ، وبقيت اللغة عربية خالصة ، فملكنا نحن هذا كله ولم يملكنا وكان من أبناء هذه الشعوب غير العربية ، علماء في ديننا ، وأئمة في لغتنا وأديبا : شهراء وكتاب ، في لساننا ،

ولم يخل عصر من العصور ، أئمة في اللغة وحفظة لها من عصور الانحطاط التي توالت علينا منذ القرآن الثامن الهجري إلى أن أشرق فجر النهضة الجديدة .

وفي هذه العصور ألفت أكبر المعاجم اللغوية ، (لسان العرب) و (شرح القاموس) وهذه أول مره تتعرض فيها العربية إلى هذا الخطر ، وهو أن تفقد الإمام اللغوي .

ومن ظن أني أتشاءم أو أبالغ ، فإني أعود فأسأله أن يدلني على إمام في العربية ضليع فيها ، يخلف هؤلاء النفر الباقين من شيوخ الأدب في مصر ؟ .

لقد كدنا نجهل لغتنا ومن شك فليمتحن نفسه ، فليفتح لسان العرب وليقرأ فيه عشرة أبيات متتابعة من شواهده ، من أي صفحة شاء ، فإن فهمها كلها ، واستطاع أن يشرحها ، أو فهم نصفها أو ربعها واستطاع أن يشرحه ، فأنا المخطئ ومن يرد عليٌ هو المصيب .

أنا لا أطلب أن يكون فينا من يؤلف مثل الكامل وأدب الكاتب والأمالي ، بل أطلب أن يكون فينا من يقرؤها بلا لحن ، ويفهم ما فيها بلا شرح .

أن اللغة العربية معجزة الذهن البشري ، وأعجوبة التاريخ في عصوره كلها ، وإذا كان التاريخ يذكر ولادة كل لغة ، ويعرف مراحل نموها ، ومدارج اكتمالها ، فإن العربية أقدم قدما من التاريخ نفسه فلا يعرفها إلا كاملة النمو ، بالغة النضج .

فمتى ولدت ؟ ومتى كانت طفولتها ؟ ومتى تدرجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكملة لم تحتج إلى تبديل أو تعديل ؟ بل لقد أكدت بما زاد عنها من ألفاظها أكثر لغات الأرض . ففي كل لغة منها أُثر .

هل في الدنيا لغة يستطيع أهلها اليوم أن يقرؤوا شعرها الذي قيل من أربعة عشر قرنا فيفهموه ويلذوه كأنه اليوم ؟

هل في الدنيا لغة يستطيع أستاذ الطب في الجامعة وأستاذ الطبيعة ، وأستاذ الفلسفة ، أن يجد في ألفاظها التي كانت مستعملة قبل أربعة عشر قرنا ما يفي بحاجته اليوم ، في القرن العشرين ؟

أفليس حراما أن نضيع هذه اللغة الأصيلة العظيمة ، ويفرض الإنجليز لغتهم التي لا أصل لها على ربع العالم ؟ أليس حراما أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللسن والبيان ويلحنوا فيها ؟

أليس حراما أن يكون فينا من الخوارج على لغتنا من ينصر العامية المسيخة أو يكتب بها ؟

أليس حراما أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية الفرنسية والإنجليزية ننطق بها تظرفا أو تحذلقا وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها وتقوخم مقامها ؟

فيا أيها العرب لغتكم . لغتكم يا أيها العرب ، تعلموها وحافظوا عليها وانشروها .

إن أمامكم اليوم فرصة لنشر العربية إذا =أضعتموها لم تلقوا مثلها خلال ألف سنة . فرصة تستطيعون أن تكسبوا بها ثمانين مليونا آخر يتكلمون العربية ويتخذونها لسانهم .

تقولون : أين هذه الفرصة ؟

في باكستان سادة ، في باكستان والهند .

إن نصف الباكستانيين في باكستان الغربية ، ونصفهم في باكستان الشرقية ، واللغة هنا الأوردية ، وهناك البنغالية .

والأوردية أكثر ألفاظها عربية وفارسية وتكتب بالحروف العربية ، والبنغالية أكثر ألفاظها هندية وتكتب بالحروف السنسكريتية ، ولا يمكن اتخاذ واحدة منهما لغة رسمية .

ولا بد من اتخاذ إحدى اللغتين لغة رسمية : العربية ا, الإنجليزية .

ولد كنت هناك عند وضع الدستور .

وكنت أرى هذا الجدال على اختيار إحدى اللغتين وكنت أخشى أن تضيع الفرصة ، ولقد كتبت إلى الحكومات العربية وإلى الهيئات العربية ، وأخجل أن أقول إني لم أجد مجيبا .

وقد أجلت المسألة ولم تضع الفرصة . فهل نعود فنستفيد منها ؟ .

إن إقبال الباكستانيين على العربية لا يمكن أن يصوره لساني ، لأنهم يرون فيها لغة القرآن ، ولأنهم يتعلمونها ديانة وتقربا إلى الله ؟ ولقد درت على المدارس التي افتتحتها المفوضية السورية في كراتشي فرأيت فيها العجب ، عشرون مدرسة يا سادة ، في كل واحدة نحو مئة طالب ، منهم الصبي ابن العشر ، والشيخ ابن السبعين ، إي والله وهم يتعلمون العربية نطقا وقراءة ، والعربية الفصحى خلال شهور .

خلال شهور معدودات وكل هذا يقوم به أربعة مدرسين أوفدتهم وزارة المعارف ، وقد افتتح قبل سفري من كراتشي ، معهد لتخريج معلمين ومعلمات للعربية وقد خطبت في حفلة افتتاحه أنا والصديق الجليل عبد الوهاب عزام سفير مصر (رحمه الله ) وقلت لهم : إننا نعلمكم العربية واليوم ، ولكنا سنعود فنتعلمها منكم ،

كما تعلمناها قبل من الزمخشري ومن سيبويه ومن الصاغاني الهندي ، ومن الزبيدي الهندي شارح القاموس .

أربعة مدرسين قاموا بهذا كله ، فلو أن كل حكومة عربية أوفدت مئة مدرس ، لكسبت العربية ثمانين مليونا ناطقا بها . وليس القوم هناك بالغرباء عن العربية ، فهم يقرؤون القرآن الكريم ، وثلث لغتهم كلمات عربية ، وهم يقرؤون الكتابة العربية ، لأنهم يكتبون في باكستان العربية بها ، وفي الهند علماء في العربية أجلاء ، في معهد ديوبند ، وفي لكنو ، والعلماء المسلمون في كل مكان يعرفون العربية .

وهذا سر من أسرار القرآن الكريم .

فما لنا نضيع هذه الفرص كلها ؟ .

ما لنا نهمل لغتنا وهي أكمل اللغات وأشرفها ، وهي أوسعها ، وهي أبلغها .

فيا أيها العرب ..

عودوا إلى العربية فتعلموها وحافظوا عليها ، وانشروها , اخلصوا لها ، فإن من العار علينا أن تكون لنا هذه اللغة ونضيعها ، من العار علينا أن يصل هذا الكنز إلى أيدينا وأن نفرط فيه .

أستأذن الأستاذ (الزيات) فأستعير منه هذا العنوان .

فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير ، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في (الرسالة) الثالثة عشرة :

قال الأستاذ : ( ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة ، ودرس القراءات في القرآن ن الكريم ، ولكن نحن اليوم ، وقبل اليوم ، إنما نستعمل لغة واحدة ، ونلهج في الفصيحة واحدة ،

فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة ، وتقوم تلك اللغة ، وندع ذلك لظم والرم لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاب القديم ، على ألا يطبقوه على الحاضر ، ولا يستعملوه في النقد ،

وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها ، وتأثر بها ، فيكون هو وهي في ذمة التاريخ وفي خدمة التاريخ ؟ ” .

ولقد صدق الأستاذ وبر ، وأصبح النحو علما عقيما ، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب .

وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ ، قرؤوا النحو بضعة عشر عاما ، ووقفوا على مذاهبه وأقواله ، وعرفوا غوامضه وخفاياه ، وأولوا فيه وعللوا ، وأثبتوا فيه ودللوا ، وناقشوا فيه وجادلوا ، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب ،

ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب ، ولا يقيم لسانه في صفحة يقرؤها ، أو خطبة يلقيها ، أو قصة يرويها ؟.

ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين ، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول.

(فكر ومباحث : صفحة 13)

* * *

وتلك سنة المستعمرين في كل مكان وفي كل زمان ، قانون (فرق تسد) ومن سننهم إضعاف الدين في النفوس ، واللغة على الألسنة ، (وإذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح قيدها ما دامت محتفظة بدينها ولغتها) .

وسلكوا إلى هذه الغاية طريقا خفيا لا يكاد يحس إلا القليل من الناس بخطر سلوكه ، هو أنهم عمدوا إلى علوم الدين ، التوحيد والتجويد والتفسير ،

والحديث ومصطلحة والفقه وأصوله ، هذه العلوم الكثير التي كنا ندرسها ، ونؤدي الامتحان فيها فلا ننجح إلا إن عرفنا كل واحد منها جعلوها من مكرهم درسا واحدا في سموه درس الدين ، ثم أوغلوا في الشر فلم يعطوه إلا ساعة في الأسبوع ،

ثم زادوا في الشر إيغالا فلم يدخلوا هذا الدرس في الامتحانات العامة ، وأكثر التلاميذ لا يهمهم إلا النجاح في الامتحان ونيل الشهادة ،

فصار الدين مهملا ، وصاروا يختارون لتدريس علومه أضعف المعلمين ، ثم ألحقوه بعلوم العربية وجعلوه جزءا منها ، فأضعفوا علوم الدين .

وصنعوا في العربية قريبا من هذا الصنيع ، فحملوا النحو والصرف والإملاء ولإنشاء مادة واحدة ، وكان قانون الشهادة الابتدائية أن من أخذ نصف درجة من عشرة درجات وكان مجموع درجاته في الدروس (أي المواد كلها ) فوق النصف – أي أكثر من خمسين في المائة – نجح في الامتحان ، ما لم يكن قد أخذ صفرا في إحدى المواد ، ولا تنسوا أنهم جعلوا علوم الدين كلها مادة واحدة وعلوم العربية كلها مادة واحدة ، فكان ينجح الجاهل بالدين وبالعربية .

وكنا كلما طالبنا بتبديل هذا القانون أو تعديله ، أمهلونا إلى أن ينعقد (مجلس المعارف الكبير) ، ولم يكن ينعقد إلا نادرا .

(ذكريات-2 صفحة 19)

* * *

أما الثمرات السامة لهذه الزرعة فقد ظهرت بواكير ها في العلم ، وستظهر قريبا في الأخلاق .

لقد كان من ثمراتها في العلم أن انصرف الطلاب والطالبات عن التدريس. ومتى يدرسون ؟ وفي النهار الغناء والرقص ، وفي الليل هذا الرائي الذي جاءنا ولم نكن نعرفه من قبل (التلفزيون) .

فهبط مستوى المناهج ، فما كنا نقرؤه في السنة الأولى المتوسطة لما كنا تلاميذ في الثانوية في أوائل العشرينيات من هذا القرن ، صار يقرأ الآن في أواخر الدراسة الثانوية .

وجاء خبراء التعليم بأمر ما سمعنا به من قبل ، هو أن التلميذ الابتدائي لا يسقط في صفحة ، بل ينجح من صف إلى صف ، أي من سنة إلى سنة ، نجاحا تلقائيا ، قرأ أم لم يقرأ .

واخترعوا في العربية نحوا جديدا غير النحو الذي كنا نقرؤه ، فنشأ الطلاب على جهل بالعربية .

أما الدين فقد نزلوا به أولا فسموه تربية دينية ، وجعلوه كالتربية البدنية ، والتربية الفنية .

ولم يعطوه إلا ساعة في الأسبوع , ولما ناضلنا وطالبنا منوا علينا بساعة أخرى .

(ذكريات- 6 صفحة 20 ،21).

* * *

أما اللغة الفرنسية ، فقد بدؤوا تعليمها من أول المدرسة الابتدائية ، تمشي مع اللغة العربية خطوة خطوة ، وما في الدنيا أمة حية حرة واعية تعلم أبناءها لغة أجنبية ، قبل أن يتقنوا لغتهم القومية .

كتاب (قواعد اللغة العربية لحنفي ناصف وإخوانه) هذا الكتاب لو وعاه أستاذ العربية ، ووعاه الأديب واقتصر عليه لكفاه فكم الذي يعرفونه من الطلاب الآن ؟ .

(ذكريات- 2 صفحة 20،21)
* * *

الاختراعات ليست خيرا كلها ، وليست نفعا للبشرية مطلقا ، والعلم الذي اخترع السيارة المصباح الكهربائي ، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق ، وهذه البلايا الزرق فشره بخيره والنتيجة صفر .

ودع هذا … ولنأخذ الاختراعات النافعة : لنأخذ المواصلات مثلا … لاشك أن العلم سهلها وهونها ، فقرب البعيد ، وأراح المسافر ، ووفر عليه صحته ووقته ، ولكن هل أسعد ذلك البشرية ؟ .

أحيلك في الجواب على (شبنكر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرائها أكثر من الذي ربحته : كان المسافر من بغداد إلى القاهرة ، أو الحاج الأذى بيت الله ، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق ، ويحمل آلاما ، وتعرض له مخاوف ،

ولكنه يحس بمئات من العواطف ، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور ، ويتغلغل في أعماق الحياة ، ثم يعود إلى بلده ، فيلبث طول حياته يروي حديثها ، فتكون له مادة لا تفني ، ويأخذ منها دروسا لا تنسى ،

أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنيا) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة ، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالسا يدخن دخينة ، أو ينظر في صحيفة ، فهو قد ربح الوقت ، ولكنه خسر الشهور ، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد ، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عدوا ، ونحن مغمضون عيوننا … لم نر من لجة الحياة إلا سطحها الساكن البراق ! .

ولنأخذ الطب … وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم ، وتغلب على كثير من الأمراض ، ولكن ذلك لا يعد مزية لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض ، جاءت بها الحضارة ، فإذا سرق اللص مئة إنسان ، ثم رد علي تسعين منهم بعض أموالهم أيعد محسنا كريما ، أم لا يزال مطالبا بالمال المسروق من العشرة ؟ .

انظر في أي مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة ، ولم يمتد إلى أعماقه العلم ، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية ؟ هل الأمراض أكثر انتشارا في فيافي نجد ، أم في قصور باريز ؟ أو ليس في باريز أمراض لا أثر لها في البادية ؟ فليس إذن من فضل للعلم في أنه داوى بعض الأمراض ، بل هو مسئول عن نشرها كلها ؟

وتعال يا سيدي ننظر نظرة شاملة ، هل البشر اليوم (في عصر العلم ) أسعد أم في العصور الماضية ؟ أنا لا أشك في أن سعادتهم في العصور الماضية ، عصور الجهالة (كما يقولون) كانت أكبر وأعمق ، ذلك لأن السعادة ليست في المال ولا القصور ولا الترف ولا الثقافة ،

ولكن السعادة نتيجة التفاضل بين ما يطلبه الإنسان ، ويصل إليه ، فإذا كنت أطلب عشرة دنانير وليس عندي إلا تسعة فأنا أحتاج إلى واحد ، فسعادتي ينقصها واحد ، أما روكفلر فسعادته ينقصها مليون ، لأن عنده تسعة وتسعين مليونا وهو يطلب مائة .

فأنا بدنانيري التسعة أسعد من روكفلر … وكذلك الإنسان .

لم تكن مطاليبه كثيرة في الماضي فكان سعيدا لأنه يستطيع أن يصل إليها ، أو إلى أكثرها .

أما ! مطالبه اليوم فهي كثيرة جدا لا يستطيع أن يصل إلى بعضها فهو غير سعيد .

(فكر ومباحث-صفحة 23 ،24)

* * *

ونحن نترك هؤلاء ،ونشغل التلاميذ في درس التوحيد ، بالرد على المعتزلة والجهمية وأمثالهم .

نحارب الأموات ، بسلاح الأمس : بالسيف والرمح ، ونترك الأعداء الأحياء الذي يقاتلوننا بالصواريخ والقنابل الذرية …

الشرط الأول ، حين نتعلم القانون الطبيعي ، أو نعلمه تلاميذنا أو نستفيد منه تطبيقا : أن نذكر من وضعه ، وهو الله رب العلمين ، فتكون هذه العلوم ، دالة على الله ، مثبتة للإيمان به .

الثاني : أن نذكر حين ندرس هذه القوانين مقرونة بأسماء العلماء ، قانون أرخميدس (أرشميد) ، قانون لافوا زيه ، قانون نيوتن وأمثالها ، أن هؤلاء العلماء ، ما أحدثوا هذه القوانين ، ولكن كشفوها ، فنسبت إليهم ، وعرفت بهم . إنهم ما أوجدوا مفقودين ، ولكن أظهروا موجودا .

الثالث : أن نفرق بين القانون الثابت الذي وضعه الله وجعله سنة من سننه في الكون ، ما له تبديل ولا تحويل ، وبين النظرية ، وهي افتراض يفترشه العالم ، مرحلة بين المشاهدة والتجربة ، فإن ثبت بالتجربة أنها صحيحة كانت هي القانون ، وإن سقطت وأبطلت ، وراح يبحث عن (نظرية أخرى) .

الرابع : أن نعلم أن الإسلام لا يمكن أن يكون فيه نص قطعي ، ينافي ويناقض الثابت في العلم الثبوت القطعي ، لأن الذي أنزل القرآن هو الله ، والذي وضع القانون الطبيعي هو الله ، ويستحيل أن يخلق الله خلقا ، ثم ينزل قرآنا بنفيه . .

(فصول إسلامية –صفحة 90- 91)

* * *

وجئت بطريقة للإفهام – أي النحو- اقتبست أصلها من النحو الفرنسي (الكر أمير) . مثالها : (قرأ زيد) ، أسال من الذي (أو ما الذي إذا كان الفاعل غير عاقل ) قرأ؟ الجواب : زيد ، فيكون زيد هو الفاعل .

(قرأ زيد الكتاب ) ، قرأ ماذا ؟ الكتاب، فالكتاب مفعول به .

(قرأ زيد الكتاب مساء ) متى قرا؟ فمساء ظرف زمان ، وهو منصوب . (قرأ زيد الكتاب قائما) .. ماذا كانت حالته وهو يقرأ ؟ قائما ، فكلمة (قائما) حال . (قرأ زيد الكتاب احتراما للأستاذ) .

لأجل ماذا قرأ ؟ احتارما للأستاذ ، فكلمة (احتراما) مفعول لأجله ، أي أن فعل القراءة مفعول للأجل الاحترام . ومشيت على هذا الطريق فانتقلت من الأسماء الصريحة إلى الضمائر إلى أسماء الشرك الخ .

ثم يكلف الطالب تلخيص الرواية التي قرأها ، ثم ننظر في أسلوبها بالمقدار التي يصلح لأمثال هؤلاء الطلاب .

ندرس أغراض الكاتب ، فنصنفها ونظر تسلسل أجزائها ، الطرق العلمية على الأدب ، أو نعطي الطلاب بحوثا نضطرهم إلى حفظها وأتباعها ، وتعلمها أن نربي في الطالب الملكة الأدبية ، وندله على طريق البحث ، ثم ندع له اختيار النتيجة .

أما المعنى الثاني للأدب :

وهو أقرب إلى الموضوع التعليمي ، فهو أنه (مجموع الآثار البيانية الجميلة في لغة ن اللغات) فالأدب العربي مجموع ما في اللغة العربية من نثر جميل ، وشعر جيد ، وأمثال وخطب ورسائل ، والأدب الفرنسي ، مجموع ما في اللغة الفرنسية من قصص وأقاصيص ومذكرات وقصائد ورسائل وخطاب .

ودرس هذه الآثار هو المسمى هنا بدرس (النصوص) وسنعود إلى الكلام فيه .

نحن إلى هنا في أدب شخصي (Subject if) يستند على تصور الجمال (الإنشاء ) وعلى تذوق هذه الثور (النصوص ) ولكن عندنا أدبا آخر ، أقرب إلى الموضوعية ( Objectif) وأمس بالعلم وأدنى إلى قوانينه ، وهو (النقد) أو المراد بالنقد وزن الآثار الأدبية وتقويمها ، فالأديب يحس ويشعر ويعبر عن حسه وشهوره ، فعمله إنشائي بحت ،

أما الناقد فيزن هذه الآثار بميزانه ، ويطبقها على مقاييسه ، ويفاضل بينها وبين المثل الأعلى الذي يتصوره ، والنقد قسمان ، نقد صوري (de forme .C) للألفاظ وصحتها والجمل ومتانتها ، والأسلوب وقوته ، ونقد فكري أو معنوي (de rond. C) للفكر ة وتسلسلها ، والصورة وجمالها ،

والنتيجة التعليمية لهذا التقسيم ، وهو أن الطالب يحتاج إلى النحو والصرف والبلاغة وما إليها من علوم الأدب لينتقد نقدا صوريا شكليا ،

ويحتاج إلى تربية الذوق الفني الفكري المعنوي ، على أن لاينسى المدرس أو واضع المنهج أن هذه العلوم وسيلة إلى الأدب ، يؤخذ منها بمقدار الحاجة ، وليست هي الغاية ، ولا هي المقصودة بالذات .

وهناك ما هو أوسع من النقد وهو (تاريخ الأدب ) ، وعلى مؤرخ الأدب – عدا عن تقويم الآثار – يرتبها ، ويصنفها ، وهذا التصنيف هو الأساس في تاريخ الأدب .

ويلاحظ اتجاه جديد في النقد ، منذ منتصف القرن التاسع عشر ، الغاية من تحويل النقد إلى علم موضوعي ، والخروج به عن هذا النطاق الشخصي الضيق ، ولا أراني بحاجة إلى ذكر مذاهب تين (Taine) ووسانت بوف (Sainte beufe) وبرونتير (Bruntayere) في هذا المقام وإنما أشير إلى ذلك إشارة .

تلخص معنا إذن ، أن هناك شعورا بالجمال ووصفا لهذا الشعور، وهذا هو درس الإنشاء .

وأن هناك فهما لذا الوصف وتذوقا له وهذا هو درس النصوص ، وأن هناك تقويما لهذا الوصف ، وبيانا لمواطن الجمال ومواضع النقص فيه ، وهذا هو النقد .

وأن هنا كترتيب أو تصنيفا ودرسا شاملا ، وهذا هو تاريخ الأدب .

(ذكريات – 2 صفحة 151، 152، 153)

* * *

ثم وقعت على كتاب فرنسي في الإنشاء لأستاذ اسمه بوسلي. M) (Baucely) فيه أربعة وعشرون درسا بني نظري وعملي ، يشرح فيها المراحل التي يمر بها ذهن الكاتب ، وإن كانت تمر في عقله الباطن لا يحس غالبا بها ، وهي :

1 – تهيئة الأفكار ، ومصدرها الملاحظة والمطالعة ، وبين للطالب كيف يلاحظ ، وكيف يقرأ .

2 – تصنيف الأفكار ، ووضع خطة القطعة الأدبية ، وتصور أجزائها .

3 – التعبير عن الأفكار ، واختيار الكلمات ، وتأليف الجمل .

4 – خصائص الموضوع ، وهو مانسميه (علم المعاني ) ، أي مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال . (ذكريات–2صفحة 152) إن اللغة الإنجليزية أفظع اللغات وإن كنت لا أعرفها . أشهد عليها بما سمعته عنها .

فيها حروف تكتب ولا تقرأ ، وحروف تقرأ وهي غير مكتوبة ، وحروف تقرأ في كلمة على صورة وتقرأ في الكلمة الأخرى على صورة غيرها .

وقواعدها سماعية ليست قياسية ، واللفظ بها شنيع .

وهم مع ذلك قد فرضوها على ربع العالم ، لأن أصحابها أهل اعتزاز بها ، وحرص عليها ، ونشاط في تسهيل تعليمها ، والدعوة إليها، حتى أننا نجعل لها في مدارسنا خمس الساعات الأسبوعية أو سدسها ،

ونوزع الأخماس الأربعة على الدروس الباقية كلها ، ثم لا يأخذ منها أبناؤنا ما يسهل عليهم الدراسة بها ، إذا ذهبوا يتمون تعليمهم في البلاد الأخرى ، بل يمضون سنة من أعماره في تعلمها من جديد .

ولغتنا العربية ، أكمل لغات الأرض بلا جدال ، صارت لغة كاملة قبل أن يوجد في الدنيا كلها ، من يقول عن نفسه أنا إنجليزي ، وقبل أن تعرف الأرض هذا الجنس ، ولا أقول المبارك .

ولم يشهد التاريخ ولادتها ولا طفولتها ، ولم يعرفها إلى بالغة رشدها ، لأنها أكبر من التاريخ وأقدم منه مولدا .

ولا نزال نجد في هذه اللغة التي كانت مستعملة قبل ألفي سنة ، كلمات تفي بكل ما يحتاجه أستاذ الطب ، وأستاذ الحقوق ، وأستاذ العلوم في الجامعة ، ولا أقول هذا خيالا ولا فرضا مستحيلا ، بل أخبر عما صنعه أساتذة كلية الطب في دمشق حين عربوا المصطلحات كلها في السنين الستين الماضية .

ولكن قعد بهذه اللغة العربية النبيلة ، قعد بها أننا نحن أبناءها لا نعتز بها اعتزاز الإنجليز بلغتهم الشوهاء ، ولا نحرص عليها حرصهم على لغتهم ، ولا ننشط في تعليمها ونشرها مثل نشاطهم ،

بل إن فينا من يظن بأن من الظرف والحضارة أن يدع الكلمة العربية الفصحى ، وينطق بمرادفتها من الإنجليزي أو الفرنسية ، فلا نقول (خمار) ولا وشاح بل (أشارب) ولا نقول (معطف) ،

بل نقول (مانطو) ولا نقول (تقانة) بل نقول (تكنولوجيا) ولا نقول (البرد) بل نقول (روب دو شامبر) وأمثال ذلك مئات .

(ذكريات – 5 صفحة 193 ، 194)

* * *

والكليات جمع وإطلاق لفظ الجمع على الاثنين مذهب صحيح ، فقد قال تعالى : “وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين”

وأنا أرى أن دراسة البلاغة على هيئتها التي انتهي إليها الآن ، تكاد تكون تعبا فهي غير طائل .

فهي لا تجعل دارسها بليغا ، ولا تصله بروائع الأدب كما كانت أول أمرها ، لما كانت نقدا منظما يمشي مع الأدب ، فكلما ابتدع الأدباء ء جديدا ، جاء هؤلاء النقاد فوضعوا له اسما ، وصنفوه مع أشباهه ونظائره ،

حتى لخص القزويني كتاب السكاكي ، فوقفت البلاغة عند هذا (التلخيص) ، وعلقت به ، فما استطاعت الخلاص منه ، ولا جاء من يعينها على التخليص من قيد التلخيص .

وانحصرت شواهدها في نطاق محدود ، فلا يزال المدرسون يكررونها ويعيدونها ، حتى ملوا ومل الطلاب منها ، ولم يبق للبلاغة إلا نفع قليل في فهم بعض آيات الكتاب والسنة ، وما يوصل إلينا من روائع ما قال الأولون .

و(الإنشاء) يضعوه في المناهج تكملة عدد لا يقيمون له وزنا ،ولو أنصفوا لجعلوه في رأس المواد التي يطلب إجادتها من الطلاب ، لأن الدعوة إلى الله إنما تكون بالقلم وباللسان ، عليهما يقوم البيان ، وبهما يثبت الإيمان ، وتتفاوت أقدار الإنسان .

ولكن الأسلوب الذي يتبع في هذه المادة في البلاد العربية التي عرفت أكثرها ، يزيدها هوانا على هوانا ، عند المدرسين والطلاب ،

إذا يكلف الطلاب بل يكلف التلاميذ في المدرسة الابتدائية الذي لم يبلغوا أن يسموا طلابا ، بالكتابة في موضوع يختاره لهم المدرس لولا يكون في الغالب إلا موضوعا باردا ، بعيدا عن حياة الطلاب ، ميتا لا روح فيه ،

ثم لا يرسم للتلميذ الخطة التي يسير عليها ، ولا ينصب له مثالا ينحو نحوه أو يحتذيه ، وأنا رجل قد احترفت الكتابة ، وأنا أكتب من ستين سنة ، وما أخذت يوما في درس الإنشاء درجة عالية .

وأنا مهما تمسكت بفضيلة التواضع ، فلا أنكر أن لدي ما أستطيع أن أدرس به غير الإنشاء من المواد ، فأنا طول عمري معتزل في بيتي ، أمضي أكثر يومي في ليلي ونهاري ، في المطالعة من حيث تعلمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى ألان وقد جازت الثمانين أقرا كل يوم عشر ساعات أو أكثر ، فما ظنك بمن يقرا كل يوم عشر ساعات على مدى سبعين سنة ، في جميع العلوم والفنون .

(ذكريات – 8 صفحة 210،211).

* * *

فتبين لي وجوب تجديد أسلوب تدريس العقيدة ، أن الذي ألفوا كتب العقيدة الصحيحة إنما ردوا على الشبه التي كانت على أيامهم ، فكانت كتبهم دفعا لها ، وحماية للمسلمين منها كما كانت قلعة أجياد في مكة في يوم من الأيام تحمي البلد ، فلما جدت أسلحة لم تكن على عهد من بناها ، وبني أمثالها ، صارت تحفة أثرية وعمارة تاريخية .

لقد تبدلت طرق الهجوم على الإسلام فوجب أن نجدد طرق الذب عنه ودفع الأعداء عن حماه ،

إنه لم يعد ينفعنا أن نرد على الفرق التي بادت وفني أهلها ، ولم يبق منها إلا ما روي في الكتب من عقائدها ، وأن نشتغل بالمذاهب الجديد ة التي تكيد للإسلام كيدا أشد من كيد الأولين ،

إن محاربة الإسلام اليوم تقوم على مخططات محكمة ، تضعها عقول كبيرة جدا ، شريرة جدا ، وتؤيدها جهات قوية جدا ، وتنفق عليها أموال كثيرة جدا ،

ودرس التوحيد في مدارسنا لا يقوى على رد هذه الشبهة ،

لا لأن الإسلام ضعيف يخشى هجومها ، بل لأن التقصير مما يضع المناهج ، ومما يؤلف الكتب ، وممن يلقي الدروس ،

إنه ليس في الإسلام قصور ، ولكنه التقصير منا المختارات التي تضعونها في كتب المطالعة ، وتلزمون التلاميذ بفهمها وحفظها ، هي العامل الأول في تنمية الملكة الأدبية في نفوسهم وتقويتها ،

أو في إضعافها وإماتتها ، ولقد صرنا نجد من يكتب في الصحف يسخر من

شوقي ومن لو أنصف الناس لنصبوه وإخوانه على الأعمدة ليكونوا عبرة لم يتجرأ على الحق وينصر الباطل ، يسخرون من شوقي وما ظهر من قرون من هو أشعر من شوقي .

شوقي الذي قال وهو في طراوة الشباب قبل أن يقوى عوده ، ويشتد أسره :

صوني جمالك عنا إننا بشر من التراب وهو الحسن روحانيا
أو فابتغي فلكا تأوينه ملكا لا تنصبي شركــا للعالــم الفاني

قابلوا ناشدتكم الله بين هذا الكلام وبين ما يقوله شعراؤكم أهل الحداثة أو الحدث ؟شوقي القائل

أفضــي إلى ختـم الـزمـان ففضـه وحبــا إلى التاريـخ في محرابـه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى فرعون بين طعامه وشرابه

شوقي الذي أنطق في قصيدة الأزهر أكبر ناطق وهو الدنيا , واسمع أعظم سامع وهو الزمان حي قال :

قم في الدنيا وحي الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا

شوقي الذي قال في قصيدة عن نابليون :

وضـع الشطـــرنج فاستقبلتـه ببنــان عابــث اللاعب

صدت شاه الروس والنمسا معا من أي شاهين صيدا في كمين

لا يجوز في العرف الجامعي أن نلزم الطلاب بكتاب يدرس المدرس منه ، ويراجع الطالب فيه ، فإن كان الكتاب من تأليف أحد المدرسين ، وسايره زملاؤه فقرروه على الطلاب لإرضائه ، أو لجلب منفعة له ، كان ذلك أسوأ ،

فإن تبادلوا المنافع يقرر هذا كتاب ذاك ، أو يعين على تقريره ، فيعود الآخر فيجزيه صنيعا بصنيع ، ويقرر له كتاب به ،

كما هو واقع الآن في بعض الجامعات في بعض البلاد ، يكونوا قد بلغو الغاية التي ليس في السوء غاية بعدها .

والنحو ثقيل على قلب التلاميذ ، ولقد لبثت سنين من عمري أدرسه ، فوجدت الجهد المبذول فيه كبير ا ، والثمرة المحصلة منه قليلة ، فذهب اقلب النظر ، وأجهد الفكر لتحديد أسباب ذلك ، فوجدته بكتب النحو في طريقة تدرسية .

وإن كنت أشهر أن يد الإصلاح قد امتدت إليها ، وأنها قد ظهرت كتب جديدة كثيرة ، خلت من بعض العيوب القديمة .

وما عيب النحو ؟

عيبه أنه يبعد عن الملكة ، ويشغل بالوسيلة عن الغاية .

كان الطفل العربي قبل فساد اللغة يتلقاها بالتقليد والمحاكاة ، فينشأ بليغ القول ، فصيح اللسان ، بعيدا عن اللحن لأن أبويه من أهل البلاغة والفصاحة ،

ولأن اللسان الذي يتكلمون به قريب من لسان الكتابة ولسان الأدب ، فصرنا نعلم أو صار أكثرنا يعلم قواعد اللغة العربية باللغة العامية ، كما كان معلمنا التركي على عهد العثمانيين ، يوم كنت صغيرا في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى يسألنا “فاعل نهدر” ؟

أي ما هو الفاعل ؟

لا أستطيع أن أحصي الأمثلة ، ولكن أعرض واحدا منها .

لما كنت أعلم في الابتدائية كان الكتاب المقرر يعرف الاسم بأنه )اللفظ الدال على معنى مستقل بالذهن وليس الزمن جزءا منه ” وكان علي أن أفهم هذا التعريف .

(ذكريات ؟ صفحة 257)

* * *

وأقول بالمناسبة قبل أن أنتقل إلى الشق الثاني من حلقة اليوم ، أقول كلمة عن مناهج الدين وعن كتب الدين ، إن بعض البلاد الإسلامية خمس ساعات في الأسبوع لتدريس القرآن وعلوم الدين ، ولكن هذه الساعات يذهب أكثرها هدرا فلا يستفاد منه ، ولا نصل إلى الثمرة المقصودة .

ذلك أن التلميذ يأخذ كتاب التاريخ وكتاب الجغرافية ، وكتاب العلوم ، فيجد لغة سهلة واضحة مفهومة .

ثم يأخذ كتاب الدين المقرر فيجد كلاما بعيدا عما يألف وما يعرف .

ذلك أننا ننقل من كتب مؤلفة قبل مئات من السنين ، فنثبت ما فيها فيكتب المدارس .

وأنا أعلم أن حقائق الدين لا تتبدل ، وأن تبديلها كفر بها ، وخروج عليها ، فلا يفهم أحد أنني أدعو إلى تغيير أحكام الدين وحقائقه ، إن الذي أدعو إليه هو تجديد الأسلوب وأن تكون كتب الدين مكتوبة بلغ العصر ، فإن لكم عصر لغة يفهم بها أبناؤه (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) .

ومن مقتضى ما أطلبه من تبديل الأسلوب أن تبدل المقاييس مثلا ، فلا نقيس بالقلتين ،

لأنه لم يعد يعرض أحد ما هي “القلة”حتى ولا أهل هجر التي يقولون إنهم يعتمدون فيها على قلال هجر ،

بل لم يعد يعرف أكثر الناس أين هجر ، أهي بالقطيف ، أم هي البحرين ؟

والناس يقيسون المسافات بالأكيال ، لا بالفراسخ ولا بالبرد ،

فلماذا نعلم الطلاب مسافة السفر الذي تقصر الصلاة ، ويفطر فيه الصائم إن شاء بهذه المقاييس القديمة ؟

والناس إنما يزنون بالكيل (الكليو وهي كلمة يونانية معناها ألف) والغرام ، ونحن نزن بالقيراط وبالمثقال بحبة الشعير ،

ومن من الناس يعرف ما هو (الوسق) ويعرف ما مقدار الخمسة (الأوسق) ؟ وان تراعي في الكتب حالة التلاميذ الذي توضع لهم .

جاءتني مرة بنت صغيرة في الصف الرابع الابتدائي وسألتني ما هي “الحشفة” ؟

فقلت : لا أدري ، فمن أين سمعت بها ؟

قالت : هي في كتابنا ، فأخذت الكتاب فإذا فيه بيان موجبات الغسل وأن منها “أن تتوارى الحشفة في الفرج” .

فناشدتكم الله مرة ثانية أهذا مما يكتب في كتاب للبنات الصغيرات ؟ فلو أنهم كن كبيرات بالغات ، وعلمناهن مثل هذا فلا ينكره أحد لأنه دين ينبغي أن يعرف ، وإن كان علينا أن نعرف به بأيسر عبارة تفيد ولا توقع فيما هو محذور .

والبنات الكبيرات ما لنا نعلمهن تفصيلا مسائل البيع والشراء وهن مقصورات في البيوت لا يبعن ولا يشترين ؟ أنا أعلم أنها من أحكام الدين ، لكن كل امرئ يعلم ما يحتاج إليه ، وفي كتب التلاميذ أنواع من البيع مابقي .

(ذكريات- صفحة 262 ، 263)

* * *

كتاب اللغة العربية لحفني ناصف وإخوانه ، في الصف السابع ، أي في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة ، وهذا الكتاب يحوي من القواعد أكثر مما يحويه شرح ابن عقيل , إنه يكفي الكاتب والأديب إذا وعاه وحفظ ما فيه ، فضلا عن الطالب أو معلم الابتدائي . .

(ذكريات – صفحة 262، 263)

* * *

الأب الذي له خمسة أولاد إن قعد معهم من الصباح إلى المساء أحس أن الجنون يقترب منه ، فكيف بمن يقعد كل يوم مع عشرات وعشرات من الأولاد !؟ الأب يضرب أولاده ، والمعلم ممنوع من الضرب ، والذي يضعون المناهج للأولاد ، ويؤلفون لهم الكتب هم في واد والأولاد في واد ،

وكان علينا في درس النحو في السنة الثالثة الابتدائية أن نعنى بهذه التعريفات .

وأقل كلمة على الهامش ، مع أنها في الصميم ينبغي الانتباه إليها .

أقول : إن هذه التعريفات التي نملأ بها كتب النحو الحاجة إليها ولا خير فيها .

ولطالما تعبت لما كنت تلميذا وتعبت لما صرت معلما في الجواب على هذا السؤال : كيف تصوغ المضارع من الماضي ؟ .

كيف أصوغ ؟ أنا أعرف كيف أصوغه فلماذا أشرحه لكم ، وتوضيح الواضحات من أشكل المشكلات ؟

كان العرب الأولون وهم أهل اللسان الذي أخذ عنهم لايدرون شيئا من هذه التعريفات ، حتى أن أحمد بن فارس روى عن أعرابي لما سألوه : أتجر فلسطين ؟ لم يفهم معنى الجر عندهم وأخذه على معنها اللغوي فقال : إني إذن لقوي . ولما سألوا آخر : أتهمز إسرائيل ؟

فهم الهمز على أنه الغمز واللمز واللكز ، ولم يعرف معناه المصطلح عليه فقال : ما كنت رجل سوء .

وأنا لا أريد أن ندع هذه المصطلحات كلها بل أن ندع هذه التعريفات .

كنت أعلم التلاميذ ما جاء في الكتاب في تعريف الاسم (وانه الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءا منه) شرحت ذلك وأعدته ، وكررته فلم يفهموا عني ، وكيف يفهمونه وهو أعلى مما تصل

إليه أفكارهم وأفها مهم ، وبعد أن تكلمت ربع ساعة قلت : من فهم ؟ فرفع ولد إصبعه فحمدت الله على أن واحدا منهم قد فهم ، وقلت :

قم يا بني بارك الله فيك فأخبرني ما هو الاسم فقال :

يا أستاذ هذا داس على رجلي .

فضحكت به : ويحك إني أسألك عن تعريف الاسم فلماذا تضع رجلك في التعريف ؟ ألم أقل لكم : إن هذه الشكاوي ممنوعة أثناء الدرس ؟ فقال: ولماذا يدوس هو على رجلي ؟

فصحت بالآخر لم دست على رجله يا ولد ؟ فقال : والله كذاب ما دست رجله، ولكن هو الذي عضني في أذني ، فغضبت وصرخت : وكيف يعضك وأنا قاعد هنا ؟

فقال : ليس الآن ولكنه عضني أمس .

وتطوع العفاريت الصغار بالشهادة للمدعي وللمدعى عليه .

وزلزل الفصل ، فضربت المنصة بالعصا وأسكتهم جميعا ، وهددت من يتكلم منهم بأقسى العقوبات .

ولست أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه فسكتوا وعادوا إلى الدرس ، هذه صورة مما كنت ألقي وإنها الصور النادرة ، لأنني كنت أضبط الصف فيكون هادئا ساكنا لا عن خوف خالص مني ، بل عن خوف مشوب با لمحبة ، وكنا نضرب أحيانا . .

(ذكريات – صفحة 266، 267)

* * *

#علي_الطنطاوي


Be the first to comment on "فوائد تتعلق بالمنهج .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم"

تعليقك يثري الموضوع