المنهج الإعلامي النبوي “دراسة في الرسائل الإعلامية النبوية” مقال للكاتب الأستاذ محمد نصيحي في ثلاثة أجزاء يتناول بالدراسة والتحليل رسائل النبي صلى الله عليه و سلم للأمراء والملوك
محمد نصيحي
1- مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. جعله مخلوقا مكرما، ومنحه الإرادة والاختيار، وزوَّده بقابليات حمل الأمانة ومنحه طاقات القيام بأعباء الاستخلاف والعمران. والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم فكان في الذروة فصاحة وبلاغة وأمانة وتميزا وإعلاما واتصالا، الذي جُعِلَ البلاغُ المتسم بحسن الإبانة وقوة التأثير وملائمة مقتضى الحال، غاية مهمته ووسيلة دعوته، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين.
وبعد، لقد حدّد الله سبحانه وتعالى مهمّة الأنبياء والرّسل في تبليغ الرسالات السماوية، من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فبعث في كلّ أمة رسولا يدعو إلى توحيده سبحانه وتعالى وإفراد العبودية له. باجتناب عبادة الأوثان والابتعاد عن دوائر الطواغيت، قال تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٣٥﴾ [سورة النحل، الآية 35].
فحمل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمانة التبليغ والإعلام وتوضيح مضمون الدّعوة للقريب وللبعيد؛ كما فعل إخوته الأنبياء والرّسل من قبله، لكن بمنهجيات مختلفة فرضتها طبيعة كلّ رسالة وطبيعة القوم المرسَل إليهم. قال عز من قائل ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ سورة المائدة، الآية69 ].
2- عناصر المنهج الإعلامي النبوي في التواصل والإعلام
لم تكن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في ” أم القرى وما حولها أمرا عاديا، أو حادثا عارضا يعفي عليه الدهر بمضي صاحبه إلى بارئه، فيدخل في عالم النسيان، وإن عرض له قبس من الذكر كان من قصص القدامى، وذكريات الآباء والأجداد، في غابر الأيام [….] لم تدخل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك الباب لتخرج منه، بل طالعت الكون شمسا مشرقة تبعث فيه الحياة بعد ركود طويل، وتنير أرجاءه بعد ظلام دامس، تنشر فيه دفء المحبة والأخوة والسلام، وترسي فيه قواعد الأمن والطمأنينة والاستقرار، فتسري في أوعيته روح الإيمان، ليظل جميع من تحت رايته ولوائه بوارف ظلال العدالة والمساواة والإباء، وتهب من كل حدب وصوب نسائم الإيثار والتعاون والتضامن، والبذل والعطاء، فيتنسم الكون كله عليل النسيم، وينهل أهله من صفاء المعين، فيستعذبون المنهل بعد ظمأ طويل، ويتذوقون حلاوة الإيمان بعد مرارة ضياع مديد [….] فينطلقون برسالة السماء يحررون الشعوب من قيود العبودية، وأغلال الجاهلية، وتسلط الطغاة الجبارين، فأخرجوا الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام، ومن عبودية العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، وبهذا شعر الخلق بالكرامة الإنسانية، والعزة الحقيقية، وأدركوا رسالة الحياة من خلال رسالة السماء” .
ولم تكن هداية الناس بالأمر الهيّن، بل تحمّل في سبيلها الرسولُ الكريم المشاق والصعاب، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الدّعوة إلى الله تعالى، وإعلام القاصي والدّاني بالرسالة الخاتمة، فعانى ما عانى ولحقه ما لحقه من الأذى في بدنه وفي ماله وفي بلده، وأوذي معه المومنون. فصبر جميلا غير آبه بما يدبّره الثالوث المحيط به- والمكوَّن من المشركين والمنافقين واليهود- من دسائس ومؤامرات. فأقسم الرسول صلى الله عليه وسلّم بحضرة عمّه أبي طالب ألّا يترك أمر الدّعوة ولو أحاطوه بالشمس والقمر. وهكذا فحين ” رأت قريش ثبات المومنين على عقيدتهم، قررت مفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلّم على أن تعطيه من المال ما يشاء، أو تملِّكه عليها، فأبى ذلك كلّه” .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مُهيئا روحيا لتحمل أعباء الرسالة، فقدّم مثالا راقيا في الاتصال والتواصل والإخبار والإعلام، سواء تعلق هذا التواصل بأهله في حياته الشخصية أو أثناء تبليغ الوحي ومضامينه. أو في علاقته بأقربائه وعشيرته وصحابته الذين لا يكادون يفارقونه تشوفا للمزيد من التعلّم والاغتراف من المعين الفياض الذي لا ينضب، والنهل من ذلك المحيط الذي لا تنقضي درره ولآلئه. فمباشرة “بعد نزول سورة المدثر قام الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرّا، وكان طبيعيا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه وألصق الناس به” .
كما قدّم المصطفى صلى الله عليه وسلم نموذجا مثاليا في التسامح ولين الجانب مع الحالات الفردية التي كانت تُعرض عليه، وكذا مع كل القبائل والتشكّلات الاجتماعية المحيطة به. ولم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في إطار عملياته الاتصالية بمحيطه الاجتماعي، بل تجاوزه إلى الإمبراطوريات والممالك المجاورة، إيمانا منه بعالمية الخطاب القرآني وتنزيلا منه لقوله تعالى:
( إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ) [سورة الأنبياء، الآية 106]، وقد اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم منهجية محكمة في إعلامه بالرسالة الخاتمة وتبليغه إياها، متوسّلا بوسائل اتصال قوية نجملها فيما يأتي:
أولها القرآن المجيد باعتباره معجزة إلهية دانت لها الرقاب، وكُسّرت دونها الأقلام، وتهاوت بسببها عروش الطواغيت ومُزّق بها الأكاسرة وإيوانهم كلّ ممزّق. كما أحبّ القرآنَ المجيدَ كلُّ من تذوق حلاوة بلاغته وطلاوة أسلوبه واتساق معانيه.
ثانيها الأحاديث النبوية، فهي وجه ثان للوحي الإلهي، وتبيان لما نُزّل إلى الناس مصداقا لقوله جلّ وعلا ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ سورة النحل، الآية 44]، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم فظّا ولا غليظ القلب. قال جلّ شأنه:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [ سورة آل عمران، الآية 159].
ولم يكن صخّابا ولا قاسيا، إنّما كان ليّن الجانب طيّب الخلق صبورا على ما يلحقه من أذى، يجيد الحوار ويملك قوّة الإقناع سواء مع صناديد قريش وأساطينها، أو مع أهل الديانات الأخرى من يهود ونصارى. وانتزع لقب الأمين بين قومه بصدقه وخلقه، وأمانته وأدبه قال عز من قائل ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [سورة القلم، الآية 4] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” أدّبني ربي فأحسن تأديبي”. كما تميّزت الأحاديث النبوية الشريفة بميزة التعليم والتوجيه، وميزة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ثالثها مواسم الحج والأسواق، لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيرته الإعلامية، بل سار صابرا ومرابطا، مُقتحما قبائل العرب وبطونها من خلال مواسم الحجّ والأسواق والمجامع. ولم يكن طالبا للجاه والوجاهة ولا مُحبّا للمال والمُلك، إنما ظل وفيا لرسالته وهي الدعوة إلى الله تعالى. وكلّما قدِم شخص أو نفر مكة خصوصا من الأشراف، إلّا وعرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام؛ من أمثال سُويد بن الصّامت وإيّاس بن معاذ.
و” لمّا أراد الله سبحانه إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز وعده، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كلّ موسم، فبينما هو عند العقبة ساق الله نفرا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فكانوا طلائع النّور التي أبى الله إلا أن يكون من المدينة” . ليستمرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في عمليات التبليغ والجهاد بالحجة. يقول ابن القيّم ” فأما جهاد الحجة، فأمر به الله عز وجل في مكة بقوله (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) [الفرقان، الآية 52] أي جاهدهم بالقران فهذه سورة مكية، والجهاد فيها هو التبليغ، وجهاد الحجة”
ورابعها الخطب النبوية، تعتبر خطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الوسائل الإعلامية الناجعة التي توسّل بها لتبليغ مضامين الرسالة.
Be the first to comment on "المنهج الإعلامي النبوي “دراسة في الرسائل الإعلامية النبوية” 1/3"