الإنسان في الشدة و الرخاء مقال للشيخ علي محفوظ رحمه الله ، من نظر إلى الإنسان، وفكَّر في أحواله وطبائعه وجده كثير العجز، قليل الصبر عند نزول الشدائد و البلاء
الإنسان في الشدة والرخاء
للشيخ علي محفوظ رحمه الله
من نظر إلى الإنسان، وفكَّر في أحواله وطبائعه وجده كثير العجز، قليل الصبر عند نزول الشدائد والبلاء،
كثير الغرور قليل الشكر عند وجدان الرخاء والنعماء؛
فإذا أصابه نوع مكروه كمرض، وفقر، وعسر، وغيرها من بلايا الدنيا، وشدائدها_ استولى عليه اليأس، وملكه الجزع،
ثم إذا ثاب إلى رشده أقبل على مولاه، وأكثر من التضرع والدعاء له _ تعالى _ في جميع أحواله نائماً، أو مضطجعاً، أو قاعداً، أو قائماً ساكناً،
أو متحركاً مجتهداً في التذلل والدعاء طالباً، من الله _ تعالى _ إزالة تلك الشدة والمحنة وتبديلها بالنعمة والمنحة؛
فإذا استجيب له وكُشِفَ عنه ما نزل به مضى في سبيله، وعاد إلى سيرته الأولى، واستمر على طريقته التي كان ينتهجها قبل مساس الضر وإصابة المكروه،
ونسي حال الجهد والبلاء، وأعرض عن شكر مولاه، ولم يعرف قدر إنعامه عليه،
وصار بمنزلة من لم يشعر بمكروه، ولم يدع الله _ تعالى _ لكشف ضرٍّ نزل به.
وذلك بلا ريب يدل على ضعف طبيعة الإنسان، وقلة وفائه، وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه.
وفي ذلك يقول الله _ تعالى _: [وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ].
ويقول _ تعالى _: [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ].
فأفاد _ تعالى _ أنه إذا تفضل على عبده بنعمة كعافية، ورخاء،أعرض عن شكره وطاعته، واستطال بنعم الله على خلقه، وثنى عِطْفَه متبختراً كبرياءً وعظمة.
وإذا عرض له نوع مكروه كمرض وعسر أكثر من التضرع والدعاء؛ لكشف ما عرض له؛
فهذا شأن الإنسان، وهذا حاله في الشدة والرخاء كما بينه الله _ تعالى _ في كتابه الحكيم؛
تنبيهاً على أن هذه طريقة ممقوتة وأخلاق مذمومة،
وأن الواجب على الإنسان العاقل أن يكون شجاعاً في الشدائد، ثابتاً عند نزول البلايا، شاكراً عند الفوز بالنعماء،
تعرَّف إلى الله في الرخاء
ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الرفاهية والراحة حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة، ففي الحديث:
تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
رواه عبد بن حميد والإمام أحمد.
وعنه _ صلوات الله وسلامه عليه _: من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاءرواه غير واحد.
وجملة القول أن الإنسان جُبِلَ على الضعف، والعجز، وقلة الصبر كما جُبِلَ على الغرور، والبطر، والنسيان، والتمرد، والعتو؛
فإذا نزل به البلاء حمله ضعفُه على كثرة الدعاء والتضرع وإظهار الخضوع والانقياد،
وإذا زال عنه البلاء، وحصل على الراحة استولى عليه النسيان، وغفل عن إحسان الله تعالى إليه، ووقع في البغي والعدوان والجحود والنكران.
وهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ولكنه معذور ولا عذر له.
ولقد أرشد العليم الحكيم عباده في كتابه الكريم إلى التغلب على هذه الطبائع،
والسلامة من هذه الأدواء بقوله _ تعالى _: [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً] والهلع: سرعة الجزع عند إصابة المكروه، وسرعة المنع عند مساس الخير،
وقد فسره أحسن تفسير قوله _ تعالى _:
[إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا]
فإنه كشف لنا عن خبيئة الإنسان،
وبيَّن لنا ما فيه من علة ثم عقبه بقوله:
[إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ].
فاستثنى المتصفين بهذه النعوت الجليلة من المطبوعين على تلك القبائح الذميمة؛
لأن نعوتهم الحميدة تُنْبِئُ عن استغراقهم في طاعة الحق،
والإشفاق على الخلق بمدِّ أيدي المساعدة نحو الضعفاء،
والعطف على البائسين والمحرومين،
الإيمان بيوم الجزاء
وتنبئُ عن الإيمان بيوم الجزاء وما فيه من حساب وهول، والخوف من العقوبة وكسر الشهوة، والاقتصار على ما أحل لهم،
وإيثار الآجل على العاجل بالصدق والوفاء على خلاف القبائح المذكورة الناشئة من الانهماك في حب العاجل والركون إليه، والاغترار به،
وقصر النظر عليه؛ فبمثل هذه الأدوية النافعة ينجو الإنسان من الشر وتسلم القلوب من المخاطر عند عروض البلايا، وتفاقم الشدائد.
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ونزلت به محنة وجبت عليه رعاية أمور منها:
1_ أن يكون راضياً بقضاء الله _ عز وجل _ غير معترض عليه بالقلب واللسان وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنه _ تعالى _ مالك على الإطلاق، ومَلِكٌ بالاستحقاق.
ومن كان كذلك فله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما شاء كما يشاء؛
لأنه حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل الباطل والعبث؛ فكل ما فعله صواب وحكمة.
وإذا كان كذلك فإنه حينئذ يعلم أنه _ تعالى _ إن أبقى عليه المحنة فهو عدل،
وإن أزالها عنه فهو فضل وحينئذ يجب عليه الصبر، والسكون، والرضا، والتسليم، وترك القلق والاضطراب.
2_ أن يصلح حاله بالتوبة إلى الله _ تعالى _ والإنابة إليه مما فرط منه؛
فقد تكون البلية عقوبة معجلة لبعض ما اقترف من السيئات لعله يرجع عن غيِّه،
ويثوب إلى رشده قال _ تعالى _: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ].
3_ أنه في ذلك الوقت لو اشتغل بذكر الله _ تعالى _ والثناء عليه بدلاً من الدعاء كان أحسن وأفضل،
ففي الحديث القدسي عن رب العزة: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، ولا ريب أن الأول أفضل.
4_ أن يبالغ في الشكر إذا أزال الله عنه تلك البلية، وأن لا ينقطع عن ذلك الشكر في السراء والضراء وأحوال الرخاء.
الخلاص بالوسائل المشروعة
وكل هذا لا يمنع العبد الموفق من أن يستخدم مواهبه في تلمس الخلاص من بعض ما نزل به بالوسائل المشروعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛
فهذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم عند نزول الشدائد، وعروض البلايا، والله الموفق.
() مجلة الهداية الإسلامية، 1349هـ
تعليقك يثري الموضوع