التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص بحث أكاديمي بقلم أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية (مقال ثنائي) ننشره على حلقات
التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص
أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية
جامعة باتنة – الجزائر
يشهد مجال الإبداع تراكما في إنتاج النصوص الأدبية، مع تنوع في طرق وأساليب بناء المادة ،
فلكلّ مبدع رؤاه الخاصة، وآلياته الفنية، ومنطلقاته الفكرية،
وتصوراته الجمالية التي لها- دون شك- تأثير في شكل ومضمون عمله. فحتّى ولو كانت المادة واحدة،
فإنّ تجسيدها في نص إبداعي سيكون مختلفا من مبدع إلى آخر. وهذا الأمر يفتح المجال للتساؤل عن سرّ هذا الاختلاف،
بالرغم من أنّ المنطلق والمصدر واحد. هنا يأتي دور الباحثين والنقاد ليحاولوا من خلال تحليلاتهم النصية أن يجدوا أسبابا ومبررات لهذا الاختلاف والتنوع،
وسوف لن يتأتى لهم ذلك إلاّ من خلال البحث والتقصي لتحديد مكامن ونقاط الخصوصية والتفرد في كل نص من النصوص الإبداعية.
إنّ التقابل بتشكلاته المختلفة ومضامينه النصية أحد أكثر المقتضيات اللغوية الإبداعيه إفرادا للنص،
فالكون الأدبي يقوم عوده دوما على أسلوب التقابل بأنواعه … وعلى أهمية التقابل بنيويا ودلاليا،
وبالرغم من التطور المفهوماتي الذي عرفه في القاموس النقدي العربي،
بداية من الاصطلاح اللغوي والبلاغي القديمين وصولا إلى ما بات يعنيه اليوم مع الدراسات النصية،
إلاّ أنّه لم يحظ بالاهتمام الكافي الذي يوفيه حقه. ولهذا السبب جاء هذا المقال ليسلط الضوء على تطوراته الدلالية.
التقابل في اللغة:
هو مصدر أُخذ من الأصل الثلاثي ( ق ب ل )، وقد تنوعت معانيه،
قال “ابن سيده” في معنى التقابل( ت 458هـ ): ” قابل الشيء بالشيء مقابلة وقبالا: عارضه. وتقابل القوم استقبل بعضهم بعضا”(1). وقد قال ابن فارس( ت 395هـ ) في معجمه:”القاف والباء واللام،
أصل واحد صحيح تدل الكلمة كلها على مواجهة الشيء للشيء”(2). وفي لسان العرب ” المقابلة: المواجهة،
والتقابل مثله وهو قبالك وقبالتك أي تجاهك، وقال أيضا، قابل الشيء بالشيء عارضه”(3) ،
فالتقابل في معناه المواجهة. وفي معنى آخر يدل على المعارضة؛ لأنّ قابل الشيء بالشيء: عارضه. والتقابل والمقابلة في اللغة واحد.
أمّا ما دلت عليه صيغة ( التقابل ) صرفيا،
فمن المعروف أنّ الوزن ( تفاعل ) الذي عليه صيغة الفعل ( تقابل ) تدلّ على معنى ( المشاركة )،
وهذا ما ذهب إليه القدماء والمحدثون (4). ومعنى المشاركة أنّ اثنين من الأشياء قد اجتمعا على إحداث فعل معين،
فإطلاق لفظ (التقابل ) على كلمتين يعني أنّ هناك كلمتين قد اجتمعا على إحداث حدث ( المقابلة ) أو( التقابل ).
وبناء على هذا نخلص إلى أنّ التقابل لا يخرج في إطاره العام عن )المواجهة( التي تتم بين شيئين، يكون الأول منهما يواجه الثاني ويتقابل معه، سواء أكان تقابل طاقتين أم تقابل قوتين،
وغير ذلك من التقابلات التي تتم بين الشيئين، وقد يتعدى أحيانا إلى معنى ) الطاقة (، أو إلى معنى المعارضة. ومنه أمكن القول بأنّ مفهوم التقابل يتيح لنا أن نضع تحته عددا من المفردات اللغوية التي يشير معناها إلى المواجهة،
وهي بالتحديد: المطابقة، التكافؤ، التضاد، التناقض، المخالفة؛
وذلك لأنّ هذه المفردات تتضمن معنى المقابلة بين طرفي التقابل ،
سواء كان التقابل بالتضاد، أو بالمخالفة ،أو بالمماثلة.
التقابل في اصطلاح البلاغيين العرب القدامى:
التقابل درس في البلاغة العربية القديمة ضمن القسم الثالث من أقسام البلاغة وهو البديع، ونجد ذلك عند )ابن المعتز( ، و)أبو هلال العسكري( ، و)الجرجاني( وغيرهم، لكنه لم يدرس بهذا اللفظ تحديدا “فلم نجد في كتب علماء اللغة القدماء تعريفا جامعا للتقابل،
ولم يصل إلينا مؤلف جاء تحت عنوان التقابل، على الرغم مما ألف في الأضداد في مراحل متقدمة من التأليف في مجال اللغة” (5) ،
بل عرف البلاغيون ما يعرف بالمقابلة، والطباق، والأضداد.
واكتفى العلماء في هذا المجال بعقد باب للألفاظ المتقابلة في كتب الأضداد”(6)؛ ويبدو أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الألفاظ المتقابلة والأضداد كانت معروفة للعربي، حيث لا يقع فيها خلط أو لبس ولا تحتاج إلى تصنيف أو تنظير.
وكانت دراساتهم في أغلبها تتوقف عند حدود الألفاظ والجمل، وكان يطغى عليها الجانب الوصفي،
حيث تقوم في مجملها على تتبع هذه الأساليب البديعية وتكتفي غالبا بإبرازها؛
فلم يكن في دراساتهم أن يقيموا تقابلات على نطاق أوسع، ولم يتحدثوا عن فاعلية التقابل في إنتاج الدلالة،
فقد استقر في البلاغة العربية على أنّ وظيفة البديع هي (التحسين)، وأنّ هذا التحسين، قد يكون في اللفظ، وقد يكون في المعنى.
ونتيجة لذلك “قسم أصحاب الدراسات البلاغية التقابل أقساما متعددة، واستقر عندهم الطباق والمقابلة من المحسنات المعنوية الداخلة في باب البديع” (7)، و هو” الجمع بين متضادين،
أي معنيين متقابلين في الجملة كالليل والنهار، والأسود والأبيض “(8).
هذا وقد فرق بعض البلاغيين بين الطباق والمقابلة، ومنهم قدامة بن جعفر الذي يرى أن الطباق هو إيراد لفظتين متشابهتين في البناء مختلفتين في المعنى “(9) .
أما المقابلة فهي عند أبي هلال العسكري” إيراد الكلام ثمّ مقابلته في المعنى واللفظ على وجهة الموافقة أو المخالفة “(10).
أنواع المقابلة عند ابن معصوم
وعندما نصل إلى ابن معصوم، فإنّ الحال يختلف عنده، فهو لم يكتف بذكر أنواع المقابلة،
إنما زاد على ذلك إيراد تنبيهين، رأى في أحدهما أن ظاهر كلام جماعة أن المقابلة لا تكون إلاّ بالأضداد كالمطابقة والمقابلة،
ورأى في الآخر أن يأتي الناظم بأشياء متعددة في صدر البيت ثم يقابل كلّ شيء منها بضده في العجز على الترتيب أو بغير الضد،
ويبدو هنا أنّ المقابلة في النظم لا تكون بين ألفاظ في صدر البيت وعجزه، وليس كذلك،
بل قد تكون في كل من صدر البيت وعجزه بأن يؤتى بلفظين ويقابل بضده أو بغيره في الصدر وكذلك العجز)11(.
إذا فالتقابل في البلاغة العربية تعددت تعريفاته، وتقسيماته، وتداخلت فيه مجموعة المصطلحات تقاربت حينا، واختلفت أحيانا، لكن في المحصلة كلها تدور حول الجمع في الكلام بين الألفاظ والمعاني المتقابلة،
سواء كانت متماثلة أو متناقضة أو متخالفة أو متضادة،
وجل العلماء لم يتجاوزوا في تصنيفاتهم نطاق اللفظ والجملة ولم يتوسعوا كثيرا في الحديث عن جماليات التقابل.
بعد هذا الفرش الذي تناول التقابل في الدراسات القديمة، عند اللغويين وعلماء البلاغة،
جاء الدور للحديث عنه في الدراسات الحديثة، مع ما شهده العصر الحديث من نظريات،
كان لها دور في تعميق البحث اللغوي والأدبي؛ فانتقل التقابل من البعد التحسيني، الذي ساد في الدراسات القديمة، والتي حصرته في نطاق ضيق لا يتعدى تأثيره نطاق المفردات، والجمل المحدودة،
إلى عنصر مهم، يلعب أدوار في ترابط النص، وفي إثراء الأبعاد الجمالية والبلاغية للنصوص.
Be the first to comment on "التقابل.. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص"