التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص بحث أكاديمي بقلم أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية (مقال ثنائي) ننشره على حلقات
التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص
أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية
جامعة باتنة – الجزائر
التقابل في الدراسات السردية:
بداية نقول: إن الدراسات التي تناولت الفنون السردية من قصة ورواية وغيرها لم تعن كثيرا بإقامة دراسات شاملة تحت مسمى التقابل، بل كانت هناك دراسات جزئية مرتبطة بمكونات السرد من أحداث وشخصيات وزمان ومكان…
قدم “صالح ولعة” في كتابه )المكان ودلالته في رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف( في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان “تقنيات بناء المكان الروائي (مبدأ التقاطب) دراسة تحدث فيها عن مبدأ التقاطب” وهو عبارة عن ثنائيات ضدية تجمع بين قوى متعارضة بحيث تعبر عن العلاقات والتوترات التي تحدث عند اتصال الراوي شخصيا بأماكن الأحداث…”.(50) .
في كتابه “منازل الحكاية”، تناول “سامح الرواشدة” فصلا تحدث فيه عن أعمال “مؤنس الرزاز”، ومما جاء في ثنايا هذا الفصل “سنقف هذه العجالة على بعد بارز في أعمال “الرزاز” يقوم على تجاور المتنافرين، من زاويتين اثنتين: العنوان، ووقفة على رواية قصيرة. ففي مجال العنوان يشكل مؤنس عناوين أعماله وهذا الإحساس يسيطر عليه، وهو إحساس قائم على وجود الصراع بين الأضداد، وإمكانية تجاورهما في الآن نفسه، فيأتي عنوان عمله ممثلا لما أراد أن يعبر عنه من تساكن المتناقضات”(51).
ومن الدراسات التي عنيت بالحديث عن البعد التقابلي في الرواية نذكر ما قدمه “صلاح صالح” في كتابه )قضايا المكان الروائي في العربي المعاصر(، حيث أشار الكاتب إلى انتشار جماليات المكان في النقد الأدبي العربي الحديث ضمن عمليات ترسيخ منهجية النقد الجمالي المعرفي، على الرغم من عدم إطلاعه الكافي على وفرة الدراسات المتعلقة بالمكان الروائي، حين حكم على ندرتها في كتابه، وكانت دراسته في كتابيه المشار إليهما الأشمل عن جماليات المكان في الرواية العربية حتى حينه، فعاين الانتقال من المكان إلى المكان الروائي، ودرس أبعاد المكان الفيزيائي والرياضي والهندسي والجغرافي والزمني التاريخي والذاتي و النفسي والواقعي و الموضوعي والفلسفي والذهني والتقني الجمالي. وأردفها بتحليل تقابلات ثنائية وتقاطعات المكان مثنويا للتعمق في فهم جماليات المكان مثل التوسيع والتكثيف (المساحة والصغر)، والثراء والفقر (التزايد والتناقص)، والخارج والداخل (الظهور والتواري)، لتبيان تقاطع الواقعي بالخيالي، والتقاطع الجهوي، وتقاطع سطح وعمق، وتقاطع حياة وجهاد، وتقاطع حركة وسكون، مما أضاء علاقة المكان الروائي بالزمن والشخصيات من خلال تعالقات: المكان ثابت والزمن متحرك، المكان متحرك والزمن ثابت، المكان متحرك والزمن متحرك، إخضاع المكان لعوامل الزمان وإخضاع الزمان لعوامل المكان، إسهام المكان في تشكيل الشخصيات، الشخصيات تحرك المكان وتشكله.
ونشير أيضا إلى دراسة “طارق سعد شلبي” في كتابه الموسوم “في التحليل اللغوي للنص الروائي” الذي عالج في كتابه قضية التقابل بين الشخصيات.
ومن النقاد الذين تناولوا التقابل في دراساتهم “نذير جعفر” الذي تحدث في المبحث لتحليل الشخصيات التراجيدية في رواية نجيب محفوظ “قلب الليل “عن تقانة التقابل في الرواية بمجملها ووجد أن تقانة التقابل هي الأكثر إظهارا للدلالات.
من الدراسات كذلك التي تناولت الثنائيات الضدية والتقابلية في الرواية، نذكر دراسة للباحث “كمال أبو ديب” بعنوان “ألف ليلة وليلتان:نحو منهج بنيوي في تحليل الرواية” عالج فيها: قضية الثنائيات الضدية، يقول في مستهل بحثه: “أعاين رواية هاني الراهب من حيث هي رواية الانهيارات الداخلية والخارجية ،في واقع يتهاوى بدوره، ومن حيث هي تجسيد للتناقضات الجذرية العديدة التي تتخلل بنية هذا الواقع…تقع الرواية في حيز ما أسميته في دراسة مفصلة هاجس النزوع … ولعل السمة الأولى لهاجس النزوع أن يكون انتشار الثنائيات الضدية فيها، ثم البحث الدائب عن مضمون متميز محدد للعلاقة بين هذه الثنائيات الضدية”(52). ومن الثنائيات التي تعرض لها الباحث: ثنائية التفتت والصلابة ثنائية الانغلاق والانفتاح، ثنائية التناقض والانسجام، ثنائية التشرس في الواقع التراثي، والانفلات من الواقع واللاتجذر وغيرها.
رابعا- التقابل وبلاغة النص :
بعد أن حددت المباحث السابقة مفهوم التقابل في مختلف الدراسات وقديما وحديثا، حيث كانت البداية بتحديد العلاقة بين التقابل والجدل، وكذا التأصيل اللغوي لمصطلح التقابل، مرورا بما حملته جهود اللغويين والبلاغيين العرب من مفاهيم وتصورات لغوية وبلاغية متعلقة بالتقابل وفعاليته في بلاغة القول. الوقوف على ما استجد من أبعاد جديدة لهذه الظاهرة في الدراسات الحديثة بمختلف توجهاتها اللسانية والدلالية والسردية … نصل في هذه الجزئية من البحث إلى تحديد المقصود ببلاغة التقابل في النص.
بلاغة التقابل:
تتشكل العملية التواصلية في أيّ عمل مهما كانت طبيعته من ثلاث أقطاب أساسية هي: النص، المنتج، المتلقي. ولكل عمل إبداعي غايات وأهداف يسعى الكاتب لتحقيقها، من خلال بناء نصه وفق قواعد خاصة. هذه الغايات تختلف من جنس أدبي إلى آخر، إذ لكل فن لغته الخاصة، فلغة الشعر تختلف عن لغة النص السردي، ولذلك يستثمر المبدعون خصائص الأجناس الأدبية في الكتابة؛ فالسارد – مثلا – يتخذ من مكونات السرد )الشخصية، الزمان والمكان، اللغة…( فضاء ليمارس عملية الخلق والبناء، ويستثمر في ذلك ما تتيحه له اللغة من إمكانيات وقدرات، فيختار منها ما يراه كفيلا بتحقيق الأثر البلاغي والجمالي في المتلقي، لذلك يسعى إلى التحليل لكشف تلك التقنيات، ويحاول من خلال القراءة المباشرة، والتأويليه أن يقف على ما تحمله مفرداته، وتراكيبه، وصوره من أسرار التميز الفني وسحر الكلمة، وقوة التعبير.
لا شك أنّ “المبدع يعمل على تجسيد رؤيته للواقع، ويعمل جاهدا – في الوقت نفسه – على تجاوز الأطر الصياغية المألوفة حتى لا ينزل بخطابه إلى مستوى التعامل الحياتي للغة، و هنا تأتي الحاجة إلى اقتناص كلّ مظاهر الثراء في اللغة، واصطياد ما تحمله من تنوع لتحقيق الهدف الجمالي”(53) وصناعة القول الجميل، البليغ، المؤثر. وتعتبر الأشكال البديعية – بما فيها التقابل- من أكثر الظواهر اللغوية التي يلجأ إليها المبدع، لتشكيل عوالمه التخيلية، وخلق الآثار الدلالية والبلاغية المنشودة.
إنّ التقابل يشمل مختلف أشكال الكتابة: شعرا ونثرا، “لأن بلاغة وجمال القول وإبداعيته هو صناعته بطريقة تقابلية، تتخذ لها أبعادا ومستويات عديدة، يبرزها التحليل النقدي والأدبي، الذي ينطلق من هذا البعد الجمالي، والتأويلي في فهم النصوص والخطابات، ولعل أكبر أسرار “أبي الطيب المتنبي” – مثلا – في أشعاره وإشغاله للناس، هو البناء التقابلي البديع الذي تتأسس عليه نصوصه. ويمكن لأي متمعن في أشعاره أن يلاحظ ذلك الازدواج المعنوي”(54)، سواء اعتمد على التضاد أو المقابلة أو التشبيه أو غيرها. ونشير هنا إلى أننا لن نضيق مجال البحث بالمبالغة في وضع الحدود الفاصلة بين المصطلحات التي لها علاقة بالتقابل، مثلما ساد في الدرسات القديمة التي كان أصحابها يبالغون في وضح الحدود والفوارق بين هذه المصطلحات، لأننا لو تأملنا قليلا هذه المصطلحات، نجد أنه يكمن أن يختزل الحديث عنها، في النص اللغوي، أو الأدبي في مصطلح جامع، يلم شتاتها، ويكون أكثر نجاعة في الدراسة، هذا المصطلح هو(التقابل)؛ فكما هو معلوم، فالتقابل يسع “التضاد، والتناقض، والاختلاف والطباق، والتماثل، والتوازي، فالمقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد…”)55(.
إذا، فالتقابل باعتباره أسلوبا أو طريقة تبنى عليها النصوص والخطابات، يمكن أن نتخذه وسيلة للكشف عن أسرار النص على المستويين البنائي والموضوعي، وهو آلية يمكن أن نطبقها على أي نص مهما كان جنسه، لأن قوانينه وتجلياته حاضرة في مختلف النصوص. لكننا لن نتوقف عند الحدود الضيقة للتقابل عند مستوى الألفاظ والجمل، بل سوف نكشف عنه على مستوى النص ككل.
Be the first to comment on "التقابل في الدراسات السردية"