عمودية الشعر من منظور الجد والهزل في رسالة الغفران
بقلم الباحث: حميد فؤاد، من المغرب
تأتي رسالة الغفران في إطار الرد على رسالة ابن القارح، وهي بهذا تعد جوابا على رسالة أرسلها إليه يذكر فيها شوقه إلى لقائه، وينحى فيها على الزنادقة، ويتنقص الوزير المغربي صديق أبي العلاء، فأجابه أبو العلاء بهذه الرسالة الطويلة والتي يمكن عدها ” كوميديا إلهية” مسرحها الجنة والنار، وقد ضمنها فنونا شتى من اللغة والأدب والأخبار. وعمد في تصوير شخصيات الرسالة إلى تصوير ناطق، ولاسيما ذلك الوصف الذي تناول به بشار بن برد، الذي حرم بصره في الدنيا ثم أعيد إليه في الآخرة ، لا ليُسرَ به، بل ليبصر أنواع العذاب ويذوق طعمها.
إن شخصيات “رسالة الغفران ” اصطفاها أبو العلاء على شاكلته؛ فهي ليست شخصيات من ورق كما يحلو أن يسميها نقاد الرواية والقصة، وإنما هي شخصيات من عالم الشعراء واللغويين والمغنيين…وذلك لتأليف وحدة مسرحية مكتملة الأركان، ناطقة بما كان يدور في عالمه النفسي والخيالي.
وترى الدكتورة عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ أن رسالة الغفران هي مسرحية تتألف من ثلاثة فصول، وهي : الجنة والجحيم، ثم العودة إلى الجنة.
ينطلق هذا المشهد المسرحي برفع الستارة عن ابن القارح ونهوضه من قبره تلبية لنافخ الصور وهو الأمر الذي قام به سكان القبور. بهذا تصبح الرسالة في بدايتها محاولة ابن القارح الولوج إلى الجنة بعد نيل الشفاعة والمغفرة، وهناك يجتمع إلى من نعموا بالفوز، ثم يَعْرُجُ على النار فيتحدث إلى من تشملهم المغفرة.
إن أبا العلاء المعري جعل من رسالته عوالم تتخذ من النار والجنات المختلفة في طبيعتها وأماكنها( جنة الإنس وجنة العفاريت، جنة الحيوانات والجنة اليانعة المزهرة المثمرة، ثم الجنة الذابلة القاحلة التي تكاد تشرف على النار. لقد راح أبو العلاء في رسالته يفلسف الماضي والمستقبل، من خلال تركيزه على الوحدة الشعرية التي تلعب دورا فعالا في رسالة الغفران، فجعل المشهد الأول تدور أحداثه ووقائعه في الجنة، والمشهد الثاني تدور أحداثه ووقائعه في النار. واختار لمن اصطفاهم في جنته صفات فلسفية تتوافق إلى حد بعيد مع المبادئ الفلسفية التي آمن بها. ورغم مدح علي بن منصور ( ابن القارح ) لخازن الجنة، فإنه لم يشفع له بالدخول إليها، وذلك لأن المبادئ الفلسفية والقيم الأخلاقية في النعيم لا تنسجم مع ما جاء به علي بن منصور في شعره من الأحاسيس والمشاعر العشوائية، التي كان يقرض بها خزنة الجنة، أما النار فقد جعل وقودها الشعر والشعراء الخرجين عن معادلته الفلسفية والأخلاقية.
ولئن ورد تعريف المعري للشعر في الجزء الفني من رسالة الغفران مقتضبا، فقد دلنا تعليقه الشعر بالغريزة ( الذوق ) علة مفتاح يعننا على فهم ولعه بدراسة العروض والقافية ولوازمها الكمالية. قال على لسان بطل من شعراء الغفران ؛ وهو تميم بن أبي الرضوان” أمين الجبار الأعظم على الفراديس “: ” والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط؛ إذا زاد أو نقص أبانه الحس”.
ولما كان أبو العلاء يسعى إلى البرهنة عن الأسباب التي تخرج الشخص من النار إلى الجنة، فإنه استدعى مجموعة من المقاييس لذلك، و نحن سنركز عن الجوانب المرتبطة بالشعر. ومن بين المقاييس التي اعتمدها المعري في رسالته بهذا الشأن، نذكر:
1- إيمان الشاعر بالله وبالحساب والتصديق بالبعث. يورد المعري هذا في رسالته على لسان الأعشر، يقول:” قلت لعلي: وقد كنت أؤمن بالله وبالحساب وأصدق بالبعث وأنا في الجاهلية الجهلاء، فمن ذلك قولي:
فما أيْبُــــلــــــيٌ على هيـكـــلِ بـنــــــاه وصلَّبَ فيه وصارا
يُراوحُ من صلــــوات الملـيك طورا سجودا وطورا جؤارا
بأعظم منك تقىً في الحساب إذا النسمات نَفَضْــنَ الْغُبَارَا “
نجد الأعشى، رغم أنه عاش في الجاهلية، إلا أنه نال عفو الرسول صلى الله عليه وسلم، بأبياته هذه التي يمدح فيها خير البرية، فدخل الجنة.
2- سلامة النفس من كل شوائب الرذائل، وتطلعها إلى أسامي الأعمال، واجتناب كل ما يخل بمرؤة إنسان، وهنا يورد المعري حواره مع زهير بن أبي سلمى والذي عاش في الجاهلية، ومع ذلك حظي بالجنة، وهذا راجع إلى وصيته لآبنه، يقول:” فأوصيت بني وقلت لهم عند الموت: إن قام قائم يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه ولو أدركت محمدا لكنت اول المؤمنين، ويقول في أحد أشعاره:
فلا تكتـمــــن الله ما في نفوسكم لِيخْفَى، ومهما يُكْتَمِ الله يعلمِ
يؤخر، فيوضع في كتاب، فيدخر ليوم الحساب، أو يعجل فَيُنْقَمِ
3- تضمن الشعر لحكمة مأثورة تثبت قدرة الخالق سبحانه، نحو قول عبيد بن الأبرص:
مَنْ يسألِ الناسَ يَحْرَمُوهُ وســــــائلُ الله لا يَخِيبُ
4- التحلي بسمات الحسن والكرم، وفعل الخير، وتقديم المساعدة.
5- الإقبال على حج بيت الله، يقول ألم تسمع قولي:
فلا لعمرُ الذي قدْ زُرْتُهُ حِجَجا وما هريقَ على الأنصابِ من جسدِ.
6- ايراد بيت أو أبيات من الشعر تعظم الدين وتحث على فعل الخير.
7- ارتباط عملية النظم بتعاليم الدين.
8- الجودة والتفوق معيارها التشبث بالقيم الدينية والأخلاقية.
9- الجودة تقتضي شهرة قصيدة أو أبيات معدودة من خلال مقاطع ترددها الألسن.
10- الشاعرية لا تتحدد بمجموع شعر الشاعر وإنما تتحدد بقطعة أو شظية من تُسْمِهِ إلى الأبدية.
11- الصدق في القول الشعري، يزرد في هذا الباب المعري نصا في غاية الأهمية، فيقول: ” بما وصلت إلى الشفاعة؟ فيقول: بالصدق، فيقول: في أي شيء: في قولي- إشارة إلى الحطيئة-:
أبت شفتاي اليوم إلا تكـــلما بهجر، فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه، وقبح حـــامله!”
12- قوة النظم وحسن البديهة، ” فيقف بذلك الموقف ينادي : أين عدي بن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان، فيقول: الذي يستشهد النحويون بقوله:
ضربت صدرها إلي وقالت يا عدي لقد وقتك الأواقي “
13- جزالة اللفظ واستقامته، يقول المعري” فاخبرني عن هذا البيت الذي يروى لك:
أرعدوا ساعة الهياج وأبرقـ ـنا كما توعد الفحول الفحولا.
فإن الأصمعي كان ينكره ويقول: إنه مولد، وكان أبو زيد يستشهد به ويثبته. فيقول: زعم الأصمعي أنه لا يقال أرعد وأبرق في الوعيد ولا في السحاب.
فيقول: إن ذلك لخطأ من القول، وغن هذا البيت لم يقله إلا رجل من جذام الفصاحة، إما أنا وغما سواي، فخذ به واعرض عن قول السفهاء.”
إن المعري قد أقصى المحدثين من عالمه الأخروي، لأنه في نظره لا يستشهد بشعرهم، واكتفى بالحديث عن الشعراء القدماء الذين عاشوا في الجاهلية أو في صدر الإسلام، المر الذي يضعنا في قضية الصراع بين القديم والجديد. فهنا المعري ينتصر إلى القديم بدافع كون هذه الأشعار ضمنت معايير الجودة لدية. إلا انه يثير في رسالته قضايا لغوية مختلفة واقتصر على الأوئل؛ ولم يذكر من بين المولدين إلا بشار بن برد، الذي كان يعتبر آخر القدماء وأول المحدثين.
في القسم الثاني ركز اهتمامه على المحدثين، وثم الحديث فيه عن شعراء ومتصوفة ومتكلمين تميزوا بآراء غريبة أو حسبوا من الزناديق.
ختاما:
من هنا يمكن تسجيل إن عمود الشعر نظرية شكلية، أحاطت بكل جوانب القصيدة وعملية تأليفها، ووضعت قواعد لهذه العملية، وقد فرق بين مستويين للنظر: الأساس الأخلاقي، والمعيار الفني. بيد أن الأساس الأخلاقي لعمود الشعر يتمثل في كون الشعر على هذا الأساس نظرية فاعلية اجتماعية. والفاعلية الاجتماعية إنما تعني تزيين الفضائل والتعبير عنها في إطار نظام متكامل من القيم.
عمود الشعر، إطار واحد، يجب على الشاعر أن يطبع عليه، فالصنعة في الشعر تقود إلى التوعر والفساد، وكل معاناة خارج هذا الإطار بدعة، والفطرة هي مقياس الجودة، والطبع هو إحساس بالشكل النهائي وتفكير من خلاله. ولقد نظر أبو العلاء المعري لعمود الشعر وفق قالب مزج فيه بين الجد بالهزل، وأورد الوهم موارد الحق، وذكر النعيم في الجنة وقارنه بأرفع ما وصف الشعراء من اللذات، ثم التفت إلى فضل الباقية على الفانية كثيرا، ويعظ أهل الأدب في ما يقولون وما يفعلون بصورة مباشرة وأخرى غير مباشرة، وكل هذا اقتضاه بناء الجزء الأول من الرسالة “رحلة الغفران”، لكنه خلط ذلك كله باستيهامات الخيال المبنية على المضمون النقدي الذي أدخل وأخرج من الجنة، ورفع وخفض في درجات الشعراء فيها بمعايير نقدية فنية، وأخرى أخلاقية. وبهذا فقد بنى تصوره عن الجنة في الرسالة على مزيج من صحيح المنقول وأوهام وأغاليط، لا تصح عقلا ولا نقلا، كالذي ذكره في الحور ومنزلة آل البيت والحساب .
هوامش:
1- أبو العلاء المعري : رسالة الغفران. دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان، وضع حواشيه وقدم له الأستاذ علي حسن فاعور، الطبعة
الأولى:1410هـ / 1990م، ص:66.
2- نفسه، ص: 69.
3 – انظر صفحات الكتاب،( 70-71-72-73)
4- انظر: ص 77.
5 – المصدر نفسه، ص: 135.
6 – نفسه، ص: 161.
7 – نفسه، ص: 162.
حميد فؤاد
h.hamid1981@outlook.com
Be the first to comment on "عمودية الشعر من منظور الجد والهزل في رسالة الغفران"