تعاون العقل و العاطفة على الخير للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين مقال مطول جاء في ٢٢٢٦ كلمة و٧٤ فقرة تكلم فيه عن موضوع الدين و العوطف وأنواعها في النفس مثل العاطفة الدينية و العاطفة الشريفة ، يستغرق للقراءة بصمت للقارئ السريع ٢٢ دقيقة
تعاون العقل و العاطفة على الخير للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
تعاون العقل و العاطفة (١)
في النفس قوة النظر والفكر، وذلك ما نسميه بالعقل، وفي النفس قوة الميل إلى الشيء والرغبة فيه،
وذلك ما نسميه بالعاطفة؛ فالعقل يدرك حسن الشيء أو قبحه، والعاطفة تجعل النفس محبة له راغبة فيه.
وإذا حدثناكم عن العقل، فإنما نريد العقل السليم، فإن هذا هو العقل الذي يدرك في أغلب أحواله الخير أو الشر على ما هو عليه.
ولا أسْلَمَ من عقل تربى في أحضان الدين الحق، وتغذَّى بلبان حكمته الغرَّاء.
أما العاطفة فقد تتجه إلى ما يألفه العقل، وتسير مع العقل جنباً لجنب، وهي العاطفة الشريفة المحمودة،
وقد تتجه إلى ما ينكره العقل، ويكون العقل في وادٍ وهي في واد، وهي العواطف التي نسميها أهواءاً وشهواتٍ جامحةً.
تعاون العقل و العاطفة : اختلاف العقل والعاطفة
يدرك العقل الخير والشر، ولا سِيَّما عقلاً يزنهما بقسطاس الشريعة العادلة،
ولكن العاطفة قد تنصرف عن الخير، وتأخذ بزمام النفس إلى ما هو شر، فتُعَدُّ مناوئة للعقل، خارجة عن سلطانه.
وقد نبه القرآن المجيد لهذا النزاع، وحذَّر من الانحطاط مع العواطف فقال _تعالى_:
[وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ]
البقرة:216.
فالنفوس قد تحب الشيء وحقها أن تكرهه؛ لأنه شر، وقد تنفر منه وحقها أن ترغب فيه؛ لأنه خير.
وينبني على هذا التنبيه أن الإنسان لا ينبذ الشيء لأول ما تنقبض منه العاطفة،
ولا يمد إليه يده لأول ما يحس تعلق العاطفة به، بل يرسل فكره في طلب الاستدلال على أنه خير حتى يتعاطاه، أو أنه شر حتى يتحاماه.
يختلف العقل والعاطفة، وإذا تعلقت العاطفة بما أنكره العقل كانت العاطفة هي الخاطئة، ومن جرى في عمله على إرضائها فقد ازدرى العقل، وضل سواء السبيل.
وليس من الممكن أن يدرك العقل الناشئ في مهد العلم الصحيح شيئاً ويذعن له، ثم تخالفه العاطفة، فتميل إلى غير ما أذعن له العقل، ويكون كل منها على هدى.
وقد زعمت طائفة من المناوئين للدين الحق أن قضايا الدين تتقبلها العواطف، وقضايا العلوم تتقبلها العقول، وأن العواطف قد تتقبل أشياء لا تسلمها العقول،
ولم يَكْبُر عليهم أن يقولوا: إن قبول العاطفة للقضية الدينية وإنكار العقل لها لا يتنافيان،
قالوا هذا حين قصدوا لصرف الناس عن وجهة الدين من طريق المداجاة والمخاتلة، فتسمعهم يقولون لمن أرادوا إغواءه:
إن الدين لا يَلْزَم أن يكون مطابقاً للعلم؛ لأن العلم يجيء من ناحية العقل؛ فنقبله على أنه ثمرة الفكر، وإن الدين نتقبله بقلوبنا وعواطفنا ولا يضره عدم تسليم العقل.
تعاون العقل و العاطفة : لا يقرر الدين شيئاً فينكره العقل
وقد يأتي أولئك المخادعون إلى أشياء قررها الدين وهي في زعمهم مخالفة للعلم،
ويتظاهرون بأنهم يؤمنون بما جاء به الدين فيقولون: هذا قرره العلم فنتقبله بعقولنا، وهذا قرره الدين فنتقبله بعواطفنا.
ونحن نفهم أن الدين الحق قد يقرر شيئاً من الأحكام يقصر العقل عن فهم حكمتها،
ككون صلاة المغرب ثلاث ركعات، أو يخبر بشيء يعجز العقل أن يقيم الدليل على إثباته كبعض الأخبار الواردة في الجنة أو النار.
ولكنا ننفي نفياً قاطعاً أن يقرر الدين شيئاً فينكره العقل، أي أن العقل يستطيع أن يقيم الدليل المقبول على انتفائه.
فالحقيقة التي نصدع بها موقنين، ونخرج من مقام الدفاع عنها ظافرين هي أن كل ما يقرره الدين لا تجرؤ العقول على إنكاره، إلا عقولاً لا ترجع في إنكارها إلى منطق صحيح.
تعاون العقل و العاطفة : الإفساد من ناحية العواطف
والذين يريدون استهواء أفراد أو جماعات إلى مذهب زائغ أو عمل فاسد يتجنبون أن يأتوهم من ناحية العقل والمنطق؛ لعلمهم أن العقل والمنطق إنما يقفان بجانب الحق والفضيلة،
فتجدونهم يلجأون إلى أن يأتوهم من ناحية العواطف، حتى إذا وجدوها مستعدة لأن تنحدر في طريق غير طريق العقل أخذوا يجاذبونها، ويغذونها بما يزيد في عوجها،
حتى تخرج عن سلطان الحكمة، وهذا ما يفعله الدعاة إلى غير هداية، من نحو إعداد مستشفيات أو ملاجئ ينصبونها حبائل؛ لاصطياد الغافلين من المسلمين.
وكذلك يفعل الملاحدة، والإباحيون؛ إذ يتخذون في وسائل إغواء فتياننا وفتياتنا، وإبعادهم عن حظيرة الدين، فتح باب الشهوات في وجوههم، من نحو استحسان التبرج واختلاط الجنسين،
حتى يبلغ بعضهم أن يقول في غير استحياء: إن الدين لا يمنع من اختلاط الفتيان بالفتيات.
وقد حذر بعض الحكماء من الطائفة التي تأتي الناس من ناحية أهوائهم، فقال: أخوك من صدقك، وأتاك من ناحية عقلك لا من ناحية هواك.
والظالمون المستبدون يعملون على هذه الشاكلة؛ حيث لا يجدون من ذوي العقول الراجحة أولياء؛
فيفتشون عمن ينقادون إلى عواطفهم _ أي أهوائهم _ دون عقولهم، فيتخذون منهم أعواناً، ويشبعون أطماعهم بالأموال والمناصب وغيرها، من الملاذ المادية.
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أكثر أعوان الظالمين هم من ذوي النفوس التي تجري مع العواطف السافلة، ولا تقيم لنصائح العقول وزناً.
تعاون العقل و العاطفة : التوجيه القرآني للعواطف
وقد جاء القرآن الكريم إلى عواطفَ شأنها أن تجمح بالإنسان إلى حيف، أو تصده عن القيام بواجبه؛ فحذر من الإفراط في مسايرتها، مثل الأبوة والبنوة والزوجية والصداقة،
قال _ تعالى _:
[إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ]
التغابن:14.
وقال _ تعالى _:
[قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]
التوبة 24.
ونظر شارع الإسلام إلى عواطف يغلب عليها الخروج عن حد الاعتدال، وبنى الحكم على ما هو الغالب عليها من الإفراط والغلو،
كما جعل الأبوة والبنوة والزوجية من وجوه الطعن في الشهادة، فلا تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا شهادة الأب لابنه، وإن كانا معروفين بالعدالة؛
ذلك أن عاطفة الأبوة أو البنوة قد تطغى؛ فتقع بصاحبها في شهادة غير صادقة.
وقد يتنازع العقل والعاطفة إرادة الشخص إلى أن يتغلب سلطان أحدهما على سلطان آخر،
وكثيراً ما تحذر الشريعة السمحة من الانقياد إلى العاطفة التي تثور على سلطان العقل،
كما قال _ تعالى _:[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ]النور:2.
فالعقل يتجه إلى ما يوجهه إليه الدين من إنكار السفاح, واستحسان إقامة الحد على مرتكبه ,
ولكن عاطفة الشفقة قد تهز في القلب , فتجعله ينفر من إجراء العقوبة على الزاني , وهذا ما يحذر منه كتاب الله بقوله: [وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ].
والذين ينكرون بعض ما شرع الله من الحدود كقطع يد السارق، وجلد القاذف ورجم الزاني المحصن _ لا يرجعون في إنكارهم إلى رَوَيَّةٍ ونظرات في المصالح والمفاسد صحيحة،
وإنما أخذوا إلى ما يقولون بعاطفة عمياء, أو ذوق غير سليم.
تعاون العقل و العاطفة : العاطفة القوية دليل قوة البصيرة
تقوى العواطف وتضعف, والتغلب على العاطفة القوية دليل قوة البصيرة, وإيثار الفضيلة على الرذيلة؛
فمن يخرج للحرب مثلاً, وقد ترك وراءه رزقاً واسعاً, وأهلاً يعز عليه فراقهم يفضل من خرج إلى الحرب ولم يترك من ورائه شيئاً يأسف عليه.
وأراد جرير أن يبالغ في مدح قوم بطموحهم إلى أقصى مراقي المجادة, فنبه على أن العواطف التي شأنها أن تصرفهم عن هذه الوجهة لا تنال من عزائمهم شيئاً, حيث قال:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بأطهار
ونبه آخر على أن عاطفة المحبة لا تشغله عن واجب الدفاع, فقال:
وترانا يوم الكريهة أحرا
راً وفي السلم للغواني عبيدا
تعاون العقل و العاطفة : درجات الشجاعة
وإذا كانت الشجاعة درجات فإن هذه الدرجات ترتفع على قدر ما يقاوم الإنسان من العواطف الشخصية, ويرمي بها وراء ظهره.
قال عبد الملك بن مروان لجلسائه: =من أشجع الناس؟ فأكثروا من ذكر الأبطال,
فقال لهم: أشجع الناس مصعب بن الزبير, جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة الحميد بنت عبد الله بن عباس, وولي العراقين,
ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان والمال والولاية, فأبى أن يقبل ذلك,
واطرح كل مشغوف به في ماله وأهله وراء ظهره, وأقبل بسيفه قرماً يقاتل ما بقي سبعة نفر, حتى قتل كريماً+.
وعلى هذا المنوال يجري كثير من خصال الحمد كالكرم والإنصاف, قال المتنبي:
الجود يعدم والإقدام قتال
لولا المشقة ساد الناس كلهم
والمشقة التي تعرض لطالب السيادة هي التعب الذي يلاقيه في مخالفة ميول نفسه, من نحو حب الحياة, والحرص على الاستئثار بالمال، والتوسع في الاستمتاع به.
وشأن الإنسان حب الانتقام ممن ألحق به أذى, فإذا كان للأذى الذي لحقه وجه من حق,
وكان الذي ألحق به الأذى على جانب من الفضل كان مدحه له بدل هجائه؛ تقديماً لداعي العقل على العاطفة الجامحة, وذلك هو الإنصاف.
كان سعيد بن الجودي عاقب المقدام بن المعافى وكان شاعراً, وشأن هذا العقاب أن يهيج في نفس المقدام بغض سعيد وحب الانتقام منه بما يقدر عليه من الهجاء,
ولكن المقدام رثى سعيداً بعد موته, فقيل له أترثيه, وقد أصابك بالضرب؟ فقال: والله إنه نفعني حتى بذنوبه,
ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي, أفلا أرعى له ذلك؟ والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي بعد موته؟
تعاون العقل و العاطفة : توافق العقل والعاطفة:
يدرك العقل حسن الشيء وصلاحه, وتسايره العاطفة.
والأمر الذي يستحسنه العقل، وتتجه إليه العاطفة تقبل عليه النفس بعزم صارم,
وتسعى له بكل ما أوتيت من استطاعة وذلك معنى تعاون العقل والعاطفة على الخير .
اتجاه العاطفة إلى ما يتجه إليه العقل, يجعل الأمر الصعب سهلاً, والغاية البعيدة قريبة, والطريق الوعر مُعَبَّداً؛
لهذا نرى القران الكريم بعد أن يدعو الناس إلى ما فيه خيرهم قد يأتي النفوس من ناحية العواطف؛
إذ يعقب الأمر بما شأنه أن يثير حماستها, وخذوا مثلاً أمره بدفاع العدو في قوله:[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ]البقرة:190.
فشأن المسلم أن يتلقى أمر الله بالامتثال لقيام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير,
ولكن الأهواء قد تستولي على القلوب, وتعوقها عن امتثال أمر القتال؛
فأخذ القرآن يهز العواطف حتى تتضافر هي والعقل على العزم والثبات في مواقف الدفاع,
إذ قال _ تعالى _: [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً+التوبة:8.
فذكرهم فرض القتال بأنهم إذا تهاونوا بأمر الدفاع عن أوطانهم بسط عليهم العدو سلطانه, واستبد فيهم لا يرعى لهم عهداً ولا ذمة.
وليس من شك في أن التذكير بهذه العاقبة المشؤومة يثير في نفوس الأمة رغبة شديدة في الاحتفاظ باستقلالها إن كانت مستقلة، أو في الأخذ بأسبابه إن كانت مستعبدة.
وإن شئتم أن تزدادوا خِبْرةً بأثر العاطفة من الإقدام على العمل الصالح بقوة _ فانظروا إلى رجلين اتحدا في مقدار ما تلقياه من العلوم الدينية،
وأحدهما مُتَّقِدٌّ حماسة، مجدٌّ في الدعوة إلى سبيل الله، متفانٍ في الذود عن حياض الشريعة،
والآخر منهما خِلْوٌ من هذه الحماسة، فلا يؤلمه أن يرى حرمة الدين منتهكة، وكلمته غير نافذة، ونفوس الناشئين عنه منصرفة؛
ذلك أن الأول متفقه في الدين، وتربَّتْ له مع هذا التفقه عاطفةٌ نحوه.
أما الآخر فتلقى علوم الدين، وإنما صارت لمسائله صورة قائمة في ذهنه، دون أن تكون بجانبها عاطفة.
تعاون العقل و العاطفة : شدة العاطفة الدينية
والعلماء الذين كانوا يواجهون ذوي السلطان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يبالون بما يلاقونه في سبيل الدعوة من الأذى،
مثل سعيد بن المسيب، وعز الدين بن عبد السلام، ومنذر بن سعيد البلوطي،
إنما امتازوا عن غيرهم من أهل العلم بشدة العاطفة الدينية المتدفقة غيرةً وحماساً.
وقد تتعارض العاطفة الدينية والعاطفة الشخصية، والكيس من يقدم العاطفة الدينية، ويرمي بالعاطفة الشخصية إلى وراء،
وأسوق إلى حضراتكم مثلاً لهذا هو أن الخليفة هارون الرشيد كان جالساً بجانب القاضي أبو يوسف، فدخل يهودي رافعاً إلى القاضي دعوى على الخليفة،
ومراعاةً للتسوية بين الخصمين في مجلس الحكم قام أبو يوسف من مكانه وأشار إلى اليهودي بأن يجلس به حتى يكون بجانب خصمه الذي هو الخليفة،
وقضى لليهودي على الخليفة، ولكن أبا يوسف ذكر أن قلبه كان يميل إلى أن يكون الخليفة هو المحق، واليهودي مبطلاً، وكان يتألم من هذا الميل القلبي، ويستغفر الله منه.
فانظر كيف كان في نفس أبي يوسف عاطفة شخصية نحو هارون الرشيد جعلته يحب انتصاره على اليهودي،
وكان في نفسه عاطفة دينية تدعوه إلى أن يصدر الحكم على نحو ما أمر به الدين من العدل،
فأجاب داعي العاطفة الدينية فأصدر حكمه في القضية على ما أذن به الدين، وأعرض عن داعي العاطفة الشخصية جانباً.
تعاون العقل و العاطفة : تجاذب العاطفة الشخصية
وقد يتجاذب العاطفة الشخصية كعاطفة الصداقة ناحيتان تقتضي إحداهما مسلكاً، وتقتضي الأخرى مسلكاً غيره،
والكيِّسُ يزن الناحيتين، ويقدم الناحية التي ينصح بها الدين ويرتضيها العقل.
قال السلطان صلاح الدين الأيوبي يوماً للقاضي الفاضل: لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب؛ فلعله مريض؛ امض إليه، وتفقد أحواله.
فلما دخل القاضي الفاضل دار العماد، وجد أشياءً أنكرها في نفسه مثل آثار مجالس الخمر، وآلات الطرب، فخاطبه منشداً:
ما لم ينلك بمكروه من العَذَلِ
ما ناصحتك خبايا الودِّ من رجل
بأن أراك على شيء من الخلل
محبتي فيك تأبى أن تسامحني
فلما قام من عنده أقلع العماد عما كان فيه، ولم يعد إليه؛
فعاطفة المودة قد تدعو إلى الإغضاء عن معايب الصديق؛ لأنَّ تنبيهه إلى العيب قد يؤلمه،
وربما أحدث جفاءاً بين الصديقين، وقد تدعو إلى تنبيهه لبعض ما يأخذه عليه الناس متى أبصروه،
وهذا ما يدعوه إليه الدين، وتنادي به الفضيلة.
وكان ابن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك مِنْ صحبة مَنْ غايته خاصة نفسه،
والانحطاط في هوى مستشيره، ومن لا يتلمس خالص مودة أصدقائه إلا بالتأتي لموافقة شهواتهم.
تعاون العقل و العاطفة : كيف تربى عاطفة الخير ؟:
عواطف الخير كثيرة، وتربى العاطفة الشريفة ببيان ما يترتب على العمل من فوائد عامة أو خاصة؛
فقد يعتقد الإنسان بصلاح عمل من جهة ثقته بحكمة من يأمره به؛
أو لأنه اطلع على فائدة من فوائده؛ فيجد داعية إلى إجابة الأمر،
ولكن هذه الداعية قد تبدو ضعيفة حيث لم يكن بجانبها عاطفة قوية تسهل عندها الصعاب، وتتضاءل أمامها العقبات.
وتقوى العاطفة نحو الشيء بقدر ما تعرف النفس من فضله وحسن عواقبه،
فصدور الأمر بالشيء من الشارع الحكيم مثلاً هو كاف لقبول الإنسان له واعتقاده بصلاحه،
ولكنه ينهض للعمل بنشاط أوفى، وعزم أمضى، متى ازداد علماً بما يترتب عليه من الآثار الحميدة.
وتربى العاطفة الشريفة بالأساليب البارعة من نحو التشابيه والاستعارات، وضرب الأمثال، حيث يُعْرَضُ الشيء المطلوب فعله،
في صورة شيء تألفه النفوس وترغب فيه، فقد تدرك النفس حسن الشيء المطلوب فعله،
ولكن عرضه في صورة ما ألفته واتجهت إليه من قبل يجعلها تزداد ارتياحاً له، ورغبة فيه.
ومن هنا كان الشعر مثيراً للعواطف، وصح أن يستعان به في توجيه النفوس إلى كثير من أعمال الخير.
وقد سلك القرآن الكريم في تربية العواطف هذا المسلك البديع،
وكان لضربه الأمثال أثر عظيم في تثبيت حكمه البالغة في النفوس، وتنمية العواطف الدافعة إلى عظائم الأمور.
وخلاصة البحث: أن أطيب الناس حياةً، وأرفعهم في المجد مقاماً، وأوفرهم من خصال الحمد ثروة ذلك الرجل الذي رزق عقلاً سليماً، وديناً قيِّماً،
ورزق بجانب ذلك عواطف شريفة تتوجه حيثما توجه العقل، ولا تنساق إلاَّ إلى ما يرتضيه الدين الحق.
نهاية مقال : تعاون العقل و العاطفة
الهامش
(١) مجلة الهداية الإسلامية، الجزءان الثالث، والرابع من المجلد الرابع عشر ص148_157.
#اسماء_مقالات_مميزة
#مقالات_في_المشاعر_والعواطف_الإنسانية
#محمد_الخضر_حسين
اقرآ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى