فوائد تتعلق بوزارة التربية والتعليم .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم
أولاً : فوائد تتعلق بوزارة التربية والتعليم
من المفهوم المشهور ، الذي لا يحتاج إلى إيضاح ، أن هؤلاء الشباب لا يمكن أن يقرؤوا كتب الفقه والتفسير والحديث ولو طبعتها على ورق أبيض ، فأخرجتها عما ينبزونها به من أنها (كتب صفراء) ولا يمكن أن يدخلوا المساجد فيستمعوا فيها درس العلم ، أو يحضروا مجالس الوعظ لأنهم نفروا منها وأبعدوا عنها ،
ولا يمكن أن يتعلموا علوم الدين في مدارسهم (النظامية) الرسمية ، لأن القائمين عليها ، في مصر والعراق والشام ، لم يقتنعوا إلى اليوم بأن للدين علوما محترمة تستحق أن تضيع في درسها سبع ساعات في الأسبوع ، ولم يروا في علوم الدين ما هو أهل ليعنى به كعنايتهم بالرسم والغناء .
ونسوا ، أنهم لم يعلموا ، أن من الأوربيين من يهتم بهذه العلوم ، ويربع من قدرها ، ويعلي مكانها ، وأن رجلا جرمانيا اسمه (برتزل) قدم علينا الشام منذ سنوات ، فعرفنا بنفسه ، وأرانا بطاقته ، وإذا هو قد كتب عليها (فلان : متخصص بقراءة القرآن الكريم) يفخر بذلك ويعتز به ،
وسأل عن الذي طبع كتاب (النشر في القراءات العشر) فلما لقيه أكبره وعظمه ، وعلمنا بعد أنه ملم بعلم القراءات ، عارف برواياتها ، قارئ للقرآن الكريم ، ناشر لكتب في هذا العلم عدة ، ومن شبابنا من لا يعرف ما الإدغام وما الإخفاء ،
وما المخارج وما الأداء ، ويرى اشتغاله بذلك ذلة له ، لأنه لا يشتغل به ( على ما أفهموه …) إلا رجعي غير متمدن ، وشيخ جامد … وأمثال (برتزل) أكثر من أن يحيط بهم حصر . (فصول إسلامية – صفحة 142، 143)
خبرني يا سيدي هل تستطيع إذا اقتصرت على الشهادة ، وجعلتها وحدها مقياس الرجال ، وبعث الله جدك الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، هل تستطيع أن تجعله معلما في مدرسة أولية في قرية من القرى ؟ وهل يستحيل على الله أن يجعل في هذا العصر من هو كجدك ، في علمه وعمله ، وهو مثله لا يحمل شهادة ، بل إن أمامنا يا سيدي مثلا ظاهرا ، هو الأستاذ العقاد رحمه الله ، .
(ذكريات 8 – 147).
كانت لي مواقف آذيت فيها الرؤساء بمخالفتهم ، وآذوني في رزقي وفي وظيفتي بسلطانهم ، دعيت مرة أن أكون من اللجنة العليا الفاحصة في امتحان الشهادة الابتدائية (السيرتفيكا) ،
وكان يعقد له على عهد الفرنسيين امتحان عام ، وكنا يومئذ نعنى بالعربية عناية قد يعجب منها من يسمع الآن مخبرها ، من ذلك أن التلميذ الذي يخطئ في الإملاء ، أي في مواقع الهمزات وسط الكلمة ، يكسر له درجة من عشر (وكانت الدرجة الكاملة عشرا) ،
فإن كان الخطأ فاحشا كسرت له درجتان ، أي أن خمسة أخطاء في الإملاء تعطيه صفرا ، ومن أخذ صفرا في مادة من المواد ، مهما كانت ، يرسب في الامتحان ، ولو أخذ أعلى الدرجات في جميع الدروس ، كنت في لجنة اللغة العربية ، وكان رئيسها شيخنا الشيخ عبد القادر المبارك ، رحمه الله عليه ،
وقد عرفتم مما مضى من هذه الذكريات منزلته في الحفظ والاطلاع على اللغة ، وأنه كان قليل النظير، ولكنه – وأقول هذا مضطرا – كان أمام الرؤساء لينا،لا يستطيع أن يثبت في وجه واحد منهم ، أو أن يرد إرادة لهم ،
وكان المشرف العام على الامتحان مستشار المعارف ، أي مسيو راجية) الذي تقدم ذكره ،
ونشرت صورته لما كانت تنشر هذه الذكريات في “المسلمون” وكان في الشام مثل دنلوب المشهور في مصر ، وكانت أسماء الطلاب في أوراق الامتحان مكشوفة .
فجاءت ورقة لتلميذ من مدرسة نصرانية ، والمستشار يريد أن تهتم به اللجنة , وأن ينجح . أحصينا أخطاءه في الإملاء، فبلغت عشرا ، وخمس منها كافية ليرسب الرسوب النهائي في الامتحان ، أراد أهل اللين والمسايرة من إخواننا أن يعطوه ولو ربع درجة ، لئلا يأخذ الصفر ، وأصررت أنا على تطبيق النظام وعلى أن يأخذ الصفر .
وكانت مشادة ، احتكمنا فيها إلى شيخنا المبارك رحمه الله ، فكأنه مال معهم ، وكبرت المسألة حتى جاء المسيو (راجيه) ، والله بنفسه ، ومعه ترجمانه ميشيل السبع ، ويعرف القصة بعض إخواننا من المسنين ، فدخل علي فكلمني باللين ، ثم شدد في كلامه ، ثم هددني .
قلت للترجمان : بلغ سعادة المستشار أنني أعلم أنه يقدر أن يأخذ ورقة من فوق المكتب ، وأن يكتب فيها قرار عزلي من الوظيفة ، ولا يرد قراره أحد . يستطيع ذلك ولكنه لا يستطيع ، لا هو ولا أكبر منه ، أن يجعلني أوقع على ما أعتقد أنه باطل . وثبت في موقفي حتى رسب الطالب . وكان لذلك صدى في دمشق .
(ذكريات- 3 صفحة 173)
وأنا من أكثر من نصف قرن أتابع الامتحان ، أقول لك: فتشوا عن طريقة أخرى تسد مسده ، وتقوم مقامه ، فإنه ليس المقياس الصحيح .
ولقد عرضوا مرة مئة ورقة على مدرس ليقدر ما تستحق من الدرجات ، فقدرها ، ثم عرضوها عليه بعد حين ، فاختلف التقدير، وكلفوا مرة أستاذا كبيرا أن يكتب هو الجواب الصحيح الكامل ، فكتبه فبدلوا فيه قليلا ، وكتبوه بخط آخر وعرضوا عليه الأوراق فأعطاه درجة فوق الوسط .
ويختلف حكم الأستاذ على الجواب باختلاف حاله : رضا وسخطا ، وانبساطا وانقباضا ، وقد يرى الغلطة الصغيرة حينا ، ويمر حينا آخر بالكبيرة فلا يراها ، وإن كان في خصام مع زوجته ، قد هاجت أعصابه وفسد مزاجه ، ظهر ذلك في ميزان حكمه على أوراق الطلاب .
ثم إن الامتحان في بلادنا (أعني البلاد العربية) أكثره امتحان للذاكرة وحدها ، لا للتفكير ولا للعلم ، ولقد وقع لصديق لنا من قديم أن أرسل ولده يدرس الاقتصاد في إنجلترا ، فاستوعب كتبه ، وأحاط بقواعده ، فلما كان الامتحان لم يجىء السؤال مما حفظ ، بل قالوا له : هذا مصرف رأس ماله كذا له من الديون على الناس كذا ، وعليه كذا ، ووصفوا له حاله) ثم قالوا له استعمل ما تعلمت خلال دراستك برفع شأن المصرف ؟ .
وإذا كان امتحان في الطب مثلا : لا يسألوه عما حفظ من أعراض الأمراض ودرجاتها ، وأدويتها ، ولكن يعرضون عليه مريضا ، ليكشف عليه ، وليفحص عن أمره ، وليعرف حقيقة مرضه ، وليصل إلى دوائه .
وقد حاولت لما كنت مدرسا في القسم العالي أن أبدل شيئا من نظام الامتحان ، وتحت يدي وثيقة رسمية أثبتها بنصها هنا للتاريخ .
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – مكة المكرمة .؟
قسم الدراسات العليا ، التاريخ 3/3/1390هـ الرقم 263/14 ، نرفق لفضيلتكم صورة من اقتراح الأستاذ على الطنطاوي الذي أدلى به شفهيا في جلسة قسم الدراسات العليا للإطلاع عليه ودراسته في الجلسة القادمة التي تعقد يوم الاثنين 5/3/1390هـ ، الموافق 11مايو (آيار) .
عميد كلية الدراسات الإسلامية ، عبدا لله عبد المجيد بغدادي .
أما الاقتراح فهذا نصه :
السادة أعضاء مجلس قسم الدراسات العليا ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تنفيذا لقرار المجلس الكريم ، في جلسته 22 صفر أعرض عليكم خطيا الاقتراح الذي كنت أدليت به شفهيا في الجلسة ليدرسه المجلس إذا وجد فيه ما يستحق الدراسة .
وهو أن القسم العلمي إنما أنشئ ليتخرج به علماء في الشريعة . والعلم كما قالوا (في الصدور لافي السطور) ولابد للعالم من أن يكون في ذهنه صورة واضحة لقواعد العلم الأساسية ، ومسائله المشهورة ، ولكن لا يطلب منه أن يستظهر فروع المسائل وغرائبها ، ولا أن يحيط بدقائق العلم بحيث يجيب كل مستفتٍ من حفظه ، ولا أن يعرف درجة كل حديث ومخرجه ، ويحفظ ذلك عن ظهر قلب . بل يجوز له (بل ويحسن به) أن يرجع إلى الكتب قبل أن يفتي .
أي أن عمل العالم أن يعرف المراجع أولا ، فإن كان مسئولا عن حكم فقهي عرف مظان وجوده ، وإن كان يريد التحقق من درجة حديث عرف أين يبحث عنه، ثم يقوم هذه المراجع بأن يميز ما يعتمد عليه ويوثق به منها ، وما لا يوثق به ولا يعتمد عليه .
ثالثا : أن يعرف موضوع المسألة من المرجع .
رابعا : أن يفهم العبارة إذا وصل إليها ويدرك المراد منها .
لذلك أقترح أن يكون الامتحان امتحانين :
امتحانا لاختبار ملكة الطالب ومبلغ إلمامه بمسائل العلم ، واستظهاره لأمات (أي لأمهات) مسائله يجيب فيها بلا استعانة بكتاب ، ولا رجوع إلى مرجع ، كما هي الحال في الامتحانات العادية .
وامتحانا أهم ، يلقى عليه فيه (في الفقه مثلا) مسائل مما يقع للناس ويسألون عنه العلماء ، ليفتي فيها ، أو نلقي عليه (في الحديث) حديثا مما يشتهر على الألسنة ، ويتردد على الأقلام ليبين درجته ، ومبلغ الحجية فيه .
ونسمح له أن يستعين بما شاء من المراجع القديمة (لا المباحث العصرية الجديدة) بشرط أن لا يكون عليه تعليقات خطية ، ولا إشارات إلى بعض الصفحات ، ولا هوامش ولا تعليقات .
وإذا كان الامتحان الأول (أي اختبار الملكة) شفهيا كان أحسن .
وبذلك نختبر علم الطالب ومقدرته على المراجعة ، أما أن يقتصر السؤال على مواد الكتاب الذي درسه أو المقدار الذي درسه من الكتاب ، فلا يختلف عن امتحان المرحلة الابتدائية والإعدادية .. هذا اقتراحي أقدمه مع تحياتي.
23/صفر 1390هـ . علي الطنطاوي .
(ذكريات – 8 – صفحة 242 ، 243 ، 244)
يا إخواننا الدين النصيحة ، وإني ناصح لكم ، فاهتموا بمعلم الابتدائية قبل أستاذ الجامعة ، وأعطوه الكثير ، ثم طالبوه بالكثير ، فإنه الأساس ، والبناء الذي يعلو مئة طبقة في الهواء ، ومن يكون أساسه ضعيفا يهوي وينهار . لقد عرفتم أني عملت في المدارس الأولية في القرى ، وستعرفون أني عملت في المدارس المتوسطة والثانوية وعملت في جامعات كثيرة وفي أقسام الدراسات العليا في هذه الجامعات ، وأشرفت على إعداد رسالات الماجستير والدكتوراه .. وعملت بنين وبنات ومشائخ في كليات الشريعة وفي المساجد .
فهل تريدون أن أخبركم بالذي رجعت به بعد هذه الجولة الواسعة التي شملت الشام والعراق والسعودية ولبنان ومصر حينا ، وامتدت خمسا وخمسين سنة ، لأنني بدأت التعليم قبل أن أكمل أنا تعلمي .
أقول لكم الحق : لقد وجدت أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجلى للصواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية .
المعلم الابتدائي هو الأساس ، والبناء الذي حدثونا عنه في أمريكا وقالوا إن فيه مئة طبقة (مئة دور) بعضها فوق بعض لا يقوم ولا ينتفع به إن لم يحمله أساس متين غائص في الأرض . والأساس لا يرى ولكن البناء لا يقوم إلا عليه .
هذا الأساس هو التعليم الابتدائي ، لايراه الناس على حقيقته ولا يقدرونه قدره .
ولو كان بيدي شيء من الأمر ، أو كان لرأيي قليل من الوزن ، لاقترحت أن يشترط في معلم الابتدائي ، الشهادة الجامعية ، وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار، وأن يعطى مثل راتب أستاذ الشهادة الثانوية .
نطالبه بالكثير بعد أن تعطيه الكثير .
إن ضعف معلم الابتدائي لا تصلحه قوة مدرس الثانوي ولا أستاذ الجامعة . .
(ذكريات – 3 – صفحة 263)
كان عنوان هذه الكلمة ( دروس الديانة في المدارس) .
وأولها : قرأت تصريح وزير المعارف الذي بين فيه أن الوزارة لا تفكر في تخفيض عدد ساعات الديانة ، بل تبحث زيادة عددها .
وأنا أشكر الأخ الوزير الدكتور عبد الوهاب حومد ، ولم أكن أنتظر منه إلا هذا ، لذلك ترددت في تصديق ما نقله الناس عنه من أنه يريد نقص هذه الساعات ، أو إعفاء الطلاب من الامتحان في علوم الدين .
وما كتبت هذه الكلمة لمجرد الشكر بل لأنبه الوزارة إلى أمر ما أحسبها إلا متنبهة له ، عارفة به ، ولكنها تتغافل عنه ليس عندنا شيء اسمه علم الديانة ، ولا يعرفه علماء المسلمين ، وليس في مكتبتنا كتب في هذا العلم . إنما الذي عندنا : علم الفقه ، وعلم أصول الفقه ، وعلم التوحيد ، وعلم التجويد ، وعلم الحديث ، وعلم التفسير ، وأشباه ذلك من العلو م التي ألفت فيها آلف وآلف من الكتب ، وظهر فيها آلف من العلماء .
تجمعها كلها كلمة الدين ، كنا نجمع كلمة الرياضيات في المدارس بين الحساب والهندسة بأنواعها والجبر والمثلثات ، وكما تجمع كلمة الطبيعيات بين الفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم النبات وعلم الحيوان . ولو قلنا لمدرس الرياضيات أعطيناك ساعة في الأسبوع أو ساعتين لتدريس هذه المادة ، لصعق من دهشته وقال : وماذا أصنع بساعتين ؟ هل أدرس فيهما الحساب ، أم الهندسة ، أم الجبر ، أم ماذا ؟ وكل علم من هذه العلوم يحتاج إلى أكثر منها ؟ .
فكيف نطالب مدرس الدين أن يوسع ساعتين لهذه العلوم كلها ؟ .
وسيضحك كثير من “التقدميين !” من هذه المقابلة لأنهم تعودوا أن يروا الدين دائما في المرتبة الثانية ، ولأنهم ربوا على احترام هذه العلوم وتقديمها .
ولكن هل هذا هو الواقع ، أم أنهم هم المخطئون ؟ .
الصحيح أنهم هم المخطئون . وأيسر دليل على خطئهم أنهم يحكمون على الدين من غير معرفة به أو اطلاع عليه . ولو حللت ما في نفوس هؤلاء الإخوان ، لوجدت أنه ليس للدين في نفوسهم إلا صورة مشوهة ، رسمها فيها بعض من عرفوا من جهلة المشايخ ، ومن سخفاء العامة الذي يدعون التدين والصلاح .
ولقد صرح لي بهذا الأستاذ ساطع الحصري في حديث طويل كان بيني وبينه ، حيث كان يسكن في مصر في شارع شريف باشا سنة 1947 ، بحضور الأخ الأستاذ نهاد القاسم ن ونشرته في يومه .
ونحن نقر بهذه المبادئ الغربية التي تقول بفصل الدين عن العلم ، والدين عن السياسة . إنها صحيحة بلا شك، لكن بشرط أن نفهم معناها عند من وضعوها .
إن الغربيين الذي وضعوا هذه المبادئ يقصدون بالدين ما يحدد صلة الإنسان بالله فقط . ومن هنا قالوا الدين لله والوطن للجميع . أي العبادات ، وبين السياسة والعلم . إن العبادات لا تتبدل ولا تتغير بتغير السياسة وتبدل نظريات العلم .
ولكن الإسلام ليس دينا فقط يحدد صلة الإنسان بالله . بل هو دين وتشريع وقانون دولي وأخلاق . وهو يحدد صلة الأفراد بعضهم ببعض ، وصلة الأفراد بالدولة ، وصلة الدولة بالدول الأخرى ، ويرسم طريق الأخلاق والسلوك . .
(ذكريات -5 – صفحة 278،279)
فالإسلام إذن ليس دينا فقط لتنطبق عليه هذه القواعد ، بل هو نظام كامل للحياة لا يشابهه دين من الأديان التي يتبعها البشر ..
والعلوم الإسلامية بناء على هذا الأساس قسمان : قسم منها للدين فقط كالعبادات ، وهذا للمسلمين وحدهم ، وقسم هو من الثقافة العامة ، كفهم القرآن الكريم الذي هو النص البياني الأول في اللغة العربية .
ودراسة الفقه الإسلامي في المعاملات على اعتبار مصدرا تشريعيا في العلم كله ، قديمه وحديثه ، بكثرة نظرياته الحقوق وعمقها ، ولأن غير المسلمين من أمم أوربا ، تدرسه أوفي دراسة في كليات الحقوق فها ، وتعرف قدره ، وتهتم بنصوص الآيات والأحاديث من الناحية البيانية ، وما على ذلك من العلوم الإسلامية التي يجب أن يدرسها في رأيي المسلم من الطلاب وغير المسلم ، للبيان والبلاغة ، وللخلق ، وللثقافة .
وهذه كلها أمور نشترك فيها جميعا ، لأنها تراث عام ، لا يختلف فيه مسلم عن نصراني ، ولأن أعلام النصارى وفصحائهم ، وأهل البيان فيهم ، كاليازجيين ، والبستانيين وفارس الخروي وبشارة الخوري الشاعر ، وأمثالهم ، ما بلغوا هذه المنزلة في الأدب ، التي تقصر دونها الهمم إلا لأنهم درسوا القرآن، الكريم والحديث وأخذوا من بيانهما .
وما ضر الأستاذ فارس بك أنه مطلع على الثقافة الإسلامية أكثر من كثير من أهلها ، بل نفعه ذلك ، وزاده رفعة بين الناس .
فلماذا لا يدرس الطلاب جميعا هذه العلو م ؟ لا ما يتعلق منها بالدين الإسلامي وبالعبادات ، فهذا للمسلمين وحدهم . بل ما يتصل منها بهذه الثقافة اللغوية والعقلية ، وإذا كان الطلاب المسيحيون يكرهون أن يقرءوها على المشايخ فيدرس الدين ، فإن في غير المشايخ ، وإن في غير العرب ممن يستطيع أن يقرئهم هذه العلوم ، لأنهم أدركوا نفعها ، وقدروها قدرها فاهتموا بها وأقبلوا عليها وأتقنوها .
أقول هذا ليعلموا أننا لا نريد من العناية بدرس الدين وإدخاله في الامتحانات الخاصة والعامة أن نضطرهم إلى ما يكرهون ، ولا نريد أن نحتال عليهم لنجبرهم على الدخول في الإسلام وهذا الذي أقوله كلام صريح ظاهر ليس له خبئ باطن ، ما فيه إلا ما تدل عليه ألفاظه ،
أما هؤلاء الذين يدعون أنفسهم بالتقدميين ، والذين رباهم الأجانب ، والذين يرون في انتشار الإسلام (بعبع) كالذي كان يخوف به الأطفال ، ويخشون اسمه ولا يريدون الاقتراب منه ، لأن أعداء الإسلام صوروه لهم على غير حقيقته ، أو لأن بعض الجهلة من المنسوبين إليه قد أعانوا هؤلاء الأعداء على ما يريدون (والمقالة طويلة).
وبقيت المعركة مستمرة ، وكانت سجالا بيننا وبينهم ، ولكننا نتقدم خطوتين ، فيؤخروننا بعدهما أربعا .
نسهر الليل نضع بأيدينا حجرا على حجر لنقيم الجدار ، فإذا طلع النهار، جاء من يحمل المعاول الكبار ليهدم ما بنينا ، وقديما قالوا :
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ؟
هذا إذا كان الهادم واحدا ، ولكننا كنا أمام مئات لا يهدمون بأيديهم كما نبني بأيدينا ، ولكنهم يهدمون بالمعاول ، بل بالبارود والقنابل .
وكلما مر علينا يوم بكينا فيه منه ، جاء بعده غد بكينا فيه عليه ، كالذي كان مع اليهود وأنصار اليهود في فلسطين : نرفض الأمر فيه الحيف علينا ، والمضرة بنا ، ثم يأتي بعده ما هو أشد ضررا وأنكى فينا أثرا ، فنتمنى لو كان الأول قد دام ! . .
(ذكريات5 صفحة 280، 281)
#علي_الطنطاوي
Be the first to comment on "فوائد تتعلق بوزارة التربية والتعليم .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم"