الأعداء والتعليم .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم
سادساً : الأعداء والتعليم .
وهذه سنة المستعمرين في كل زمان وكل مكان ، يعمدون إلى الصغار الذي لا تزال عظامهم طرية ، وسرائرهم نقية ، وهم مستعدون لقبول كل ما يلقى إليهم ، فيربونهم على ما يريدون هم ،لا على ما يريد لهم دينهم ومصلحة بلدهم ، يأخذونه عجينة ، فيشكلونها على الشكل الذي يعجبهم ،
ثم يخبزونها في أفرانهم ، وقد جروا على هذا لما جاءونا (مبشرين ) ، أي مكفرين ومنصرين ، فأنشئوا في قرى الجبل المدارس التي صارت من بعد الجامعة الأمريكية والجامعة اليسوعية ، وفتحوا المستشفيات يداوون فيها الأجساد ويمرضون الأرواح ، فلما دخلوا علينا بعد (ميسلون)
وصاروا هم المتحكمين فينا وصار إليهم أمرنا ، أعلنوا خطتهم فبدؤوا بعلوم الدين ، وهي التوحيد والتجويد والفقه والأصول والحديث والمصطلح ، فجعلوها مادة واحدة سموها درس الدين وأعطوها من الوقت كالذي يعطي للرياضة أو الموسيقى أو الرسم ،
ثم ربطوا الدروس كلها ، في السنوات الأولى التي يكون فيها التأسيس ، والتي تغرس فيها في نفوس التلاميذ بذور الكفر أو الإيمان ، والصلاح أو الفساد ، والفصاحة والبلاغة ، أو العي والركاكة ،
فإذا لم يدرس التلميذ فيها قواعد لغته لم يتعلمها أبدا ، ربطوها كلها بمعلم واحد ، ربما كان نصرانيا أو كان ملحدا أو كان مسلما بالاسم ، مهملا للواجبات مرتكبا المحرمات ، ومن جملة هذه الدروس (درس الدين) .
وجعلوا الطفل في مدرسة الحضانة يتعلم (A B C ) مع (ألف با تاء) ، حتى صار منهم من يتقن الفرنسية أكثر مما يتقن العربية ، وجعلوا الحديث بين الطلاب في(الفسحة) بالفرنسية ،
فمن تكلم العربية أعطي (السينيال) ، وهي قطعة من الخشب أو النحاس ، على من يعطاها أن يراقب التلاميذ حتى إذا رأي متكلما بالعربية دفعها إليه ، ومتى قرع جرس الدرس وهي معه نال العقاب .
(ذكريات – 2 – صفحة 221 ، 222)
* * *
فلما جاء الفرنسيون كان أول ما صنعوه أن جمعوا العلوم الإسلامية كلها في درس واحد سموه درس الديانة ، ثم جعلوا عنوانه التربية الدينية ، في مقابل التربية الرياضية للجسم ، والتربية الفنية أي الموسيقى والغناء والرسم .
هذا والتربية شيء غير التعليم ، وإن كان أحدهما لا يغني عن الآخر ولا بد من جمعهما .
وجعلوا لذلك كله ساعة واحدة في الأسبوع ، أي أنهم أعطوه مثل الذي يعطي للرسم وللموسيقى وللرياضة .
فما الذي يمكن أن يتلقاه التلميذ في ساعة واحدة من هذه العلوم كلها ؟ ولماذا لم يجعلوا للرياضيات بأقسامها ، وهي الحساب والجبر والمثلثات والهندسة المسطحة والهندسة الفراغية والهندسة النسبية ؟ أو للطبيعيات
بعلومها : الفيزياء بأنواعها ، والكيمياء بأقسامها والحيوان والنبات ؟ هذا ما لبثنا أكثر من أربعين سنة ونحن نقوله لهم فلا يستجيب لنا أحد ، ولا يريد أن يفهم عنا أحد .
ثم ابتدعوا بدعة ظاهرها تنظيم إداري لا اعتراض لنا عليه ، بل لا شأن لنا به ، ولكن باطنه ا محاربة الإسلام ، وإضعافه في نفوس الأطفال .
هي أن يتسلم معلم واحد الصف ( أي الفصل ) كله بدروسه كلها ، فيدرس الدين والعربية الرياضيات والطبيعيات والريم والموسيقى وكل ما يكلف الطلاب بتلقيه .
وقد وقع في أول الاحتلال أن كلف معلم نصراني في بيروت بتدريس السيرة وتاريخ الصحابة ، وكان مفتي بيروت – إن صح ما أذكر – الشيخ مصطفى نجا رحمة الله عليه ، فذهب إلى المفوضية وطلب مقابلة المفوض السامي ، فلما دخل عليه رحب به وسأل الترجمان عما يريده ، فقال له :
إن عندي شابا مسلما مطلعا على ديانتكم ، وعلى تاريخ كنيستكم ، وسير قديسيكم ، فأنا أطلب منكم أن تجعلوه معلما في المدارس المسيحية الكنسية ، ليدرس أبنا النصارى .
فعجب المفوض السامي ، وسأل الترجمان هل الشيخ يجد أم هو يمزح ؟ فقال الشيخ : أنني أطلب ذلك جادا .
فقال له المفوض : كيف تريد أن نسلم أبناء النصارى إلى معلم لا يؤمن بدينهم ؟ فقال المفتي : هذا ما جئت من أجله ، جئت لا سأل كيف ترضون أن نسلم أبناءنا إلى معلم ليس دينه من ديننا ، ويكفر بما نؤمن به . .
(ذكريات – 5 – صفحة 260، 261)
* * *
ثم ابتدعوا بدعة أخرى ، كانت أشد علينا من الأولى وأنكى فينا منها ، هي أنهم لم يدخلوا دروس الدين في الامتحان .
وأكثر الطلاب إما يدخلون المدارس للشهادة لا للعلم ، ويحرصون على النجاح في الامتحان أكثر من حرصهم على الفائدة من التعلم ، فكانت النتيجة أن أهمل التلاميذ درس الدين ، ولما يدرسونه والعلم به لا ينفهم ، والجهل به لا يضرهم ، لأن غايتهم النجاح والشهادة .
ولقد سعينا سعيا حثيثا دائبا ، في سنين متطاولة متعاقبة حتى استطعنا أن نجعل له ساعيتين في الأسبوع بدل الساعة الواحدة ، ثم ألغيت الساعة الثانية وعاد كما كان .
والثالثة أن الفرنسيين أضعفوا العربية ، بأن قرنوها بالفرنسية وجعلوا التلميذ من حين دخولة المدرسة ،
ابن ست سنين ، يبدأ بتعلم C,B,A الفرنسية مع أ ، ب ، ت ، العربية .
والجاحظ يقول : ما جمع أحد لغتين ، إلا أدخلت إحداهما الضيم على أختها ، وإن كنا لا نسلم للجاحظ ما قال ، ونعرف من الناس من أتقن ألسنا كثيرة ، ولغات متعددة ، وكان فيها كلها السابق المجلي .
صار يبدأ الولد بتعلم الفرنسية حين يبدأ بتعلم العربية ، والإنجليز والفرنسيون رسموا لتعليم لغاتهم خططا ووضعوا لها أساليب ، وصنعوا لها مرغبات تستهوي التلاميذ الصغار ، لم نكن نملك يومئذ (أي قبل ستين سنة) مثلها ، فكانت النتيجة أن قويت الفرنسية على حساب العربية .
وإن كان من الحق أن نذكر مالهم كما نذكر ما عليهم ، إن الفرنسيين رغم هذا كانوا يهتمون باللغة العربية أكثر من اهتمام من جاء بعدهم . ولقد قلت لكم إننا كنا نقرأ .
والرابعة أنهم حاربوا التاريخ الإسلامي فكان الواحد من أبنائنا ، بل لقد كان رفاقنا لما كنا نتعلم أيام الفرنسيين في أوائل عهدهم بالانتداب في المدارس ، كان إخواني يعرفون من تاريخ فرنسا وتاريخ نابليون ومن جاء بعده من ملوك فرنسا ، ومن كان قبل الثورة من ملوكها ، ومن أخبار حكوماتها أكثر مما نعرف من تاريخ أجدادنا .
ولم أقل إنني كنت أجهل ذلك مثل جهلهم ، لأنني قرأت بنفسي من صغري كتبا من كتب التاريخ ، مررت على صفحاتها كلها ، ما فهمته منها استوعبته ذاكرتي ، وما لم أفهمه جزت به .
فلم أكن بتاريخ الإسلام بمثل جهل الرفاق ، وإن كنت في العلم بتاريخ فرنسا مثلهم .
بل أنا لا أزال إلى الآن أعرف التاريخ الفرنسي من أوله إلى آخره ، وأعرف الثورة الفرنسية الكبري وما كان فيها يوما بعد يوم ، وأروي الكثير من أخبار رجالها .
هذه ما صنع الفرنسيون : أضعفوا العلو م الإسلامية ، وجاءوا باللغة الفرنسية وزاحموا بها اللغة العربية ، وضيعوا التاريخ الإسلامي ووضعوا مكانه تاريخهم ، حتى نشأ أولادنا على جهل بتاريخنا .
هذه كلها ، ويقابلها أمر لعله كان أشد علينا ، وآلم لنفوسنا ، وأسوأ عاقبة فينا ، هو العمل على نزع حجاب الطالبات ، وعلى تعويد النشء على الاختلاط .
كان ذلك ميدان نزاع طويل ، وجهاد مرير ، وعمل دائم من المشايخ ، ومن ورائهم جمهور الأمة المسلمة في الشام ، والداعين على هذا المنكر والعاملين عليه . .
(ذكريات -5 صفحة 264)
* * *
#علي_الطنطاوي
Be the first to comment on "الأعداء والتعليم .. من تنبيهات الطنطاوي على مسيرة التعليم"