مشروع مقال للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
مشروع مقال
علي الطنطاوي
إن من دأبي إذا كان العيد، أني أغلق عليّ بابي، ثم لا أفتحه لداخل إلى الدار، أو خارج منها حتى ينتهي العيد،
إلا أن تكون صلاة لا خِيَرَة فيها، أو صديق لابد من لقائه…
وأغنم هذه الأيام في الرجوع إلى نفسي، والأنس بأهلي، والإقبال على كتبي ودفاتري،
فلما نَدَبني ((الأستاذ وحيد إيبش)) إلى الكتابة في ((الشعلة)) أجبته ووعدته بفصل أكتبه في أيام العيد،
وأنا متعزِّل متفرِّد، وأحبِّره له تحبيرا…
ولكن الشيطان أنساني الاستثناء، وأمسك بلساني أن أقول: ((إن شاء الله))،
وما لم يشأ الله لم يكن، فلما جلست لأكتب، سُدَّت في وجهي الأبواب، وضلَّت عني الموضوعات، ونفر مني الكلام،
فعدت وكأنني امرؤ يحاول أن يبدأ الكتابة ولما يمارسها من قبل،
وعهدي بنفسي أني إذا أردت الكتابة تناولت القلم فأجريته على القرطاس،
فإذا هو يجري قُدُما حتى أكون أنا الذي أرفعه، لأقرأ الفصل، وأضع التوقيع، وطال بي التفكير وأنا لا أزداد إلا ابْعاطا وخُؤْقا،
فألقيت القلم وعلمت أن قد أرتج عليّ… والنفس كالسماء تفتح أبوابها، ويهمي غيثها، حتى يحيي الله به البلد الميت، ويروي به الأرض العطشى، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج،
وقد يغلقها الله، فتشح وتضن بالقطرة الواحدة من الماء… وعمدت إلى شيء ألهو به،
فسألت أخي ناجي عن درسه الذي يقرؤه وقلت: لعلي أجد فيه موضوعا أكتب فيه فطَفِق يلقي عليّ كلاما ثقيلا على السمع، بغيضا إلى النفس، ضاق منه صدري وخثرت نفسي،
ولم أفهم منه شيئا، ولكني ذكرت أني سمعته من قبل، واتضحت الذكرى،
فعلمت أن قد كان ذلك في صف ((البكلوريا الثانية))، وأنني استودعته قلبي حتى اجتزت الامتحان، وأُعطيت الشهادة،
ثم نسيته كما نسيت تلك الأشياء الأخرى، التي كنا نهذي بها في دروس الكيمياء والحكمة والمثلثات والجغرافيا…
فتركت أخي يُطّنْطِن بهذا الهَذَر الذي يُعلَّمهُ في المدرسة وأقبلت أفكر فيَّ:
ما الذي بقته لي الأيام من هذا البرنامج الطويل العريض… الذي أنفقنا فيه من أعمارنا سبع سنين،
هي زهرة العمر، وهي سنُّ القوة والنشاط، سن الشباب العريض، والنفس السامية…
ما الذي أفدناه من دروس التجهيز والدراسة العالية؟ نظرت فإذا أنا قد نسيت كل شيء من الرياضيات، إلا أنها علم الكميات
وأن هذه الكميات متصلة تبحث فيها الهندسة، أو منفصلة يبحث فيها الحساب،
وأن من الحساب ما تكون أرقامه حروفا تدل على أكثر من قيمة محددة، وهو الخبر،
وأن من الهندسة هندسة سطحية، وهندسة فراغية، وهندسة نسبية،
وأن منها شيئا لم يفهمه قط بشر، وهو المثلثات…
وأن الذي أحسنه من هذا كله هو الأعمال الأربعة التي يعرفها السمان والعطار وكسَّار الحطب…
أما سائر تلك النظريات والدعاوى فشيء عال سام لا يمكث في النفس، وليس من شأنه أن يمكث فيها وإنما سبيله أن ((يطير))!
وإذا أنا قد نسيت كل شيء من الكيمياء، إلا شيئا لا طائل تحته،
ونسيت قوانين الحكمة، ومسائل الجغرافيا، وما إلى ذلك مما درسناه وحفظناه و (شُهِدَ) لنا بأنَّا قد أحسناه وأتقنَّاه…
وكل ما أعرفه اليوم، هو شيء من اللغة والأدب والتاريخ قرأته بنفسي، وزاولته بعد خروجي من المدرسة،
أما المدرسة فلم تعلمني إلا أسماء العلوم وأوصافها العامة،
ولم أخرج منها إلا بالروح التي صبَّها في شيوخنا ومعلمونا (وقد كانوا رحمهم الله مسلمين شرقيين لم تفتنهم أوروبة عن دينهم وعاداتهم!).
إن المدرسة لا تعلم التلميذ شيئا ولكنها تدله على الطريق وترسم له الخطّة،
أفلا يجب إذن على المعلمين، أن يدلّوا التلميذ على الطريق السويّ والخطة المستقيمة،
أفلا يجب عليهم قبل أن يعلموه قوانين الحكمة، ومعادلات الكيمياء، ونظريات الهندسة التي سينساها ويجهلها، أن يعلّموه من هم أجداده، وما هي حضارتهم، وأن يصبّوا في نفسه أخلاق العروبة، وآداب الإسلام، وأن يحببوا إليه العلم،
حتى يقبل عليه بلذة وشغف، لا لنيل الشهادة، والنجاة من الامتحان، بل ليستفيد منه في ترقية حياته وحياة أمته، وخدمة بلاده وقومه…
وأن يفهمون ((حقائق الحياة)) ويعرضوها عليه عارية لا يسترها شيء؟..
هذا هو الموضوع الذي كنت أنشده وجدته، ولكن حين لم يبق بدٌّ من ختم هذا الفصل، فليبق إذن بلا موضوع وبلا عنوان…
من كتاب من حديث النفس للشيخ #علي_الطنطاوي
يحتوي الكتاب على خواطر منوعة.
Be the first to comment on "مشروع مقال للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله "