في حديقة الأزبكية مقال للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، :
ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية،
وكنت قد قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب
في حديقة الأزبكية
كنت أمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي،
فسلم وقعد صامتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله،
ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرّم بمجلسي، ويرقب قيامي،
فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ: “تفضل!”. فقال متردداً: “كنت أريد أن أقص عليكم قصتي… علّها… تكتب في الرسالة… ولكن… سأجيء في وقت آخر”.
وألقى عليّ نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول: “لولا هذا الرجل!”.
فقال الأستاذ معرّفاً بي: “إنه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقصّ القصة أمامه، لعله إذا سمعها منك كتبها هو”.
فلما عرفني أشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول:
*********
وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي
وكانت تلك أول مرة أقدم فيها القاهرة، وأرى فيها الدنيا،
أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل،
ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقى في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة،
لم أخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لِدَات لي فرأيتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج،
وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، وإلى حلقة الشيخ، فقرأنا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة،
ثم أقبلنا على الأدب، نعبّ الشعر الغزل، كما يعبّ من النبع العذب الصافي الظمآن،
ونحفظه في صورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه،
فيكون لقلوبنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطباً يابساً يزيدها اشتعالاً،
ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً،
وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة،
وظلها من خلف زجاج النافذة،
وصوتها من وراء الباب،
لا نرى منها أكثر من ذلك،
فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم… وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.
قلت: فما فائدة الحجاب.
قال: إن الخير المطلق ليس من طبيعة هذه الدنيا، والعبرة بالغالب،
فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون في خير قليل،
وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلوب،
أو الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.
وعاد إلى قصته، فقال:
وكنت قد سمعت عن القاهرة أنها، لا تؤاخذوني، أنها كباريس،
بلد لذة وانطلاق،
وأنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغنى والفقر، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق،
يصنع كل فيها ما يريد،
لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فإنه حرام. وكفّ عن ذا فإنه عيب،
وإن… إني لأستحي والله أن أتكلم.
قلنا له: قل يا أخي، إنك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح.
فتردد قليلا، وغض بصره، ثم قال:
وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني،
أعني أن في مصر نساء كثيرات…
الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا.
بل صورة (البلاج) ومشاهده. والسفور والاختلاط،
وأن الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا،
ولكن صوت الإثنين وأخبار المسامرات،
منها تكوّنت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً.
وأنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم.
ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال،
ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل،
وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر،
ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلاً، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلديّ،
كانوا دلوني عليه قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)،
فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام،
يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها
فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.
ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية،
وكنت قد قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب،
لأنه أوسخ معابد الشيطان،
السوق الذي تباع فيه اللذائذ،
فاقتربت منها وقلبي يرجِفُ كأني مقبل على جريمة قتل،
وهل الزنا إلا أخو القتل؟ وتمثّل لي ماضيّ وأخلاقي، وطلعة الشيخ،
فارتددت وتلفت أنظر هل رآني من أحد –
لا تضحكوا أرجوكم فإني أصف لكم ما وقع لي،
ومرّ رجال، خيل إليّ أن واحداً منهم يحدّق فيّ، ويحدّ النظر إليّ ويتبسّم
فشعرت أن دمي كله قد صعد إلى رأسي، وأن أذنيّ قد صارتا جمرتين ملتهبتين،
وتصبب العرق من جبيني، لما وقع في نفسي من أن الرجل يعرفني، ويعلم ما أسعى إليه،
فأسرعت في مشيتي حتى بهت الناس إليّ بإسراعي، فجعلوا ينظرون إليّ متعجبين من عجلتي،
وكلما رأيت ذلك منهم ازددت عجلة، كأني الجواد الأصيل يقرع بالمقاريع ليقف، وكلما أحسّ وقعها طار طرياً،
حتى إذا ابتعدت وقفت، ووجدت راحة الخلاص من الإثم، كما يجد الغريق راحة الوصول إلى الهواء،
ومشيت لا أعرف لي وجهة، فعاد الشيطان يوسوس إليّ،
فثارت الرغبة في نفسي كرة أخرى، وندمت على أن أضعت هذه الفرصة التي انتظرتها دهراً مديداً،
وفكرت فيها مسهداً ليالي طوالاً، وقطعت من أجلها قفراً وقطعت بحراً، ومشيت من مشرق الشمس إلى مغربها،
فعدت وجعلت أدور حول سور الحديقة، وقلبي يكاد يمزّق بوجيبه جدار صدري،
وكان اليوم يوم أحد، فرأيت غوانيها من خلال السور قاعدات باديات المفاتن أو مضطجعات أو منبطحات على الكلأ ساحرات بالمقل النواعس، وبالسوق والأفخاذ، فكدت أجنّ،
ولا تنسوا أني لا أزال أعتقد أن الحديقة هي (أزبكية المنفلوطي).
وشددنا أشداقنا كيلا يفلت الضحك منا، ومضى في قصته.
قال: ورأيت على مقعد شاباً وفتاة، وهما يتناجيان، وعلى وجهيهما من ظلال الحديث، مثل ما يكون على وجه البحيرة الساكنة من شعاع القمر،
وقد تدانى الرأسان، والتفّت الأيادي بالمناكب، وتعارضت الساقان، وأحاطهما بجناحيه إبليس الهوى،
فجن جنوني، ودفعتني موجة الانفعال التي ماجت في نفسي، فأقدمت حتى إذا ضعفت الموجة وماتت، كما تموت أمواج البحر وسط اللجّة، ألفيتني عند الباب،
فوقفت لا أدري ماذا أعمل، كأني قد أقمت على عمود في رحبة القرية والناس كلهم ينظرون إليّ يقولون: هذا الذي دخل الأزبكية التي لم يعرف (المنفلوطي) من تحديدها إلا أنها فوق الغبراء وتحت السماء،
وتمنيت من الخجل أن أغوص في الأرض وأحسست أن الدنيا تدور من حولي، ولم ينقذني إلا رجل دخل فتوسط الباب الدوار، فدفع (قرش تعريفة) فأداره له البواب حتى صار في الحديقة، فصنعت صنيعه وأنا لا أعقل ما أصنع.
جُلْت في الحديقة فوجدت نساء من كل لون وجنس، ولكني كنت كمن ألقي في الماء قبل أن يتعلم السباحة، فلم أدر كيف السبيل إليهن،
وحاولت أن أتذكر ما قرأت في القصص وماذا يعمل أبطالها في مثل هذا الموقف، وما حفظت من أشعار الغزل،
فلم يخطر على بالي إلا أبيات (سألت الله أن يجمعني بسلمى) فقد كانت حالي كحال هذا الشاعر،
أرقب أن تجيء إحداهن فتأخذني هي بيدي وتجرّني إليها،
ولكني لم أر غرفاً ولا مخادع، ثم وجدت بناءً في الحديقة فعلمت أن المخادع والغرفات فيه،
وبقيت إلى المساء، أدور لا أفكر في طعام، ولا أشكو التعب، حتى إذا قيل اخرجوا ستغلق الحديقة، خرجت وما أظن أن على ظهر الأرض إنساناً أخيب مني.
وجعلت أعود إليها كل يوم، فلما كان بعد ثلاثة أيام، وكنت قاعداً على مقعد وأمامي امرأة قصيرة الثوب، عارية الساق قد رفعت رجلاً على رجل،
فأبدت ما أحسست به كالبارود في أعصابي، وجعلت أنظر إليها، علّها تلقي بصرها عليّ، فأغمزها بعيني -وقد فكرت في ذلك الليلة البارحة كلها، ورأيته هو الطريق إليها، بعد ما أعياني الوصول،
وجربته أمام المرآة حتى حَسِبْتُني أتقنته- والتفتت إليّ فغمزت بعيني، فإذا بها تشمخ بأنفها، وتقوم فتمضي وعلى وجهها مثل أمارات الاشمئزاز…
وسمعت ضحكاً من ورائي فتلفت مذعوراً، فإذا أنا بشاب على رأسه كمّة بيضاء يلبس (قفطاناً) يبدو عليه أنه فلاح، تلوح عليه سيمياء الفقر،
ورأى ذعري فقال: “ازّيك”. قلت: “كلّش زين” ففهم أني غريب، وأني عراقي،
فقال: “عجبتك؟” فاستحييت أن أجيب.
فقال الخبيث: “ليه؟ انت مكسوف؟ ما تتكسفشي! تعال أودّيك لواحدة أحلى منها”.
إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا ماذا صنعت بي هذه الكلمة وأنا الذي عاش عمره يشتهي أن يشم ريح امرأة من مسافة فرسخ
وتشجعت فقلت له بصوت مخنوق: “شْلونْ؟”. قال: “شلون يعني إيه؟ تعال معايا.
تعال” وأخذ بيدي وأخرجني من الحديقة، وقال: “تحب ناخد تاكسي ولا نركب الترام؟”
وكنت نافذ الصبر، مجنون الرغبة، فقلت: “تاكسي”. ولو كانت طيّارة لركبت إلى ما يأخذني إليه طيارة.
ولم أسأله إلى أين، حتى نزلنا من السيارة، فسألت السائق: “كم تريد”؟
قال: “ثلاثين قرشاً” فارتعدت لحظة ولكني لم أبال، ونقدته الأجرة
ونظرت فإذا الذي بقي في جيبي اثنان وعشرون قرشاً، وسائر فلوسي عند الفندقي. نفقة الشهر كلها خمسة عشر جنيهاً.
قال الشاب: “ايدك على جنيه بأه”. قلت: “جنيه؟” قال: “أمّال؟ دي بنت تمانطاشر، زيّ الأمَر”.
فنظرت هنا وهناك أبغي مهرباً ولا أعرف الطريق. فقال: “ما لكشي مزاج ولا إيه؟”.
فقلت: “في وقت ثاني”. قال الخبيث: “على خاطرك. هات تعبتي بأه!” فأعطيته خمسة قروش،
ولم يحب أن يفلتني قبل أن ينتف ريشي فعاد يحدثني حديث الرجس، وقال لي إن عنده بنات أخر، ولكن لكل ثمن،
فبنت مصرية سمراء كأن عينيها عينا غزال شارد،
وبنت شامية من صفتها كذا،
وبنت عراقية من بلادنا من نعتها كذا،
وبنت رومية كأن جسمها العاج المشرب بعصير الورد، وكأن شعرها أسلاك الذهب، تسقي من فمها خمراً، ومن مقلتها سحراً
ورآني أرتجف من الانفعال، ورأى وجهي شاحباً فقال: هي بنت بيت “مش من دول” لا تأخذ فلوساً، لأن أباها من كبار أصحاب المصارف،
ولكن للبواب جنيهان ليغضّ النظر، وله هو جنيه، واثنان لوصيفتها لتكتم الأمر وتحفظ الباب.
وسحرني الملعون. فقلت: “لا بد لي من الذهاب إلى الفندق لآتي بالفلوس” قال: “هيا بنا”.
وتسلم الجنيهات الخمسة، وأدخلني عمارة فخمة في شارع الملكة نازلي، فأصعدني إلى الطبقة السابعة،
وأشار إلى باب فقال: إنها هنا ولكنه لا يستطيع أن يدخل معي، فهو ينتظرني عند البواب،
ونزل بـ”المصعد” الذي صعدنا به، وأقدمت مضطرباً فقرعت الباب بيد ترتجف،
ففتحه لي خادم أسود مسن، ووقف ينظر ما أقول له،
ووقفت مبهوتاً فقال: “ايه؟ عاوز مين؟” فسكتّ. قال: “الله! انت عاوز مين؟” قلت: “سنيّة”،
وكان هذا هو الاسم الذي خطر على لساني. قال: “سنيّة؟! دي شركة” وأغلق الباب في وجهي،
ولم أجد المصعد فنزلت على الدرج، من الطبقة السابعة، فلما بلغت الباب لم أجد الشاب ولا البواب.
قصص من الحياة
يحتوي الكتاب على ثمانية وعشرين قصة واقعية. وكما يذكر الشيخ رحمه الله في خاتمة كتابه، أن القصص قد لا تكون كلها حقيقية، إلا أنها واقعية، وشبيهاتها تحدث في بلادنا الإسلامية كل يوم.
#علي_الطنطاوي
Be the first to comment on "في حديقة الأزبكية للشيخ علي الطنطاوي"