فولتير والرجل النبيل

فولتير والرجل النبيل فارس كمال محمد

جرأة فولتير وشجاعته

___________________________

عندما وقف الفيلسوف الفرنسي الشهير ( فولتير ) في احد المطاعم الفاخرة يلقي على رواد المطعم – ببلاغته المعهودة والفصاحة الجريئة التي اشتهر بها – كلمات فيها من الاعتداد بالنفس وتخطىٍ لخطوط الادب المعتمدة عند الأوساط الاجتماعية ذلك الوقت ، تساءل احد النبلاء ( دي روهان ) عن هذا الذي رفع صوته عاليا ، ولم يقم وزنا للحاضرين ، ولا ابدى احتراما للرجل النبيل الموجود في المطعم .. وكان رد فولتير السريع على نفس ما عهد منه قائلاً : يا سيدي ان من يتحدث ، رجل لا يملك اسماً كبيراً ولا مرتبة نبيلة على وفق مقاييس المجتمع ، لكنه شخص معروف ، وله شعبية واسعة بين الناس ، ومحبة كبيرة فيهم .. كتم الرجل النبيل غيضة ولم يرد عليه ، لكنه اوعز في خفاء الى بعضٍ من ازلامه لتلقين فولتير درساً قاسياً ، موجعاً ، واباح لهم الانهيال عليه بالضرب المبرح ، وان لا يدَعوا من جسده مكانا الا وتركوا فيه ذكرى تعيش معه ما دام حياً ، الا الرأس ، فقد منعهم من المساس به بسوء .. واجتنابه ، فقد يخرج منه يوماً ما شيء عظيم .. ولو انهم لم يلتزموا بالأوامر . بل صبوا عليه نيران حقدهم وعدوانيتهم التي يتميز بها كل من هو على شاكلتهم ، وافرغوا فيه شحنات حقدهم وسوء خلقهم ليخرج بعدها على الناس معصّب الرأس اعرج الرجلين ..

اخلاق واطباع سائدة


ما ابداه اتباع الرجل النبيل ، لا يترك فينا أي اثر او مردود ، فانهم كثيرون لا في ذلك الوقت وحسب وانما كل الأوقات ، حتى في يومنا هذا ، واكاد اجمعهم بشريحة اكبر تتميز بعدم الاكتراث اواحترام المعايير السلوكية والاخلاقية المحترمة للمجتمع وإن ابدوا شيئا من الالتزام فلضرورة تستلزمها مخالطتهم والعمل بينهم في خفاء . ومنهم من اطلق عليهم اسم ( الذباب الالكتروني ) . كذلك المافيات المتخصصة بالتجسس والنصب والاحتيال .. وما يجمعهم كلهم هو انهم من شريحة مستهجنة عند الناس وليسوا على كل حال من المثقفين الاصيلين ، فالمثقف من تمازج العلم والثقافة بحركة الافكار في راسه واستحال سلوكه العام الى صورة فيها من تقديس المصلحة العامة ومرضاة الله وحب الوطن ، اما هم فان هذا قناع يغطي الوجوه وقصائد حفظوها ورددوها كما يفعل اطفال الروضات والمدارس ، ولا هم اصحاب شهادات رفيعة ، ولا مناصب ادارية ( الا القليل)، وربما منهم قطاع طرق وآخذي اتاوات .. وليس لهم في صناعة تاريخ الحضارة والمجتمع دور يذكر ، اللهم الا تعطيل القاطرة وسحبها الى الوراء ولسان حالهم يقول ( انما نحن مصلحون ) . كل هذا واضح ملموس عند من جعلهم في مرمى البصر ودائرة النظر .

مراعاة مصالح الوطن والمجتمع


وما يهمنا ، هو الرجل ( النبيل ) ، ذلك الذي اوغر الحقد على فولتير صدره وملأ قلبه ، واستعرت في نفسه نيران الغضب فلم يعد له الا ان يرد بصفعة يوجهها الى وجه فولتير وربما قتله ، اذ ان ما جرت عليه اعراف المجتمع السائدة هو ان يلتجئ المتخاصمان الى المبارزة بالسيف فيقضي القوي منهما على الاخر وينهي حياته .. لكن النبيل لم يصل في مسعاه الى منتهى تحديه ، وسمح بتأديب فولتير وضربه ، بشرط الحفاظ على سلامة رأسه ، لا لسبب سوى اعتقاده ان في هذا الرأس شيئا لو خرج ربما لكان من العظمة التي تعود بالخير على مواطنيه ..

الاخلاق والتقدم الروحي والحضاري


وارى ان حال الرجل ( النبيل ) هذا هو حال أهل أوربا بشكل عام ، عدا تلك الشرائح التي ليس لها حساب او دور في تطور المجتمع . وارى انهم على وعي بهذا التصور ، ويأملون في كل انسان عندهم ، ان يقدم ما لديه من فكر يمكن ان يعود على الدولة والشعب بما ينهض بالمستوى العام والسيطرة على الطبيعة ودفع عربة التقدم الى امام .. وليس ادل على هذا من ان تاريخ العلم المدون والفكر الاجتماعي والفلسفي للعالم الغربي بشكل عام ، زاخر بالنظريات وحافل بالمدارس الفكرية والنظريات ، ومزين بالاختراعات والمكتشفات … وهم اليوم يعيشون مرحلة خيالية من التطور والتقدم ، سبروا فيها اغوار الظواهر بلا استثناء ، وصعدوا الى السماء وارسلوا السفن الى هناك وحملوها المراصد والمناظير وصوروا الكون ونهاياته … ان كانت هناك نهايات ( قالوا ان الشعاء المنطلق سيرجع الينا بعد مليارات السنين الضوئية مع ان رحلته وفق خط مستقيم ) … والكلام يطول ويطول وسبحان الله العظيم .. وهم اليوم يرصدون الجوائز لكل مخترع واديب وفيلسوف ، ويهيئون المستلزمات المطلوبة لكل صاحب مشروع يمكن ان يساهم في مشروعهم العجيب ..
انهم يحترمون الانسان .. ويحافظون على عقله .. لقد فتح ( ميشيل مونتاني ) في القرن السادس عشر أبواب مكتبته ( داره ) مفتحة واصر على استقبال الجحافل الهائجة الثائرة في ارجاء بلدته ( فرنسا ) متقبلا المصير الذي يرتؤونه اذا ما أرادوا ايذاءه ، لكنهم تركوه دون مساس ، يواصل القراءة والإنتاج الذي اشتهر به .
(( أقول هذا ، وانا على علم بالذي يفعلونه اليوم من شرور لا تحتمل ، ومؤامرات تحاك على دولنا بلا خجل ، وانتهاك لكرامة الانسان وحقوقه وحرياته والحط من قدره وتمريغه بالوحل ، وسلب خيرات ارضه واكل ثمار غرسه ومنع العلم عنه واغراقه بالجهل )) .
اما عصور اوربا المظلمة ، ومحاكم التفتيش المقامة وقتل العلماء وأصحاب الرؤى والأفكار التي حسبوها – خطأً – انها مخالفة لتعاليم الرب ، فقد كانت مرحلة استثنائية مؤلمة ، ولا تعد من اصل شخصية الانسان الاوربي ولا من مكونات شخصيته ، وقد نساها اهلوها او كادت ، واعترفوا بالخطأ واعادوا الاعتبار لمن اهرق دمه ظلما ، ثم ابدوا بعدئذ الحرص على إعادة النظر في الفكر الديني ، يهملون التأويلات التي اخطأ فيها أصحابها فأضرت ، ويبرزون الجوانب المشرقة منها فتنفع )) .

عربة التقدم الحضاري العربي .. عثرات وتلكؤ

وما قلناه عن النتاج الأوربي العامر بالمعارف والزاخر بالمكتشفات لن نجده عند العرب ( في تاريخهم الحديث ) فصفحاتهم تخلوا من ابداعات الفكر العلمي والاكتشافات والصناعات ولم يسبروا اغوار الفضاء ولا غاصوا في أعماق البحار ، ولم يصنعوا قاطرة ولا طائره ولا ارسلوا صاروخا الى السماء ولا حتى طائرة تطير او قطار يسير .. ولم نجد عندهم نظريات مسجلة بأسماء عربية ، لا في علوم النفس ولا الفلسفة … اللهم الا في مجالات اللغة والادب والقرآن الكريم وعلم المنطق والكلام ، وحالهم اليوم يبعث على الرثاء والبكاء ، يشيع التخلف ويستشري بين الناس ، وتعم الفوضى ويوغلون في سفك الدماء ، ويهدمون بيوتهم ومدنهم بالقنابل والصواريخ وبعضهم لبعض أعداء .. انهم يرسمون صورة بشعة لأُمة فاشلة وعاجزة و متدنية ، وكأن الانسان فيهم لم يُخلق من طينة الانسان الأوربي ، وتصدق عليهم مقولات التفرقة بين الأعراق .. حتى صدّق أبناء امتنا هذا الافتراء ورأوا اننا الأدنى مرتبة من سلسلة الموجودات ، فانكروا انتماءاتهم وهجروا اوطانهم وانكروا دينهم واعلنوا الالحاد ..

شهادة بحق العربي ومعدنه النبيل

(( هذا المشهد العام للامة بعد ان اندرست معالم الرقي الحضاري أيام عزنا ، وطُمست شخصيات ورموز معاصرة كما تُطمس النجوم بالغيوم السوداء ، لها من العقول الباهرة والعلوم الفاخرة والقدرات المميزة ما تتشرف به الإنسانية وتفتخر . . انهم يبزون اقرانهم من رجال الغرب واعلامهم في مواطن شهرتهم وميادين قدراتهم ، يدرسون عندهم ويدرّسون طلبتهم في كل مجالات العلم والفكر ، بما فيها علوم النفس والفلسفة والفيزياء وحظوا بالاعجاب والامتنان والتقدير … وليس ادل على هذا من ان تُحمل ايات القران الكريم عند ارتقائهم الى السماء وطوافهم على سطح القمر حبا وتقديرا وامتنانا لهم ، ونحمد الله ان بدت فينا ملامح تبعث على الامل والتفاؤل في مجالات علمية حضارية وتكنولوجية ونساله سبحانه ان يتمها بنعمة الايمان واللجوء اليه وحفظ الدين والرحمة والسلام بين المسلمين وكل العالمين ))

الاصل المشترك للانسان

لكن العلم في حقيقة امره يقر بان الأصل في ظهور الانسان واحد وان العقل البشري ذو تركيب متماثل ، وان وجدت اختلافات جزئية فهي وليدة الاختلاف في السلوك والتكيف والاستعمال ، وان الانسان هو الانسان في كل ظروفه ومنازله وطبقاته ..
لقد انكر( بافلوف ) دعوات التفرقة بين ادمغة الاذكياء عمن هم اغبياء ، اذ ان الإشكال ، كل الإشكال ، هو في اساليب التربية ومستجدات التجارب التي يمر بها الانسان .. لبرناردشو قول فصْل

ويصدق فينا تعليق برناردشو على السلوك الذي اتّبعه سكان أمريكا الوافدون مع أهلها الاصليين ( الزنوج) ، حينما امعنوا في استصغارهم وتحقيرهم … لم تردعهم الاخلاق الانسانية والسلوك الحضاري المتطور … وبقي الحال على هذا السلوك يزرع في نفوس السكان الاصليين فكرة انهم عبيد متخلفون واغبياء … واستمر الحال حتى تعود الكبير منهم على هذا الحال وشب الصغير منهم وهو مؤمن بانه عبد ، غبي ، حقير.. فلما جاء اليوم الذي كان سلوكهم التلقائي وفقا للحال الجديد ، قال السكان المستحلون : انظروا .. الم نقل انهم متخلفون ، اغبياء ، حقيرون …؟ .

نظرة المستشرقين


لقد ذهب البعض من المستشرقين الى إقرار دناءة اصولنا وسخف عقولنا وعجز قدراتنا على النهوض على ارجلنا والسير بخطىً ثابته واللحاق بالغرب في رقيه وتقدمه ..

لكن البعض الاخر ، قد ابدى اعجابه بحضارة العربي أيام مجده ، والدين الذي في عنق الغرب لما انجزه العرب أيام عزهم ورقي مدنيتهم وسمو حضارتهم ..
فمن نحن اذن .. اعرب مبدعون .. ام أناس متخلفون ..

ملاجظة لابد من ذكرها : المقالة محكومة بهيكل تصوري ومعنى عقلي يحس الكاتب معها ان التعديلات ( اللازمة لنجاح المقال وجماليته ) توثر على المعنى العام للفكرة .. لقد احتار احد طلاب الفكر في هذه الفكرة وعرض شكواه على ( هنري برجسون ) وبين انه لم يفلح بالوصول الى النقطة التي يبدأ الكتابة فيها دون تلكؤ وكان رد الفيلسوف : ان استمر على المطالعة وجمع المعلومات حتى تأتيك اللحظة التي ترى فيها ان معلوماتك صارت كالحلقات المحيطة بمركز الدائرة وكل ما في الحلقات المحيطة مرتبط بالمركز

مع فائق الشكر والاحترام

Be the first to comment on "فولتير والرجل النبيل"

تعليقك يثري الموضوع