عن الحب والرغبة والألم

لم يسبق لي وأن حاولت الكتابة في هكذا مواضيع، سيكون هذا المقال هو الأول من نوعه فيما يخص توجهي الجديد في الكتابة، على أمل أن أكتب أمورًا تساعدني في التعبير عما يجول بخاطري وعلى محاولة فهم الكثير من الأشياء التي أحاول فهمها.

أعلم يقينًا أن ما سأكتبه سيكون أقل درجة مما يكتبه آخرون، لكن المحاولة واجبة والخطوة الجريئة مفيدة جدًا للخروج من نطاق الكتابة المعتادة، والحذر لا يساعد أبدًا، وكما قال كاتبي المفضل تشارلز بوكوفسكي:”الكتابة الحذرة كتابة ميتة”.

أولا جميعنا على معرفة تامة بأن الكتابة قد لا تصف الشعور كاملًا لأسباب عديدة، أما لعجز الكاتب أو ضعفه أو أن الأمر أكبر من أن يختزل في كلمات تبخس من حق الإحساس وقوته. ستخرج من هذه الصفحة وأنت خفيف الذهن والروح فلن أرهقك بالكلام المطول ولا العبارات الثقيلة، كل ما أريده هو أن أذكر بأشياء بسيطة قد تكون قواعد يسيرة من أجل فهم وشرح كل ما أريد قوله.

قد يشعر القارئ بالدهشة لكلمات عبرت عما يجول بخاطره، قد تستمر هذه الدهشة لفترة طويلة، لكنها حتما في نهاية المطاف ستزول وكأنه لم يقرأ شيئًا، على العكس تماما فيما يخص الشعور والعاطفة، فكلما استعاد الإنسان ذكرى حادثة ما، كانت الآه طويلة مضنية، تحبس الأنفاس وتداعب العينين دمعات أو تغزو الجبين تقطيبة مرهقة،  أو تعلو ابتسامة على المحيا مشرقة، نعم ذلك يحدث كلما عادت الذكرى، لأن الشعور الطاغي أكبر من أن ينسى.

لنتحدث الآن عن اعظم المشاعر الإنسانية، الحب.

للحب معانٍ واسعة تفوق قدرتي على التحدث عنها وسردها هنا، لكن أسمى معاني الحب هو أن تكون حيًا، حيًا بما تحمله الكلمة من معاني ظاهرة وباطنة.

من الطبيعي أن هذا المعنى ليس فقط بين رجل وامرأة، هذا الأمر أوسع وأكبر شمولية من هذه النظرة المقتضبة، والحب ليس ترفًا، بل ضرورة مُلحة للبقاء على أمل بأن هذا البؤس سينتهي في يوم من الأيام، بأن الصدع الهائل الذي يشوه عالمنا سيلتئم بطريقة تجبر القلوب والأرواح المرهَقة، بأن كل حزن سينجب فرحًا، وكل شوكة سيحيلها الوقت إلى وردة آسرة، أن يكون الأمان والطمأنينة القانون السائد بين الجميع، أن نضحك كثيرًا، أن نودع الأشياء التي تستنزفنا، أن نحيا دوما في الحب، وكل شيءٍ سوى هذا الحب يجب أن يكون منفيًا دائمًا وإلى الأبد.

يتعلق قلب الانسان دائما بما يراه مناسبًا لمشاعره وكمية الاحتياج لديه، هناك من يحتاج حبيبًا، وهناك ومن يحتاج محبة أولاده ليتقوى على صلف العيش وكدر الحياة، هناك صديق دائم الحاجة لحب صديقه ورفيق دربه، هناك شخص مهمش يرغب أن تمد له يد الحب في الوقت الذي يغرق فيه دون أن يجد منقذًا، وكل هذا الاحتياج فطرة بشرية لا يمكن لنا التحكم بها فهي أعظم من أن تكون محكومة بوقت أو مكان.

بادل نفسك وغيرك المحبة الصادقة التي تشعرك بالسلام والأمان، الحياة ثقيلة لا تستساغ ما لم تكن محبًا وصادقًا في حبك.

دواؤك في الحب فليس هناك أقوى من أن تكون محبوبًا ومحبًا، لا شيء يفتح شهية المرء للحياة كالحب، لا شيئ يوقف نزيف البؤس والضيق سوى الحب الذي يمنحك الأمل والنظرة السليمة للاشياء والأشخاص.

كثيرة هي المشاهد السنمائية التي صورت لنا قصص الحب والتضحية بمعاني واسعة جدا، قرأنا الكثير من الروايات والقصص والتي تجعلنا في دهشة دائمة وبطريقة تجعل لأمر يبدو خياليًا إلى حد كبير، الوقع أجمل أيضا فمازال هناك الخير والألفة بين البشر، فقط توقف قليلًا عن العبوس وستلاحظ الكثير من المواقف اليومية التي تطمئنك بأن محبة الناس لبعضهم تعزز من شفاء نظرتنا للحياة بعين اليأس.

أعترف حقيقة أن تلك لم تكن نظرتي لأني لم أبادل نفسي الكثير من الحب، في السنوات الأخيرة شعرت وكأني أقتل نفسي في كل صباح ألف مرة ومرة، بنظرتي البائسة والمضطربة، لكني وبفضل الله أخذت على عاتقي مسؤولية حب النفس والتعامل مع الحياة والآخرين بإنصاف وصدق، وهكذا تطور الأمر حتى شعرت بالإيمان والأمل يتغلغل روحي ويشرح قلبٍ كاد اليأس أن يقتله مرارًا.

ثم لا ننسى الحب للأشياء مهما كانت قيمتها فلن يعرف أحدًا كمية مشاعرك تجاهها سواك، قد تكون أشياء محسوسة ذات قيمة عادية بالنسبة لغيرك لكن أثرها على نفسك وتعلقك الشديد بها يجعلها مقدسة، وهذا يعني بأن الحب والتعلق يكون أعمق من كل النظرات والتأويلات، تعلق بما تشاء فأنت بحاجة إلى ما يجعلك في سعيدًا وشغوفًا ومنتشيًا من الفرحة والسرور. وحافظ على من يسعى دوما إلى فعل الأمور وتقديم الأشياء التي تحبها، تمسك به فإن سعادتك الغامرة حينها ستكون مضاعفة وسيكون بذلك حريصا على أن تكون بهجتك أولويته التي لا يتجاهلها أبدًا.

لنترك الحب هنا ولنتحدث عن الرغبة.

الرغبة بمعناها الشامل هي أن تكون راغبًا في الشيء وتسعى لتحقيقه مهما كلف الأمر، ومن كانت لديه رغبة صادقة لن يتراجع حتى يبلغها.

أجد في أوقات كثيرة أن الشعور بالرغبة حاجة لكيلا يموت شغفك بالحياة، هب أنك لا ترغب بشيء وأن وجودك في هذه الحياة مقتصر على: أذا جاءت هذا جيد وإذا لم تأت فلا يضر أبدًا، يا للرتابة التي أشعر بها لمجرد الحديث عن هذا الأمر.

الإنسان كائن ضعيف جدا قد يغرق بمجرد وخزة يأس وقد يحيا بإشارة من غريب أثار فيه رغبة الأشياء الدفينة التي طالما استهوت قلبه وعقله.

الرغبة إلى الوصول لشعور ما مهما كانت نهايته تستحق العناء، الرغبة في الوصول لمرتبة ما تستحق أكثر وأكثر، كل ما تحتاجه هو أن تفتح قلبك وعقلك لرغباتك وستكون حقًا شخص يحيا كما يجب أن يحيا.

لنتحدث عن الرغبة من منطلق شاعري جدًا، أعني بذلك الرغبة الشعورية للأشياء التي تجعلها تتحدث عن نفسها وتعلن حضورها وأن تطغى وكأنها تسيرعلى ما تشتهي نفسك.

ألم يسبق لك أن شعرت بأنك ترغب أن تعانق شيئًا ما، ليس بالضرورة أن يكون خارجيًا، قد تكون رغبتك داخلية فتشعر وكأنك ترغب في أن تغمض عينيك وتعانقه بقوة حتى تشعر وكأنك تمسك بنفسك وتعصرها بين ذراعيك لتملأ رئتيك حتى تترنح!

أشك أن كل واحد منكم قد شعر بذلك الاحتياج الذي يدفعه إلى فعل شيء غير متوقع وخارج عن المألوف بدافع الرغبة فقط، ففي بعض الأحيان عند اختلاطي بالآخرين أشعر بأن رغبتي ضرورية وملحة جدًا في لمس ندبة تعتلي جبين أحدهم، في تحسس جرح يتماثل للشفاء، في أن أقبل دمعة سقطت لتوها، أن ألمس منكبين يهتزان بحرقة، أن أستسلم لجموح اللحظة، تلك الرغبة تدفعني إلى فعل ذلك دون التفكير بعاقبة الأمر، وكأني ملزمة بذلك.

إن النهاية السعيدة للأشياء هي ما يعمق اللذة لدى المرء لكي يستمر في تتبع رغباته الحسية والمعنوية، وكلما كانت رغبتك أكبر كلما كانت لذتك أقوى من أن تنسى. المحروم الميت على قيد الحياة هو من يصعب على نفسه الأمر فيخيل إليه أن تتبع الرغبات النافعة والسعيدة قد تجره إلى أشياء أخرى لا حاجة له به، هؤلاء الذين يقال عنهم قتلة المتعة يجب أن يتذوقوا الأمر للحظات ثم يفكروا فيما إذا كان الأمر يستحق المجازفة، ولن يخسروا شيئًا فهي أمر إذا بلغته ووصلت سعادتك سيكون لذيذٌ نفسيًا، وإذا لم تبلغه رغم المحاولة فستكون خبرة لتجربة قادمة ستكون أكثر سلاسة ومتعة.

إن نشوة الروح التي يخلفها بلوغ الرغبة وتمامها لهو أمر يستحق الشكر على نعمة الشعور الذي يجعلك تميز بين الأشياء واختلافاتها.

ثم أني سأتعمد الآن أن أختتم مقالي بالحديث عن الألم، الألم بكل مواضعه النفسية والجسدية والروحية، لعل ذلك يسهل الأمر على القارئ بكون الحديث هنا سيكون جميلًا رغم النظرة السائدة عن الألم بأنه ما من شيء يجعله جميلاً مهما تفلسف الكاتب وأطال في حديثه.

إن كل كائن على وجه هذه الأرض يعرف المعنى الحرفي للألم، لأن الحياة دون ألم مستحيلة، لن تسعد مالم تتألم، ولن تشعر بنعمة الصحة مالم تعرف الألم، لن تكون صافي الروح والنفس مالم تمر عليك لحظة تشعر فيها بأن الألم يكاد يمزقك كل ممزق.

 أكبر حسنات الألم أنه يجعلك تفرق بين المشاعر والأحوال، ثم ما أن تتصالح معه حتى تشعر بأنك ستستسيغه من باب أن ذلك سيكون تقوية لك ربما إذا تفكرت بأن هذا الشعور سيجعلك تتوقع الأشياء وتدرسها عن قرب وتجعل لك في كل خطوة للتعافي درسًا رغم مرارته إلا أنه سيخفف عنك وطأة القادم الذي تتوقعه.

ليس من الغريب أن يشعر المرء بلذة للألم الجسدي وكذلك النفسي، ربما لأنه بلغ مرحلة ترويض النفس على أشياء يجب أن يواجها مهما هرب منها إلا أنها ستصطدم به.

إن الحيرة الحقيقية هي أن يظن أحدهم بأن لا يستحق هذه المرارة أو أنه أضعف من أن يواجها، ويرفضها كونها تستنزفه، نعم لا أحد ينكر ذلك، ولكن عندما تحاول أن تستمع إلى نبضة الألم هذه أو أن تتحس قلبك لوهلة ثم تتساءل، هل هناك ألم أشد من هذا الذي أمر به؟ هل هناك مرارة أكثر هلاكًا مما يعتريني الآن، حسنا أنا لا أقول لك بأنك لا يجب أن تشعر بشيء فالأمر بسيط ويمكن السيطرة عليه، أبدًا لست أعني ذلك، كل ما أرغبه هو أن يكون هناك اصغاءٌ جيد لما يحدث في جوفك سواءً كنت مرهقا نفسيا أم جسديا، الأمر يستحق المحاولة، ولن أضمن لك ضمانة تامة بأنك ستخرج معافًا أو خفيف الروح من ألآمك، لكنك كلما استشعرت عمق الألم كلما ساعدت نفسك على احتياجاتها.

لنأخذ الأمر لمفترق أكثر تفصيلًا ولنتحدث عن الألم النفسي فحسب؛ لأن الإنسان يفضل أن يفقد جزءًا من جسده على أن يفقد جزءًا من روحه ونفسه.

كل منا لديه ألم نفسي قد يعترف به وقد ينكره لكنه دوما يطغى على محياه، ويظهر للآخرين بطريقة تستوجب الشفقة.

قد يمر على المرء لحظات يشعر فيها بأن كل أحزان في العالم محطها صدره وثقلها فوق منكبيه، وفي تلك اللحظات يشعر وكأنه لا يجرؤ على التفكير في أشياء تخفف عنه لعظمة ما يشعر به ولأن الأمر جديٌ فوق ما هو معهود ومستطاع، يتوقف عقله عن التفكير وتسكن كل جوارحه عن الحركة والتدبير، وكل آهٌ تنتزع من عمره مقدارًا كبيرًا، وفي كل جزء من الثانية يرغب بأن يختفي ويزول كل شيء، نفسه، ألمه، الناس من حوله، العالم أجمع وأن يحال كل شيء إلى العدم.

ثم إن البحث عن الحل أو عما يعيد للإنسان توازنه النفسي قد يكون مضنيا، وقد يكون سهلًا لكنه يحتاج صدق المرء للبحث عن الشفاء.

تعامل المرء مع ألمه على أنه حتمي يفتح له أبواب التأمل والتفكير بأنه لا بد لي من التوقف عن تمجيده، لا بأس بأن تستذكره أو حتى تتأوه في خاطريك أو تتمعن فيه للحظات قد تحتال من كونها حزينة إلى ابتسامة تطبطب على قسمات روحك ومحياك.

إن التفكير في الأمور السيئة يعطل عمل العقل ويرهق القلب ويجعل الحياة مستحيلة، وتجاهله تمامًا قد يغرقك في الوهم حتى تحيا بلا شعور أو ضمير، لذلك الحياة تتطلب التوازن والركن مرة هنا ومرة هناك

سأختصرها بالقول عنه بأن الألم هبة وابتلاء، كلما شدك الوجع عميقًا، تدارك نفسك وخذ نفسًا عميقا وقل لنركن قليلًا إلى الطريق الآخر، طريق تأمل نعمة الألم.

Be the first to comment on "عن الحب والرغبة والألم"

تعليقك يثري الموضوع