البيان لـ #مصطفى_لطفي_المنفلوطي ، عن أسلوب البيان وجمال الكتابة يكتب راسماً معالم الإبداع بعيداً عن التكلف المفرط باستخدام الألفاظ العسيرة المتقعرة، أو الإسفاف المبالغ فيه باستخدام الألفاظ العامية
ومدافعاً عن اللغة العربية في قدرتها على اشتقاق الأسماء للمسميات الأجنبية والمحدثة المقال في ١٢٢١ حرف و ٧٧ فقرة يستغرق للقراءة الصامتة ٧ دقائق و ٢٢ ثانية
البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي
البيان(1) لمصطفى لطفي المنفلوطي
قال لي أحد الوزراء ذات يوم: إني لتأتيني رقاع الشكوى فأكاد أهملها لما تشتمل عليه من الأسباب المنفرة، والكلمات الجارحة،
لولا أن الله _ تعالى _ يلهمني نيات كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنت من الظالمين .
ذلك ما يراه القارئ في كثير من المخطوطات التي يخطها اليوم كاتبوها في الصحف، ورقاع الشكوى، والكتب الخاصة، والمؤلفات العامة.
هزلٌ في موضع الجد، وجدٌ في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب،
وجهل لا يفرق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف،
وقصور عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء،
حتى إن الكاتب ليقيم في الشوكة يشاكها مناحة لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها،
ويكتب في الحوادث الصغار ما يعجز عن كتابة مثله في الحوادث الكبار،
ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيره بما يناجي به أميره.
ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متشعبة، واختلفوا في شأنه اختلافاً كثيراً، ولا أدري علام يختلفون وأين يذهبون؟
وهذا لفظه دال على معناه دلالة واضحة لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعب مسالكها؟
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس، وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويراً صحيحاً لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه،
فإن علقت به آفة تَيْنِكِ الآفتين فهي العي والحصر.
جَهِل البيانَ قومٌ فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة، ونادر الأساليب، فأغَصُّوا بها صدور كتابتهم،
وحشوها في حلوقها حشواً يقبض أوداجها، ويحبس أنفاسها،
فإذا قدّر لك أن تقرأها، وكنت ممن وهبهم الله صدراً رحباً، وفؤاداً جلداً، وجناناً يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر وأرزائه _
قرأت متناً مشوشاً من متون اللغة، أو كتاباً مضطرباً من كتب المترادفات.
وجَهِلَه آخرون فظنوا أنه الهذر في القول، والتبسط في الحديث واقعاً ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع،
فلا يزالون يَجْتَرون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها تمطق الشفاه بريقها، حتى تَسِفَّ وتُبتذل،
وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تَطْرُفُ عليها العيون،
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
يكتبون لأنفسهم:
يخيل إلي أن الكُتَّاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس،
وأن كتابتهم أشبه شيء بالأحاديث النفسية التي تتلجلج في صدر الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنس بوحدته؛
فإني لا أكاد أرى بينهم من يحكم وضع فمه على أذن السامع، وينفث في روعه ما يريد أن ينفث من خواطر قلبه، وخوالج نفسه.
الكلام صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من العلو والإسفاف،
فإن أردت أن تكون كاتباً فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك، واحرص الحرص كله على ألا يخدعك منها خادع؛ فتسقط مع الساقطين.
ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلاَّ من ناحية الجهل بأساليب اللغة،
ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً عربياً قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم، ونعوتهم، وتصوراتهم، وخيالاتهم، ومحاوراتهم، ومساجلاتهم،
وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاقبون، ويؤنبون، ويعظون، وينصحون، ويَتغزَّلون، وينسبون، ويستعطفون، ويسترحمون،
وبأية لغة يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمد تلك الروح العربية استمداداً يملأ ما بين جانحتيه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعته على صفحات قرطاسه.
إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ، وابن المقفع، والصاحب، والصابئ، والهمذاني، والخوارزمي، وأمثالهم من كتاب العربية الأولى،
ثم أقرأ ما خطه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار، فأشعر بما يشعر به المتنقل دفعة واحدة من غرفة محكمة النوافذ، مسبلة الستور إلى جو يسيل قراً وضراً، ويترقرق ثلجاً وبرداً؛
ذلك لأني أقرأ لغة لا هيَ بالعربية؛ فاغتبط بها، وهي(2) بالعامية؛ فألهو بأحماضها ومجونها.
بين رجلين:
رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجلين:
رجل يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة،
فإذا علقت بنفسه تلك الملكة الصحفية ألقى بها في رُوْع قارئ كتابته أَدْوَنَ مما أخذها، فيدلي آخذها كذلك إلى غيره أسمج صورة، وأكثر تشويهاً،
وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كرِّ الغداة ومر العشيّ،
وطالب قصارى ما يأخذه من أستاذه: نحو اللغة وصرفها، وبديعها وبيانها، ورسمها وإملاؤها، ومترادفها ومتواردها، وغير ذلك من آلاتها وأدواتها.
أما روحها وجوهرها فأكثر أساتذة البيان عنده علماء غير أدباء،
وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يفيض عليه روح اللغة، ويوحي إليه بسرِّها، ويفضي له بلبها وجوهرها أكثر من حاجته إلى أستاذ يعلمه وسائلها وآلاتها.
وعندي أن لا فرق بين أستاذ الأخلاق وأستاذ البيان؛
فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيدها إلا من أستاذ كملت أخلاقه، وسمت آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذ مبين.
ولا يقذفن في روع القارئ أني أحاول استلاب فضل الفاضلين، أو أني أريد أن أنكر على شعراء الأمة وكتابها ما وهبهم الله من نعمة البيان؛ فما هذا أردت ولا إليه ذهبت،
وإنما أقول إن عشرة من الكتاب المجيدين، وخمسة من الشعراء البارعين، قليل في بلد يقولون: إنه مهد اللغة العربية اليوم، ومرعاها الخصيب.
وبعد: فإني لا أدري لك يا طالب البيان العربي سبيلاً إليه إلا مزاولة المنشآت العربية منثورها، ومنظومها،
والوقوف بها وقوف المتثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج؛
فإن رأيت أنك قد شغفت بها، وكلفت بمعاودتها، والاختلاف إليها فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب؛
فامض لشأنك، ولا تلوِ على شيء مما وراءك تبلغْ من طلبتك ما تريد.
لا تكن سارقاً:
ولا تحدثك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشآت العربية لأسلوب تستَرِقه، أو تركيب تختلسه،
فإني لا أحب أن تكون سارقاً، أو مختلساً، فإن فعلت لم يكن دركك دركاً، ولا بيانك بياناً،
وكان كل ما أفدته(3) أن تخرج للناس من البيان صورة مشوهة لا تَنَاسُبَ بين أجزائها،
وبردة مرقعة لا تلاؤم بين آثارها عفواً بلا تكلف ولا تَعَمُّل،
وإلا كان شأنك شأن أولئك القوم الذين علقت ذاكرتهم بطائفة من منثور العرب ومنظومها،
فقنعوا بها، وظنوا أنهم قد وصلوا من البيان إلى صميمه.
فإذا جدَّ الجد وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء مما تختلج به نفوسهم، رجعوا إلى تلك المحفوظات، ونبشوا دفائنها،
فإن وجدوا بينها قالباً لذلك المعنى الذي يريدونه، انتزعوه من مكانه انتزاعاً، وحشروه في كتابتهم حشراً،
وإلا تبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو هجروا تلك المعاني إلى معان أخرى غيرها، لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها،
فلا بدَّ لهم من إحدى السوأتين: إما فساد المعاني واضطرابها، أو هجنة التراكيب، وبشاعتها.
فاحذر أن تكون واحداً منهم، أو تصدق ما يقولونه في تلمُّس العذر لأنفسهم من أن اللغة العربية أضيق من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة،
وأنهم ما لجؤوا إلى التبذل في التراكيب إلا لاستحالة الترفع فيها؛
فاللغة العربية أرحب صدراً من أن تضيق بهذه المعاني العامة المطروقة بعدما احتملت من دقائق العلوم والمعارف ما لا قبل لغيرها باحتماله،
وقدرت من هواجس الصدور، وخوالج النفوس على ما عيَّت به اللغات القادرات.
وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها، وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في أعماقها،
واقتناعهم من بحرها بهذه البَلَّةِ التي لا تثلج صدراً، ولا تشفي أواماً.
أهون الذنوب:
وكل ما يُعَدُّ عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على أعلام لبعض هذه الهِنات المستحدثة،
وهو في مذهبي أهون الذنوب وأضعفها شأناً، ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه، أو التعريب إن عجزنا عن الاشتقاق،
فالأمر أهون من أن نحار فيه، وأحقر من أن نقضي أعمارنا في العراك ببابه، والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه، وأجداها عليه.
واعلم أنه لا بدَّ من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشآت العربية، فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك،
ولا أحسبك إلا واقفاً بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب؛ لأن حسن الاختيار طِلْبةٌ تتعثر بين يديها الآمال، وتتقطع دونها أعناق الرجال؛
فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس منهم ذوقاً سليماً، وقريحة صافية، وملكة في الأدب كمصفاة الذهب،
فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاء وفطنة وقريحة خصبة لينة صالحة لنماء ما يلقى إليها من البذور الطيبة _ عُدْتَ وبين جنبيك ملكة في البيان زاهرة،
يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثُرَ الوردِ والأنوار من حديقة الأزهار.
#المقالات_المختارة
#مقالات_في_اللغة_والأدب
#مصطفى_لطفي_المنفلوطي
الهوامش
_____________________________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة251/257.
(2) هكذا في الأصل ولعل الصواب: ولا هي. (م)
(3) بمعنى: أفاد واستفاد.
Be the first to comment on "البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي"