Site icon حديقة المقالات

أساليب الشيخ علي الطنطاوي – دراسة تحليلية 13\1

أساليب الشيخ علي الطنطاوي

دراسة تحليلية

بقلم : عبدالعظيم بدران

الأسلوب هو الطريق، يقال: سلكت أسلوب فلان في كذا أي: طريقته ومذهبه.

والأسلوب: طريقة الكاتب في كتابته. والأسلوب: الفن. يقال: أخذنا في أساليب من القول أي: فنون متنوعة[1].

ولقد أدرك “علي” مبكرا أن الألفاظ للأدب هي بمثابة عناصر الغذاء أو حبات العقد، وأن لتخيرها وصوغها أثرًا كبيرًا في جودة الأسلوب وقوته.

ولقد بزغت في أدبيات كاتبنا مجموعة من الفنون، لعلَّ أهمها أنه أكثر من ضرب الأمثال، والتعبير بأفعلِ التفضيل، والاستفهامِ الاستنكاري.

وكثيرا ما قرر، واستنبط، وعرَّض، وأوحى،

وقد يَشرع في حوارات افتراضية، ويجلب الفكاهة، لذاتها أو ممزوجة بالسخرية، ويقابلُ، ويجانسُ،

وفي حديثه التفاتٌ، وله خيالٌ رقيقٌ، ويأتي بتشبيهاتٍ طريفةٍ ومبتكرةٍ، وكلماتٍ هامسةٍ أحيانا، وجهوريةٍ أحيانا أخرى.

ونادرا ما يُغرب – ربما عن قصد – وقد يصرح بما يريد، وقد يوجز ويشير دون تفصيل وبيان.

وفيما يلي بعضٌ من تفاصيل ما مضى:

ضرب الأمثال

يعد ضرب الأمثال سبيلا إلى محاسن الكلام، وقد ذكره صاحب “أسرار البلاغة” ضمن ثلاثة أصول كبيرة يَستقي كلامُ الأديب منها جماله.

يقول الجرجاني عن “التشبيه” و”التمثيل” و”الاستعارة”: “هذه أصول كبيرة، كأن جل محاسن الكلام – إن لم نقل كلها – متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها”[2].

ولقد كثر في كلام أديبنا ضربُ الأمثال، متداخلا مع التشبيهات، الصريحة أو الضمنية، حتى صار ذلك ظاهرة عنده، يريد بها تقريب بعيد المعاني مع إضفاء الجمال وإمتاع القارئ؛ سواء أنشأ التمثيل من عنده إنشاءً، أو ذكر المثل مقتبسا من كلام الأولين.

ومما أنشأه “علي” من عنده إنشاءً قوله:

“أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعور واحد وعواطفه أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين، ثم يُقعِّد القاعدة ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان”[3].

وهكذا يوضح الطنطاوي معناه الأدبي بتجربة علمية ملموسة.

ومنه أيضا قوله:

“نحن نعرف قصة إنشاء كثير من المدن؛ واسط التي بناها الحجاج، وبغداد المنصور، وقاهرة المعز، مدن كثيرة صغيرة ولدت كما يولد كل حي ثم نمت وكبرت.

ولكن هل عرفتم مدينة تولد في يوم واحد فإذا هي من كبريات المدن ثم تخلو بعد يوم واحد؟!”.

ولأنه قصد بحديثه مكة المكرمة؛ فقد تورع عن التعبير بكلمة الموت التي تقتضيها كلمة الميلاد قبلها، واستعاض عن ذلك بقوله: “تخلو”، وهذا من حسن تخلصه في أسلوبه الأدبي.

ويستطرد فيقول:

“إن النهر يسير آلافا وآلافا من الأميال، فلا ينقطع سيره ولا تنضُب مياهه، ما دام من ورائه اليَنبوع يمده.

وهذا ينبوع قوتنا نحن المسلمين. هذا هو الينبوع، ورده أجدادنا فصدروا عنه ملوك الأرض، وأئمة الهدى”[4].

وفي مَثله هذا خلاصة ما يدعو إليه.

وقوله:

“تصوروا رجلا أميا في قرية من قرى الصحراء الكبرى، الجاثمة وراء الرمال، كلف أن يبدل عادات قومه، وأن يغير عقائدهم، وأن يحملهم على دستور جديد،

وأن يأخذهم بعد ذلك ليبلغوه الدولتين اللتين اقتسمتا الأرض: أميركا وروسيا، فلا تمضي عليه ثلاثون سنة حتى يقوم بذلك كله، ويغلب الدولتين الكبيرتين ويقيم للناس عالما جديدا في نظمه وأوضاعه ولسانه.

هذا ما صنعه محمد”[5]. صلى الله عليه وسلم. وقد أوضح في مثله هذا البعيدَ بالقريب.

وقوله:

“ليس العالم كالكاتب، الكاتب هو الذي يخرج لك مكنون نفسه حتى تراه ظاهرا لعينك، ويصف لك المشهد الغائب عنك حتى تبصره أمامك، ويملك الفكرة فيتصرف بها تصرف المالك، حتى يدخلها ذهن الشاك أو المنكر أو المعارض كما يدخلها ذهن الموافق أو الخلي.

هو الذي يملك عينا كعين المصورة (الكاميرا) تسجل كل جميل في الكون أو قبيح، وكل محبوب في النفس أو مكروه، تسجيلا يخلده ويبقيه، كما يسجل وقائع الناس وطباعهم وخلائقهم،

ثم إن الكتابة كالطب صارت إخصاء، فلم يعد الطبيب يداوي الأمراض كلها في الأعضاء كلها، بل لم نعد نجد طبيبا داخليا (باطنيا) عاما، بل صار لكل عضو إخصائي – اختصاصي – ولكل مرض إخصائي. وكذلك الكتابة”[6].

وفي تفصيله هذا يُلبس المعنى الأدبي لباس التجارب العلمية.

وقوله:

“أرأيت الماء الذي ينزل من الأنبوب قطرة قطرة يملأ كأسك في ساعة، أما إن كان يخرج منه بقوة واندفاع فإن الكأس لا تمتلئ أبدا؛ لأن الماء ينبو عنها ويتطاير منها فلا يستقر منه شيء فيها”[7].

وهو يقرب هنا معنى التدرج في التغيير والتلقين، وعدم الاندفاع والتسرع فيه.

أما ما اقتبسه من أمثال الأولين، فمنه:

(1) (إذا دار العود فلا قعود)[8].

وهو مثل نجدي، ويعني أنه إذا أدير البخور على الجالسين فإن ذلك يعني أنهم يستعدون لإنهاء جلستهم، وذلك بتعشيق الثياب – العباءة والعمامة – بالطيب، ومن ثم القيام من المجلس.

(2) “لقد صرت شيخا كبيرا، وهل أجرؤ أن أنكر هذا وقد جاوزت الثمانين، فإن رأيتموني أعيد حديثا سبق أن حدثت به في هذه الذكريات أو في الرائي أو أحاديثي في الإذاعة فنبهوني يكن ذلك التنبيه فضلا منكم،

واذكروا أن (العصا قُرعت لذي الحِلم)”[9].

وقد أحسن الطنطاوي توظيف هذا المثل في حديثه.

(3) “… إنه مثل موقفنا مع اليهود وغير اليهود. (أوسعته شتما وأودى بالإبل)”[10].

وقد وظف هذا المثل عند حديثه عن بعض مواقفه الاجتماعية العائلية، ولكنه حمَّل كلمته به معاني أوسع، وإن ذكره بمعناه. حيث رُوي: أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل[11].

(4) “حدثني جندي كان يقاتل في حرب 1948 أنه رأى في طرف البلد دارا ينبعث منها الرصاص على المقاتلين العرب،

فاقتحمها عربي باسل فلم يلق إلا مجندة واحدة يهودية نفدت ذخيرتها، كانت تحمل رشاشا تطلق الرصاص منه،

فلما لم يبق عندها رصاص، استعملت سلاح اليهود، وسامحوني إن خبرتكم بما وقع: إنها حلت حزام بنطالها فأسقطته، فنظر، فإذا ليس تحته شيء.

والعرب تقول في أمثالها: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها).

أما اليهودية فتأكل من غير أن تجوع بكل عضو فيها”[12]. وقد ساق علي هذا المثل وأردفه بتعليق عبقري.

(5) “هذا السائق المنكر الذي يمشي بنا على غير هدى يدور دوران السانية، وقديما قالت في أمثالها العرب: (سير السواني سفر لا ينقطع)”[13].

وفي موضع ثان: “ألفت الوحدة حتى لم أعد أطيق الفرار منها، وضقت بها حتى لم أعد أطيقها،

فأنا – ولا مؤاخذة على هذا المثال فإنما أتكلم عن نفسي – أنا كحمار السانية، التي يسمونها في مصر الساقية، يدور فيها مغمض العينين،

فإذا أطلق منها وفك سراحه بقي يدور كما تعود الدوران”[14].

وفي موضع ثالث يقول: “مشينا إلى الآن أكثر من ألف وخمسمائة لكننا كحمار السانية،

وقديما قالت العرب: (سير السواني سفر لا ينقطع)؛ لأنها تسير وتسير وهي في مكانها، تدور في حلقة مفرغة من حول بئر الماء، ونحن ندور حيث لا ظل ولا ماء”[15].

ومع توظيف الطنطاوي هذا المثل في جاذبية حديثه وثرائه، فقد أضاف إليه الظرف والطرافة؛

لما يلمسه قارئه من التبسط المحبوب الذي يلمس به بعض الأدباء – على قلتهم – أوتار القلوب.

(6) “تقول العرب في أمثالها: (شدة القرب حجاب).

أدن كفك من عينيك تحجب عنك ما بين المشرق والمغرب، أي أن الكف على صغرها أخفت عنك الدنيا على سعتها”[16].

الهوامش

[1] – انظر: تاج العروس، ومختار الصحاح، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، مادة سلب.

[2] – أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، تعليق محمود شاكر، ص27.

[3] – من حديث النفس، علي الطنطاوي ص 21.

[4] – من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص26.

[5] – من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص24.

[6] – ذكريات، علي الطنطاوي، 3/233-234.

[7] – ذكريات، علي الطنطاوي،  1/109.

[8] – ذكريات، علي الطنطاوي 3/80.

[9] – ذكريات، علي الطنطاوي 8/307. وقد ذكر الميداني هذا المثل

وقال: إن ذا الحِلم هذا هو عامر بن الظَّرِبِ العَدْوَاني،

وكان من حكماء العرب لا تَعْدِل بفهمه فهماً ولا بحكمه حكمًا،

فلما طَعَنَ في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: إنه قد كبرَتْ سِنِّي وعرض لي سَهْو فإذا رأيتموني خرجْتُ من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المِجَنَّ بالعصا.

أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، مجمع الأمثال 1/37.

[10] – ذكريات، علي الطنطاوي 2/139.

[11] – جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1/10، والمستقصى في أمثال العرب، للزمخشري 1/431.

[12] – ذكريات، علي الطنطاوي 5/74. والمثل ذكر في: المستقصى في أمثال العرب للزمخشري 2/20،

و”جمهرة الأمثال” لأبي هلال العسكري 1/255، 261، 262.

وقال: والمثل للحارث بن سليل الأسدي وذلك أنه زار علقمة بن خصفة الطائي وكان شيخا كبيرا وكان حليفا له فنظر إلى ابنته الزباء وكانت من أحسن أهل دهرها فأعجب بها

فقال له: أتيتك خاطبا وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب.

فقال له علقمة: أنت كفء كريم يؤخذ منك العفو ويقبل منك الصفو، فأقم ننظر في أمرك. ثم انكفأ إلى أمها

فقال: إن الحارث بن سليل سيد قومه حسبا ومنصبا وبيتا وقد خطب إلينا الزباء فلا ينصرفن إلا بحاجته.

فقالت امرأته لابنته: أي الرجال أحب إليك الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح؟

قالت: لا بل الفتى الوضاح. قالت: إن الفتى يعيرك وإن الشيخ يميرك وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحدث السن الكبير المن.

قالت: يا أمتاه إن الفتاة تحب الفتى كحب الرعاء أنيق الكلا.

قالت: أي بنية إن الفتى شديد الحجاب كثير العتاب.

قالت: إن الشيخ يبلى شبابي ويدنس ثيابي ويشمت بي أترابي..

فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث على خمسين ومائة من الإبل وخادم وألف درهم

فابتنى بها ثم رحل بها إلى قومه فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قبته وهي إلى جانبه إذ أقبل شباب من بني أسد يعتلجون فتنفست الصعداء

ثم أرخت عينيها بالبكاء فقال لها: ما يبكيك؟

قالت: ما لي وللشيوخ الناهضين كالفروخ..

فقال لها: ثكلتك أمك تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.

فذهبت مثلا، ثم قال لها: أما وأبيك لرب غارة شهدتها وسبية أردفتها وخمرة شربتها فالحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك.

[13] – من نفحات الحرم، علي الطنطاوي ص18.

وقال النيسابوري: سير السواني سفر لا ينقطع.. السواني: الإبل يستقى عليها الماء من الدواليب فهي أبدا تسير. 

مجمع الأمثال 1/342، دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

ومعجم “الغني” للدكتور عبد الغني أبو العزم، مادة سنا.

[14] – ذكريات، علي الطنطاوي 8/30.

[15] – ذكريات، علي الطنطاوي 3/85، والمثل في مجمع الأمثال للنيسابوري 1/342.

[16] – ذكريات، علي الطنطاوي 6/57.

المصدر

فهرس البحث

Exit mobile version