مسرحيات ( برنارد شو ) توجهات لتوعية الإنسان مقال ثري للكاتب فؤاد الكنجي تناول الحديث عن هذا الموضوع مستحضراً نماذج من مواقفه وسخرياته وأقواله السياسية ومسرحياته
مسرحيات ( برنارد شو ) توجهات لتوعية الإنسان
فواد الكنجي
المدخل
الإعمال الإبداعية لـ(جورج برنارد شو 1856 – 1950) هي التي فرضت نفسها وحضورها في المسرح العالمي بما تركته من تأثيرات كبيرة على الثقافة الإنسانية؛
لان يقيننا بان لا إبداع يتحقق إلا وفق آلية معقدة من البناء الثقافي والمعرفي وإمكانية (المبدع) في تشكيلها؛
حيث يقوم بتنظيم آلياتها لتعبير عنها في أعمال أدبية وفنية هادفة،
فـ(المبدع) الحقيقي هو الذي يمتلك عمقا معرفيا وإدراكا واطلاعا على المنجزات الثقافية لمختلف شعوب الأرض أكانت تراثية أو حديثة أو معاصرة؛
ليستفاد منها لتكوين خزينته المعرفية والثقافية والتي تؤهله لتعبير عن موضوعات تلامس واقع المجتمعات التي يعيش فيها من اجل توعية الإنسان وإشراقه بثقافة وأفكار و بقيم إنسانية راقية تنير عقليته وسلوكه في المجتمع،
لان في مجمل الأعمال الفكر من الأدب.. والفن.. والحضارة الإنسانية.. هي سلسلة متواصلة غير منقطعة من تراكمات فكرية تطرح لخدمة الإنسانية ورفدها بكل ما يعزز قدرات الإنسان في الرقي والازدهار والتحضر والتي تتكون وتتواصل نموها عبر مراحل التاريخ .
ومن هنا فان التجربة الإبداعية التي تم توظيفها من قبل (برنارد شو) تم عبر مخزونه الثقافي ومن خلال خصوصيته وما استوحاه من موضوعات محلية وتراثية وعالمية؛
وعلى ضوء ذلك تم توظيف أدواته لإيجاد طقوس وعلاقات ضمن محيطه لهدف التغير وتوعية الإنسان ولتحسين سلوكه وتصرفاته اليومية ؛ لتفرض حضورها؛
ومن ثم تؤسس لها هوية خاصة في مجال الإبداع تمتلك القدرة على استقطب وإثارة الإعجاب ولفت الأنظار،
وكل ذلك لا يتم للمبدع – أي كان ومنهم (برنارد شو) – ما لم يتم استجابة لتجارب تراثية وتاريخية وواقعية واجتماعية وتفاعله مع الحداثة لتنطلق من خصوصية المبدع وانتمائه لمحيطه الجغرافي؛
ليكون ما يقدمه (المبدع) ذو خصوصية لظروف البيئية ولها سمات اجتماعية هادفة بعيدا عن التقليد ومحاكاة الآخرين،
فكلما كان المبدع قادرا على خلق خصوصية التميز كلما تقدم خطوة لتأسيس عملا إبداعيا هادفا ومؤهلا ليوازي تجارب الفنية العالمية .
فـ(برنارد شو) ما كان يصل بفنه وإبداعه إلى العالمية إلا من خلال قدرته على استلهام محيطه المحلي الذي عاش فيه وقد أثار إحساسه،
وهو كإنسان جمع بين تراكمات معاناته وما ذاقه من مرارة الحياة وقسوتها وهذه المعاناة هي التي صنعت مفرداته .
فـ(برنارد شو) هو الإنسان جمع بين تراكمات المعاناة ليصنع منها مفردات لغته بوعي وإحساس تخاطب الأفئدة،
ونحن نعلم بان (الكتابة) ما هي إلا أداة لتخفيف معاناة ألروح واغترابها من واقع المعاش فرض على المبدع فرضا؛
وهكذا جهد (برنارد شو) ومن خلال إمكانياته في استنطاق كل مفردات التاريخ والموروث والحياة الاجتماعية المحلية؛
فحقق نجاحه محليا ليتجه بعد ذلك في تكريس إبداعه عالميا،
بعد إن أخذت إبداعاته وأعماله المسرحية تترجم وتسافر إلى مختلف مدن العالم وتلاقي نجاحا باهرا؛ بكونها كانت تحمل تجديدا وأسلوبا مغايرا عما كان سائدا؛
كونه طعم مسرحه بنكهة طقوس من (السخرية) الهادفة بطابعها المحلي والتراثي ويرسل إشارات زمانية ومكانية ضمنا و وفق خصوصية ودلالات لغوية معبرة عن واقع المجتمع من اجل التغير ومن اجل أهداف إنسانية نبيلة،
مما استقطبت أعماله المسرحية اهتمام كل شعوب الأرض بما أثار فيهم متعة التأمل وفضول المعرفة،
وهذا ما قاد اكبر رؤساء العالم مقابلته من (ستالين) و(تشرشل) وملوك وأمراء آخرين .
حياته وإبداعه
فـ(جورج برنارد شو 1856 -1950) كاتب مسرحي اعتبر رمزا للأدب الساخر الهادف؛
ومن أهم كتاب المسرح الاجتماعي؛
ولد في (دبلن – أيرلندي) وفي صباه غادر إلى (لندن – بريطانيا) وعاش فيها حتى وفاته،
ورغم انه ترك الدراسة منذ الصغر ولكنه اصقل موهبته بكثرة المطالعة وقراءة لكتب الفلسفة والأدب واطلاعه على شتى أنواع الفنون وإبداعات الكتاب، ولكونه كان شديد تأثير بوالده،
إذ كان منذ الصغر يرافقه في الذهاب إلى العمل؛
وقد عرف عن ولده بكونه شخص عنيد وسكير و ذو نكتة خفيفة،
فورث هذا الطفل الشيء الكثير من خفة الدم والده وسخريته؛
والتي شكلت هذه الميزة – فيما بعد – الإطار العام لإنتاجه الفكري،
لنستشف من ذلك حجم تأثير البيئة على سلوك (برنارد شو) منذ نعومة أظافره والتي تعد إحدى الأسباب لإبداعه الأدبي؛
وكما تأثرت علاقة البيئة الحاضنة له بعد انفصال والديه على سلوكه؛
مما اضطر الاعتماد على نفسه في كسب الرزق؛
رغم كونه رافق والده العمل منذ الصغر، ليكتسب (برنارد شو) خلال هذه الفترة الكثير من تجارب الحياة،
فقد أمعن في تتبع ومراقبة حياة الفقراء بشكل مباشر؛
مما اتخذ من تلك الصور مشاهد حقيقية لتكوين أفكار لرواياته وقصصه ومسرحياته،
فقد تعاطف مع معاناتهم مما جعله من اشد مناصرين ومدافعين عن حقوقهم،
ومما عمق هذا الاتجاه في تفكيره و ولوعته بالقراءة ومتابعة الأفكار التقدمية الاشتراكية بشكل ملفت؛
فكان كثير التردد إلى دور الكتب والمكتبات العامة ليقرأ وليثقف نفسه بالعلم والمعرفة،
رغم انه ترك دراسته ولم يتواصل التعليم المدرس بكونه اعتقد بان نظام التعليم في المدارس الحكومية تفرض عليه التلقين الإجباري،
فاعتبر ذلك شيء من التقيد لحريته واعتبره سجن لا يطيقه،
فرفض فكرة التعليم من اجل التحصيل الدراسي؛
فترك دراسته لأنه لم يجد فيها ما يبغي في توسيع معرفته بالتأمل والبحث والتفكير الحر والمطالعة،
فشغف بفكرة التعليم من اجل العلم والمعرفة وتوسيع مدارك الإنسان لا من اجل الحصول على شهادات مدرسية،
وهكذا اخذ يوسع مدركاته الفكرية بمزيد من المطالعة والقراءة والتأمل في الفكر الإنساني وفي علوم الأدب و الفلسفة متأثرا بالأفكار التي تتضمنها هذه الكتب ودلالاتها الخيالية والجمالية ولغتها العلمية،
وكان تركيزه يتجه نحو الكتب الاشتراكية وكتابات (ماركس) و(انجلز)،
فاخذ يتعمق في مناهجها من اجل وصول إلى براهين ونتائج كي يتيقن على ما يذهب إليه،
ومن تلك المعطيات اخذ (برنارد شو) يفحص تجارب الحياة وظواهرها ليعتمد على تجسيدها عبر الرؤية وحدس وخيال وكأدوات فكرية وفلسفية يأخذ منها أسلوبا واتجاها أدبي ليتنفس فيها عبر كتابة مسرحيات هادفة يكتب فيها عما يكابده وبلغة تعبيرية جمالية صيغت بطابعها الفلسفي؛
فتناول شتى مواقف الحياة؛ فاتت مسرحياته برؤية فلسفية،
لان (برنارد شو) تيقن بان لا يمكن لأي معنى إن يصل إلى هدفه ما لم نعيش تجربة ذاتها؛
فأنت لا تعرف معنى (الحب) ما لم تعش تجربته؛
وهكذا مع كل تجارب الحياة،
ومن خلال هذه التجربة تستطيع حين ذاك إن تفلسف في ذلك الاتجاه لتصل إلى مستوى الدهشة التي هي تعطي للعمل الأدبي والفني قيمته الجمالية .
ومن هنا فان مخيلة (برنارد شو) خضعت لتجارب وتواصل يومي مع قضايا المجتمع،
تلك القضايا التي أمعن فيها (برنارد شو) تفكيره لإبداع مفاهيم تواكب المعرفة على كل مستويات الإفراد في المجتمع؛
وليس حكرا لفئة مثقفة فحسب،
لان في نظره أي عمل لا يقوم على الحقائق ولا يلامس واقع المجتمع ستكون صورته مظللة، ومن هنا لابد لأي عمل مسرحي جاد؛
يصل إلى مبتغاة في التعليم والتوعية؛
لا بد أن يكون ذلك العمل مترجما لحقيقة واقع الحياة التي نعيشها لكي يتم استيعابها بشكل معرفي نحصن أنفسنا من المنزلقات؛
وعلينا إن نكتشف ونكشف متناقضات الحياة ونأخذ منها معالجات وبشتى تأويلات وإيحاءات ودلالات بكون ذلك هو الذي يحرك الفكر الإنساني ويبعده عن الجمود؛
ليكون تجديده بتجديد الفكر وبالتعبير صادق لتكون تلك التعبيرات صالحة بمعانيها المتعددة لحياة الإنسانية وبصورة اشمل وأوسع شكلا ومضمونا،
وهذا المسار هو مسار الذي اتجه (برنارد شو) وبني تشكيله وخطابه ولغته في مسرحياته والذي حافظ على توازنه المعرفي بأفضل الأحوال،
لتتصف نصوصه بكونها (اجتماعية) بامتياز وبارتباطها بأيدلوجية (اشتراكية)،
فكان مناصرا ومدافعا عن هذه ألأيدلوجية؛
حيث اعتبر (برنارد شو) أحد مفكري ومؤسسي (الاشتراكية الفابية)، وقد انخرط في العمل السياسي؛
وبدأ نشاطه في مجال الحركة (الاشتراكية)،
وقد تأثر بنظرية (التطور) وكان من الملحدين المتسامحين مع الأديان وانضم للجمعية (الفابية) –
وهي جمعية (انكليزية) سعى أعضاؤها إلى نشر المبادئ (الاشتراكية) بالوسائل السلمية – إن إيمان (برنارد شو) بالفكر (الاشتراكي)،
والتي صار بفضها إعماله تلاقي اهتمام النقاد والجماهير وتستقطب التفاتاتهم بأفضل صورة؛
بكونه نجح في استقطاب الجناح الثقافي والاجتماعي من أفراد المجتمع إلى مسرحياته وقد سلك في إيصال أفكاره (الاشتراكية) ضمن القضايا (الاجتماعية)
عبر أسلوب (السخرية) التي تميز (برنارد شو) باتجاه قضايا السياسة.. والعلم.. والدين.. والاجتماع،
ليجعل منه أسطورة في عالم المسرح لحجم ما استخدم فيها عبارات (السخرية) و(ضروب ألهجائه) و(الطرفة أو النكتة الخفيفة) لتتداول إلى يومنا هذا؛
فما تخلو مسرحية من مسرحياته ذات الطابع الاجتماعي منها؛
بتناول مشاكل الحب والفلسفة والسياسة وقضايا الاجتماعية بأسلوب شفاف؛
لتكون تلك الأعمال مرآة لهموم المجتمع من جهة ولألمه من جهة أخرى؛
وقدمها بأطروحات لا تخلو من السخرية وإبداعها وبنكهة تلامس هموم الإفراد
التي تميز بها نتيجة وعيه في كيفية تكوين عباراتها بما امتلك من معرفة وأدوات متقنة وثقافة عالية،
ليكون مسرحه نموذجا للأدب الهادف؛
سعيا لتطوير الفكر والوعي المجتمعي من اجل صناعة عالم أفضل .
Be the first to comment on "مسرحيات ( برنارد شو ) توجهات لتوعية الإنسان 1-5"