التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص بحث أكاديمي بقلم أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية (مقال ثنائي) ننشره على حلقات
التقابل .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص
أ. نور السادات جودي – أ. عبد الله بن صفية
جامعة باتنة – الجزائر
التقابل من نحو الجملة إلى نحو النص:
بداية نقول :”أنّ الشيء الذي لا يمكن أن نتغاضى عنه، هو وقوع البلاغة القديمة عند حدود الجملة،
أو ما هو في حكمها…كما لا نستطيع أن نتغاضى عن الإغراق في الجزئية والانفصالية في البحث البلاغي جملة “(12)،
لذلك شهدت الدراسات الحديثة نقلة نوعية في مجال الدرس اللغوي واللساني والأدبي، فقد ظهرت مدارس نقدية انتقلت من الدراسة الجزئية للنصوص،
ومن النظرة الضيقة التي تتوقف عند الألفاظ والجمل إلى النظرة الكلية، التي ترى أن تحقق المعنى لا يكون إلاّ بربط أجزاء النص مع بعضها البعض،
فالدلالة في نظر أصحاب هذه الدراسات هي حصيلة ينتجها النص من خلال عملية السبك والحبك بين جميع العناصر التي تشكل النصوص والخطابات،
ولا يمكن حصرها أو الوصول إلى الكشف عنها بدراسة أجزاء النص متفرقة، بل تتحقق دلالة النص الكلية بالربط بين مختلف مقاطع النص،
والنظر إلى محصلة هذا الجمع بين المعاني والألفاظ والجمل.
في أواخر ثلاثينات هذا القرن “دعا الأستاذ “أمين الخولي” إلى مجاوزة البحث البلاغي المستوى الذي توقف عنده (مستوى الجملة) إلى مستوى وراء الجملة إلى الفقرة والنص.
وتأكدت هذه الدعوة مع ظهور اتجاه لساني معاصر، بدأت ملامحه ومناهجه وإجراءاته في التبلور منذ منتصف الستينات،
وهو اتجاه عرف باللسانيات النصية ونحو النص، وهو نحو يتخذ النص كله وحدة للتحليل.
وللكاتب دراسة حاولت إعادة النظر في البديع، من منظور اللسانيات النصية؛ فرأت له-على مستوى الفرض النظري-فاعلية في ربط أجزاء النص”(13).
جميل عبد الحميد
في هذا الإطار هناك دراستان(*) لجميل عبد الحميد، حاول فيهما إبراز فاعلية فنون البديع -بما فيها التقابل- في ربط أجزاء النص،
يقول في مقدمة كتابه (البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية): “تعيد هذه الدراسة النظر في البديع من منظور اللسانيات النصية، أملا في ارتياد طريق جديد، ينحو نحو تجديد الدرس البديعي،
فقد استقر الأمر في البلاغة العربية على أنّ وظيفة البديع هي (التحسين)… بينما أصبح أفقا جديدا من منظور اللسانيات النصية، لفاعليته في ربط أجزاء النص،
وكان هذا سببا في دعوة الدكتور”سعد مصلوح” إلى إعادة النظر في البديع من منظور اللسانيات النصية”(14).
منى علي سليمان الساحلي
وتعرضت الباحثة )منى علي سليمان الساحلي( في كتابها “التضاد في النقد الأدبي” إلى قضية التضاد عند الدارسين في العصر الحديث،
وذكرت أن الباحثين انقسموا إلى قسمين؛ قسم سيطرت عليه فكرة أنّ الطباق والتضاد…ينحصر دورهما في التحسين “(15) ،
فأصحاب هذا الطرح لا يرون للبديع بمختلف فنونه إلاّ دورا شكليا لا غير.
أما القسم الآخر فوقف أصحابه موقفا مغايرا لذلك، واهتموا بفنون البديع…خارج دائرة التحسين، ورفضوا تسميتها بالمحسنات(16) .
محمد مندور
من الباحثين الذين أوردتهم صاحبة الكتاب )محمد مندور( الذي يرى أنّ”الاستعارة أمر أصيل في الشعر…هي لباب الشعر،
ولا كذلك التجنيس والمطابقة…فالتجنيس إما عبث لفظي … وإما لعب بالمعاني ومهارة في استخدام مفردات اللغة…والطباق مجرد مقابلات بين المعاني”(17).
وتواصل الباحثة حديثها في نفس الإطار – أي النظر إلى فنون البديع على أنها شكل من أشكال التحسين والتزيين لا غير، وتذكر الباحث “عباس بيومي عجلان” ،
الذي يرى هو بدوره أن فنون البديع عامة …هي لون من التلوين البياني، وأداة لتجميل الكلام، ونمط من أنماط الصنعة)18( .
رجاء عيد
في الجهة المقابلة لهذا الموقف، هناك فريق آخر من الدارسين ،اهتم المنتسبون إليه بفنون البديع،
ولا سيما الطباق والمقابلة والتضاد، وغيرها من ألوان البديع خارج دائرة التحسين،
ومن أبرزهم ذكرت الباحث “رجاء عيد” الذي ينتقد القول التقليدي السائد،
وهو النظر إلى تلك الأنواع -أي فنون البديع- بأنها تلوين، وتزيين يلحق بالكلام، وأنها تابعة، لاحقة لما عرف بالمعاني،والبيان…”(19).
لذلك يقرر أن”تقسيم البلاغيين لما عرف بالمحسنات إلى لفظية ومعنوية تقسيم مردود،
والاصطلاح نفسه (محسنات( لا نطمئن إليه… “(20)،
وبذلك فهو يرى أن هذه الصور أو الأنواع “لا يمكن فصلها عن النسق اللغوي العام، فهي جزء من بنية التركيب الفني جميعه..”(21) ،
ويخصّ الطباق بأن قيمته الفنية تتمثل “في قدرته على مناوشة الشعور ،
وهو طريق الإبانة الخاطفة عن وجهي الحياة، أو الأشياء، حيث تتآزر في هذه الإبانة مختلف وسائل التركيب اللغوي…”(22)،
وبهذا فالطباق وغيره من أشكال التقابل يعد جزءا من بنية النص الكلية، تندمج وتدخل في علاقات تساهم في إنتاج دلالة النص.
علي شفلوح
ويرى “علي شفلوح” الحاجة الحديثة لفنون البديع،
والتي ينبغي أن تمتد آثارها إلى تناول الدارسين وتحليلاتهم،
إذ ينبغي التقليل من الاهتمام بالزخرف والزينة:”لأن الذهنية الحديثة أصبحت لا تؤمن بالشكليات والطلاء والبهرج…”(23)،
ومن ثمة يحاول الباحث أن يكتشف دلالات وأبعادا جديدة لهذه الفنون، بكشف أسرارها،
وما يمكن أن تلعبه من أدوار جديدة،
بعيدا عن الأدوار المعروفة والمستهلكة في البلاغة القديمة – التي لا ترى لهذه الفنون إلاّ بعدا تحسينيا – ويمكن تحقيق ذلك بالاستعانة بالتطور الحاصل في مجال البحث،
وما توصلت إليه النظريات الحديثة من تقنيات وطرق تساهم في الكشف عن المعنى، وطرق بنائه، وتكشف أيضا عن مواطن الجمال والبلاغة في النصوص والخطابات.
مصطفى السعدني
ويعتبر”مصطفى السعدني” الطباق نوعا من أنواع المفارقة التي يقصد بها “إبراز التناقض بين طرفين متضادين أو متقابلين،
في إطار البناء الشعري للنص بداية بالجزئيات وانتهاء بالقصيدة ككل”(24) ثم يربط بين الطباق والمقابلة،
وهي النوع الثاني للمفارقة عنده ويراهما مرتبطين بالتصورات المنطقية للتقابل بأنواعه لينطلق للحديث عن لزوميات “أبي العلاء المعري” حيث ظهرت المفارقة في عمله”مبنية على التصور المزدوج في الفكر والأشياء… بأنواعه،
فالمفارقات ليست أشياء عارضة أو دخيلة على النص،
وإنما هي جزء منه لذلك: “فالطباق والمقابلة عنصران بنائيان،يرتبطان بإبراز هذه الثنائية…”(25).
Be the first to comment on "التقابل من نحو الجملة إلى نحو النص"