اعتادي يا صغيرتي مقال للكاتب منور توفيق أسماعي ، التعود لا يعني الحب أبداً. فنحن لا نتعود إلا إذا انكسر داخلنا شيء من الصعب إصلاحه، لا نتعود إلا حين يموت فينا الشغف.
اعتادي يا صغيرتي
بقلم : منور توفيق اسماعي
عندما تزوجت جارتنا من شخص لم تكن تحبه قالت لها والدتها يومها نفس الجملة التي نسمعها في الأفلام والمسلسلات “بكرا بتتعودي عليه” .
اليوم وبعد مرور ما يقارب العشرة أعوام على زواجها غالباً ما أراها شاردة في اللاشيء، حزينة العينان، وكئيبة الملامح.
يبدو أنها لم تستطيع أن تحبه لكنها تعودت عليه كما قالت والدتها لها.
فالتعود لا يعني الحب أبداً. فنحن لا نتعود إلا إذا انكسر داخلنا شيء من الصعب إصلاحه، لا نتعود إلا حين يموت فينا الشغف.
وها نحن اليوم في بداية الأزمة كنا إذا سمعنا صوت رصاصة أو تفجير نركض مرتعبين فزعين من الموت،
لكن اليوم بعد مرور هذه السنوات أصبحت هذه الأصوات عادية جداً بالنسبة لنا ليس لأننا ما عدنا نخاف الموت بل لأننا اعتدناه!
اعتدنا الموت والفراق، صارت أشياء لا تؤثر فينا أبداً فاليوم نودع الميت كأنه ذاهب إلى عمله وسيعود في المساء.
الاعتياد يقتل الإحساس فينا، وربما يقتل الإنسانية أيضاً. فجارتنا لم تعتاد على زوجها إلا لأنه قتل شعور الحب داخلها، دفنت الأنثى التي كان شعرها يتطاير خلفها وقصت خصلاته.
فقد الأمل
هي لم تعتاد على يداه لأنها أصبحت تشعرها بالدفء، إنما يداها صارت باردة حد الصقيع وما عادت تشعر بشيء.
فلا تصدق أبداً أنه يوجد شخص ماعدا الزاهدين في الحياة يستطيع أن يعتاد الفقر، أو المرض، أو العجز،
إنما كل مافي الأمر أنه فقد الأمل داخله فأجبر على اعتياد الألم!.
فعندما تضعنا الظروف في موقف الاستسلام نضطر حينها أن نعتاد حتى لا نعترف ظاهرياً بخسارتنا.
فشعور الاعتياد هو مواساة الحياة لنا عندما تسلب منا ما سعينا دائماً لنيله.
استذكر ممدوح عدوان حينما وصف شعور التعود:
“حين نَشّمُ رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها،
وبعد حين من البقاء مع الرائحة يَخفّ الضيق، أتعرفُ معنى ذلك؟!
معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ألِفت ذلك، أو ماتت فلم تعد تتحسس. ومن ثم لم تعد تُنبه الجملة العصبية.
والأمرُ ذاته في السّمع، حين تَمر في سوق النحاسين فإنّ الضجة تثير أعصابك.
لو أقمتَ هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنّحاسون أنفسهم.
السبب نفسه: الشعيرات والأعصاب الحسّاسة في الإذن قد ماتت.
نحن لا نتعود إلا إذا مات فينا شيء…تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كلّ ما يجري حولنا.”
فالتعود هو وسيلتنا الوحيدة لاستمراريتنا، هو سلاحنا المجبورين على استخدامه. لذلك فلنعتاد الواقع لأن الأحلام قبل أن تولد قتلت.
منور توفيق اسماعي