معطيات تستوجب الفصل
يقول المؤرخ الفرنسي ، “لوسيان ڤيڤر” : ” لايقدم التاريخ للبشر مجموعة من الوقائع المنعزلة بل أنه ينظم هذه الوقائع ويفسرها ، ولكي يفسرها فإنه يرتبها في مسلسلات دون أن يمنحها الإنتباه نفسه . ذلك أن التاريخ ، شاء أم أبى ، إنما يحصد الوقائع الماضية منهجياً ، ومن ثم يصنفها وفقاً لحاجاته الراهنة . إنه يستجوب الموت من أجل الحياة .”.
لكن المشكلة التي يعاني منها الباحث ، في سبيله لتقصي الحقائق في خصوص تاريخ المشرق في العصور الوسطى ؛ ضخامة المراجع ، وكثرة الروايات واختلافها ، بل وتضاربها في بعض الأحيان . كما أن الترتيب الرتيب لتاريخٍ يختصر دوماً في سير الأنبياء ، وسير كبار رجال الدولة ؛ يجعل البحث وراء جذور العادات والممارسات الإجتماعية للشعوب صعباً للغاية . والبحث وراء جذور العادات والممارسات الإجتماعية للشعوب هو الوجه الغامض – والأصح – للتاريخ وأحداثه . فما وصلنا حتي الآن هو “تاريخ الرسل والملوك”، لا “تاريخ الأمم والشعوب” .
وكذا أن التأسيس الأصيل للتاريخ العربي والإسلامي ، تتشوش فيه التركيبة الكرونولوجية الصحيحة من حيث التركيز علي أشخاص وأحداث وحوار دون النظر في بعض الأحيان إلي الترتيب الزمني ، هذا إضافة الي تشابك الأسطورة في مواضع ، والقداسة في مواضع أخري ، مع الواقع . فما وصلنا من تراث ، خاصة فيما يخص “التاريخ” و”السّير” وما اتصل بهما مستقي من مدونات العلوم التي تُدعي “العلوم الشرعية”، يتشابه في خطوطه العريضة مع المرويات الإسرائيلية المرتكزة حول الشخصيات المذكورة في {الكتاب المقدس} ، وشروحاتهم له وأبرزها التلمود والمشنا والجمارة والهجاداه .
وهذا النمط ، من حيث الإرتكاز علي الشخصيات ، كان سائداً في العالم القديم بأسره ، لا داخل السرديات الإسرائيلية حصراً . سواءاً في مصر القديمة حيث التأريخ بالسنين التي حكم فيها الملك ، وتحديدها ابتداءاً من اليوم الثاني من الشهر الأول للسنة الأولي من حكم الملك فلان . وكما كان أيضاً في بلاد الرافدين بدءاً من التأريخ لملحمة الملك “جلجاميش” ووضع قوائم للأسرات السومرية والبابلية الحاكمة ، كما كان الأمر في الإمبراطورية الفارسية الأحدث عهداً . وهو ما جعل النزعة الغالبة علي مؤرخو الفتح الأوائل ، وفقاً لـ”برنابي روچرسون” مهتمين بالأعمال البطولية للأفراد ، لا بخطوط الإمدادات وطبيعة مسيرة المعركة ، فأعداء المسلمين هم أعداء الله وبالتالي فإنه يجري تصويرهم بصورة الجبناء والأغبياء والخونة خالين من البطولة.
مع العلم بأن التاريخ المعروف بدأ بنظام دولي قومي الطابع فرديّ النزعة ؛ ثم انحسرت تلك الاتجاهات في العصر الوسيط ، حيث سيطرت الاتجاهات الثيوقراطية الطابع شمولية النزعة . ثم عادت مع عصور البعث والتنوير لسابق عهدها . وصارعت الشمولية في القرن العشرين لتعود من جديد . رغم أن التاريخ في الأساس ، وفي عمومه ، هو تاريخ أمّم ، وليس تاريخ أُسر حاكمة أو شخصيات بارزة – مع ترك المجال للاستثناءات بالطبع .
ومع العلم أن العرب حكموا إمبراطورية مترامية الأطراف تضم مئات القوميات والأعراق والثقافات ، بل والديانات والمعتقدات ، ولا أحد يدري مدي التأثير الذي تأثرت به تلك الثقافة بعد اندماجها بثقافات أخري ، مثلما كان تأثير أدبيات غير عربية مثل “أصول الحكم”، “الآداب السلطانية”، و”كليلة ودمنة” وغيرها الكثير مما نُقل من الهندية ومن الفارسية ومن اليونانية ودُون بالعربية في عهد “المأمون” ، وان كانت تنتقل شفاهةً قبله .
وكذلك ، مع ملاحظة أنه ، وفي الغالب ، لا يجري الفصل بين دلالة المصطلحات الأصيلة – لا مفرداتها – في الثقافة العربية الأصيلة ، وبين دلالة المصطلحات الحديثة ، وفقاً لظروف العصور . فمصطلحات حديثة مثل : “التصديق” ، “الرئاسة”، “مجلس الشيوخ”، “التأمينات الاجتماعية” و”الضرائب” ، “الوزارة” ، من المحتمل أنها ستقابل مصطلحات قروسطية مثل : “البيعة” ، “الخلافة” ، “مجلس الحلّ والعقد” ، “الزكاة” و”الخراج” و”الجزية” ..إلخ ، و”الديوان”. وهو ما يعتبر إهمالاً لمنطق التاريخ ، وديناميكية النظام الإجتماعي ، وحتمية التطور والتنوع .
وأن المؤرخين في أي عصر أنواع ؛ وكل نوع حسب درجة قربه وبعده من الحاكم ، وحسب مقومات شخصية لا حصر لها . مثلما كتب المؤرخ ، “الصابي”، كتاباً عن “الدولة البويهية”؛ بأمر من “عضد الدولة” البويهي ، وداخل زنزانات السجن . ومثلما كتب “ابن إسحاق” ، {السيرة النبوية} ، بتشجيع من “أبو جعفر المنصور” الخليفة العباسي الثاني ، في العام ١١٥ هـ تقريباً ، وقد اختُلِف حول سبب التشجيع فنجد روايات توكد أنه كان هدية لابنه “المهديّ” . إلا أن بعض الروايات تشير إلي أن “أبوجعفر المنصور” طلب أن يكون هذا الكتاب أحد المرجعيات المعتمدة في الدولة . ورغم أنه لم يصلنا مخطوطة الكتاب الأصلية سوي عن طريق عدة كُتّاب عاشوا بعده ، وأهمهم علي الإطلاق “بن هشام” .
وأنه عادةً ماتري النخبة الحاكمة والمثقفة – في اي مجتمع ذي نزعة إمبراطورية – أن إمبراطوريتها هي الإمبراطورية الكونية الوحيدة والباقية حتي نهاية الزمان . فما شك “قورش” وخلفاءه لحظة في أن [السلام الفارسي] ، هو الضامن الوحيد لبقاء العالم حتي نهاية الزمان . وما تصور “يوليوس قيصر” لوهلة أن إمبراطوريته الكونية ستنهار علي يد مجموعة من الجرمان ، رعاة الشمال الأجلاف . ولم يزد “البيزنطيين” تعاسة إلا أحلامهم باسترجاع [المجد الروماني] باعتبارهم حراس التراث الهيليني وحماة المسيحية في نصف العالم الغربي . وما شهدنا أكثر تدميراً من أحلام النسخة اللاتينية عن المسيحية والتي حلمت باستعادة مدينة الرب الأوجسطينية ورؤيتها الشمولية لما ينبغي أن يكون عليه العالم .
وفي النموذج “العربيّ” نجد أن العباسيين كانوا تبلوراً لهذا الإتجاه ، ولو أن الأمويين أبدوا له الإستعداد ، وحال دونه النظام الذي أسس له الشيخان “أبوبكر ، وعمر” ، واستمر علي نهجه “البيت السفيانيّ” . إلا أن رايات “بنو العباس” السوداء – والتي حُملت قبل ذاك أمام محمد(ص) في بدر – كانت تعبيراً رمزياً عن اختمار عناصر مُعدّلة في بوتقة الإمبراطورية ، والتي نتجت عن الامتزاج بين التراث العربي المتواضع ، وتراث شعوب الشرق الأوسط وشرق المتوسط العتيق.
عناصر أخضعت تلك الكتلة الثقافية – وخاصةً المتشددين منها – لنظرة عامة مفادها أن العالم، وملحقاته، اتجاه واحد .. ونجد ابسط الأمثلة : في روايات “نجيب محفوظ”، وخاصةً اولاد حارتنا، وردة الفعل التي واجهها، حين طرح مزيجاً عجيباً من التساؤلات داخلها ، فتعرض لاعتداء وحشي علي يد أحد المتشددين كاد يودي بحياته ؛ فردة الفعل تلك تجاه “محفوظ” مرّدها أن التساؤلات – مجرد التساؤلات – أمرٌ مزعج بالنسبة للمتشددين .
وبالتالي ، لم تكن كتابات “محمد شحرور” ، وغيره ، سوي لمسة لجراح لم تندمل بعد ؛ وهل الإنسان ، مُخير أم مُسير ..؟!
هذا ، وإذا ركزنا علي جرح من مجمل الجروح التي تعج بها المساحة التي غطاها تاريخ الإمبراطورية العربية ، والذي بدأ بعد وفاة مُحَمَّد (ص) بحوالي خمسة عشر عاماً . جراح لا تزال تفوح برائحة دماء المعتزلة الذين ذُبحوا في “بغداد” ، أو معاناة الإمام “بن حَنْبَل” ، في ذات المدينة . بل لا تزال تفوح في “كربلاء” ، وغيرها .
فما كان يبحث عنه مُحَمَّد (ص) ؛ هو الدعوة أو التبشير بالدين ، كما هو مأمور به ؛ ثم ممارسة الشعائر والطقوس المطلوبة منه بحرية . غير أنه كان مدركاً أن التحدي الأصعب هو تحدٍ لمصالح نظم شبه الجزيرة الإجتماعية .
وبالنظر إلي “مكة” في تلك الفترة ، ولا يمكن النظر لها إلا في ضوء كونها “مدينة – دويلة” منخرطة في التجارة العالمية التي كانت تمارسها ، في محيط ثلاثة أو أربعة إمبراطوريات وعدة ممالك ذات ثقل . نجد أنه يجب التعامل مع التاريخ العربي – قبل دعوة مُحَمَّد ، وتاريخ الدعوة المحمدية حتي وفاته ، وتاريخ الإمبراطورية الناشئة بعد توسع دولة “المدينة المنورة” بعد وفاة الرسول – من منطلق البيئة المحيطة ؛ فالإنسان ابن بيئته في الدرجة الأولي .
ولأن “مكّة” – المدينة التجارية – لم تزدهر إلا لكونها ، وفي الأساس : “أنشأت حول معبد ديني ، ولغايته “، كما أشار “محمد عبدالحي شعبان” ؛ وبالتالي فإن الدعوة إلى توحيد الـ (360) رمزاً لآلهة شبه الجزيرة المحليين ، الداخلين في “إيلاف مكة” التجاري في معبود واحد ، موجودٌ في كل مكان ، ويسهل التواصل معه دون الحاجة إلى أي وسائط ، وعلى الدوام ؛ أقول أن الدعوة إلى ذلك لاقت معارضة صلبة لم تلين .
لكن ، ظل {القرآن الكريم} محفوظاً ، منذ تدخل “عثمان” ، لتوحيد النسخ التي كانت موجودة آنذاك إلى نسخة واحدة ، وهو ما احتسبته الجماعات المعارضة له “نقطة سوداء” وَصَمت سجله السياسي ـ وأقول السياسي . علي عكس كتب مقدسة اخري ، والتي ان تمعنت النظر في معضلتها تجد أنها – وإن صح توصيف ذلك بدقّة – تعرضت لـ”مغالطات مفاهيمية” في حين نقلها من لغة الي أخري وتدوينها ، حيث طول الفترة بين موت النبي او القديس المعني وبين فترة التدوين ، كما يُثار الاختلاف حول النصوص المترجمة من اللغات الاساسية كاللغة “الآرامية” او “السنسكريتية” أو “العبرية”، والتي تُرجمت للغات أخري كـ”اليونانية”، ثم إلى “اللاتينية” او غيرها من اللغات الكلاسيكية ، ثم تم ترجمته إلى اللغة الإيطالية والفرنسية والإنجليزية والعربية ، وغيرها .
فكل تلك الترجمات قد تترك عوالق من “المغالطة” ؛ بين أهداب النصوص التي ترجمت من الأمهات مباشرةً ، ثم ترجمت الي اليونانية ، أو ربما في نسخ تُرجمت من “اللاتينية” -لغة النخبة الأوروبية في العصور الوسطي المتأخرة – التي هي مترجمة من “اليونانية” التي هي مترجمة عن النسخة الام ثم ترجمت مرة أخرى بالقبطية ؛ وبالتالي مرورها على مراحل كثيرة من التنقية التحليلية ومقاربات الألفاظ والمصطلحات في قاموس كل لغة بالأخرى ، قد يكون في غير صالح الدقة ؛ وبلا شك هي ـ في صالح تدمير بنية النص المعنوية التي أنزلت أو كُتبت بها في اللغة الأصلية .
ولأن {القرآن الكريم} ـ الكتاب المقدس للمسلمين ـ حافظ على وحدته ـ كنسخة معروفة ، غير مترجمة ؛ وإن كانت الأسباب ضبابية ، لا يمكن تتبعها بدقة تبلغ حد التقدير ، فإن المجال كان واسعاً في كتابات المسلمين ـ الأدبية والتاريخية والفقهية على حد سواء ـ عن {سيرة مُحَمَّد}(ص) و{أحاديثه} للتطويع كمادة دسمة في الأحداث التي ستلي اغتيال أمير المؤمنين “عمر” . ولعل السبب كامن في كون التركيبة اللغوية للـ{القرآن الكريم} ـ في دائرتها الواسعة ؛ حيث رحابة النصوص التي تبدو وكأن لا حدود لتفسيراتها ، وربما يكون هذا بسبب التكثيف والتركيز في بنيته النصية ، وربما لأسباب أخري ؛ لا أدري ..!
وعلي كلٍ ؛ رغم أن أوائل من دونوا {السيرة} و{الحديث} لم يكونوا يعلموا شيئاً عما سيجري من تطورات متشابكة – أو كانوا يعلموا ، وهذه خارج نطاق القدرة علي البحث الدقيق . فلم يكن هناك مايسمى (علوم) ؛ إلا أن محاولات التقعيد العلمي الصحيح لتلك العلوم ـ وإن كان في شكل يناسب ويتناسب مع العصور الوسطى ـ لم يكتمل سوى في عهد “بنو العباس” .
ونتيجة لهذا التدوين ، فقد ظهرت روايتان متنافسان وراء كل منهما تراث ، في خصوص اللحظات الأخيرة في عمر النبي (ص) ؛ فـ “السُنة” يعتقدون أن النبي (ص) مات وهو مستريح على حجر عائشة ، أما “الشيعة” فيعتقدون أنه لفظ أنفاسه وهو إزاء كتف “عليّ بن أبي طالب” . هذا الإختلاف ما هو إلا “خلاف رمزي” لكل ما اختلف عليه المسلمون ، وهو أمر معروف في التراث العربي ، روچرسون . هذا الي جانب الاحتجاج بـ{حديث الغدير} ، من قبل الشيعة والعلويين ، للتأكيد علي وجوب خلافة “عليّ” للنبي “محمد” (ص) .
ومن منطلق الصراع الهاشمي الأموي ، والذي نجد له جذور في المرويات الخاصة بـ”هاشم بن عبدمناف” و”حرب بن أمية بن عبدشمس” قبل الدعوة المحمدية ، ومن منطلق أن الدعوة العباسية كانت “دعوة شيعية” في بدايتها – وشيعة تعني موالين او أتباع وتم حصر المصطلح فيما بعد كدلالة علي شيعة الإمام القتيل :”الحسين بن عليّ” ؛ فقد كان الخلاف بينهم – أي العباسيين – وبين “العلويين” و”الشيعة” الناشطين في العراق وإيران – آنذاك – أن “العلويين” يطالبون بالخلافة لنسل محمد (ص) من السيدة “فاطمة” و”عليّ” ، بينما يحصرها “الشيعة” في نسل الإمام “الحسين بن علي”، أما العباسيين يَرَوْن “رضا آلِ البيت” ، بفرد من سلالة “بنو هاشم بن عبد مناف” ، ولكن يؤجل اختياره لحينها ، وتركوا الأمر مفتوحاً .
وهم ، في مجموعهم ، يختلفون كليةً عن “الخوارج” فيما يتعلق بالخلافة . لكن ليكن من المعلوم أنه ، وحين اُغتيل “عليّ”، كان الهاشميين – في مجموعهم أيضاً – كتلة معارضة قوية ضد الأمويين ، هذا اذا لم نحتسب كتلة “الزبيريين” في الحجاز ، و”الخوارج” بفروعهم ، في إيران شرق شبه الجزيرة وعمان .
وبالتالي فإن “العباسيين” كانوا مترابطين مع “العلويين” و”الشيعة” في الأهداف لا في الاستراتيجية . وهو ما أشار “أحمد مختار العبادي”، إلى أن سقوط “الدولة البويهية” -الشيعية – وحلول “السلاچقة” – السُنيين – في بغداد وقع سيء في الأوساط “الفاطمية” في القاهرة . حيث يذكر “أبو المحاسن الأتابكي” ، في “النجوم الزاهرة” ، أن : ما أرسل إلى “البساسيري” ـ أحد جنرالات البلاط العباسي ـ من الخليفة الفاطمي “المستنصر” : من المال 500 ألف دينار ، ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك ، وخمسمائة فرس ، و10 ألاف قوس ، ومن السيوف ألوف ، ومن الرماح والنشاب شيء كثير .
لكن ما يهمني في تلك الأقصوصة المروية في كتب الإخباريين ؛ هو أنه بعد ثورة “البساسيري” ، وانتصاره قبل وصول السلاجقة الي “بغداد” مرة أخري من “الأناضول” ، كانت الحفلات والطبل والمغنيات في القاهرة تنشد :
يابني العباس ردوا ملك الأمر معدّ
مُلْكُكُم ملكٌ معارٌ والعّواري تسترد
وللحقيقة ، إن ما تشي به تلك الأبيات ، وبأسلوب ملحمي أحيا العظام وهي رميم ؛ هو أن النظام القبلي تمكن مرة أخري من مفاصل المجتمع الوليد بعد اغتيال “عمر” . وهذا يطرح تساؤلات في خصوص موت “عمر بن الخطاب” . وتساؤله المتواتر : هل كان القاتل عربيّ – وعربي هنا تعني من قبائل شبه الجزيرة ..؟! لأنه كان مدركاً لألسنة الصراع المكتوم المتصاعد بعد التمدد العسكري للعرب بعد فتح فارس . فتلك العملية نفذها “أبو لؤلؤة” ، عبد “المغيرة بن شعبة الثقفي” ، والمغيرة معروف بأنه متآمر قدير . ولعل في الإشارة إلي أن التخوف من أن يستّن “عمر” قرار بأن يتنازل من يتولي مسؤولية ما عن نصف ممتلكاته حين انتهاء خدمته ، وبدأها بـ”خالد بن الوليد” ؛ ما يدعم القول السالف .
ولكن مهلاً ، لم يكن العباسيين أول الداعين بالحكم بـ{كتاب الله} و{سنة رسوله} . فعلي سبيل المثال لا الحصر ، في العام 116 هـ ، ثار “الحارث بن سريج” ، في بلاد “ماوراء النهر” – إقليم الهند الصينية – يدعو إلى الحكم بـ{الكتاب والسنة} ، وإلى “حفظ العهود” مع “أهل الذمة” ، وإلى إعفاء معتنقي الإسلام الجدد – ممن أصبحوا يعدون من الناحية القانونية ، الي جانب المتعاهدين من الأجانب ، {موالي} – من الجزية ، والتي ظلت سارية على من أسلموا من الأجانب حتي عهد “عمر بن عبدالعزيز” ؛ وكانت رايته سوداء ، فانضم إليه بعض رؤساء قبائل “الأزد” و”تميم” ، وبعض النبلاء الفارسيين – الدهاقنة ، وكثير من {الموالي} سواءاً المسمين او غيرهم ، وانتهت حركته بمقتله 128 هـ .
وبالتالي ، ربما كانت الدعوات المعارضة للأمويين ارتكزت علي فكرة المساواة بين النخبة العربية الجديدة وبين الأجانب في كافة ارجاء الإمبراطورية ؛ فأيقظت “الروح القومية” بين تلك الشعوب . وفي لحظات الوهن العباسي ؛ كانت تلك النزعات القومية الإستقلالية عاملاً لازدهار مراكز حضرية صارت قبلة العلماء والتجار والشعراء مثل : “بخاري” و”سمرقند” و”الفسطاط” و”قرطبة” و”فاس”، وغيرها .
لكن ما يمكن تأكيده في هذا الخصوص ، أن الدعوة العباسية خلطت بين الدين والسياسة بشكل خطير . وهو ما أبدى الأمويين الإستعداد له ، و ولفّه العباسيين والخوارج بشكل قدير.
فوفقاً لما أشار تيوفانس ، المؤرخ البيزنطي ، في القرن التاسع ، كانت ترجمته لعبارة “أمير المؤمنين” التي تلقب بها “عمر” بكلمة تعني “الناصح” أو “المستشار الأول”، حتى أنه أطلقها على “معاوية” حين كان أكثر قوة وتسلطاً.
وبالتالي ، ووفقاً لما تقدم ، لا يمكن غير الجزم بأن الخلاف بين “مجلس الستة” الذين تركهم “عمر” كان كيفية إدارة إمبراطورية شاسعة الأراضي ونخبة ـ أي العرب المنتصرون ـ ذات نظام اجتماعي قائم علي لمصالح متناقضة ، وهو أمر معروف منذ كانت شبه الجزيرة العربية . فهل يلجأوا إلي {التقليد العربي} ..؟ أم يتم تركيز الأمور اكثر في يد سلطة حاكمة – تنحصر في قريش – وبيروقراطية منظمة مثلما هي بيزنطة وفارس ..؟
وفي حين رفض “عليّ” اتباع ماكان يتبعه “أبوبكر” و”عمر”، وافق “عثمان” ؛ وأصبح – كما يقول “عبدالحي شعبان”- المرشح المحافظ المضمون . ولكن هذا وإن كان صالحاً لنظام مكة قبل الدعوة المحمدية إلا أنه لا يصلح للإمبراطورية الجديدة .
وترتب علي تلك السلسلة من النزاعات ، موجة ثانية وثالثة من “الحروب الأهلية” ـ أو {الفتنة} بمصطلحها الأصيل ، والتي نشأت فيما بعد بين “عليّ” و”معاوية” – ومناصريهم ، ثم بين “عليّ” وبين مناصريه ، وانتهت باغتيال الأخير ، وانحسار البيت الحاكم في “بنو أمية”، معلنا نظام الحكم بالوراثة بناءاً علي حديث النبي (ص) لـ”معاوية”: “إن وُليت فاعدل ..”، وبناءاً علي ما أشار إليه “محمد شحرور” في خصوص التعريف بـ{القضاء والقدر} في بدايات “العصر الأموي”.
إلا أن جزءٌ من عامة المسلمون – من العرب أو من الأجانب “الموالي” – وبعد أن تفاعلوا مع دعوات المعارضين – العلويين والعباسيين والشيعة ؛ أصبحوا ينظرون لحكم “بني أمية” أنه ليس إلا حكم دنيوي لا يقوم علي {كتاب الله} و{سنة رسوله} ـ كما روج المعارضين ..!
وإذا ما قارنا – وليس علي سبيل التعميم وإنما علي سبيل الحصر – يين إمبراطوريات مثل “الرومان” او و”الفارسيين” وبين إمبراطورية “العرب” في العصور الوسطي ؛ سنجد نمطاً معيناً اتخذته تلك الإمبراطوريات من ديناميكية التوسع ، ثم تثبيت الدعائم ، ثم الازدهار ، ثم التطرّف في الترف ، وصولاً لدرجة من درجات الضعف والذي يترتب عليه الإستعانة بالقبائل المرتحلة – وغيرهم – في تأمين تخوم النطاق الإمبراطوري ..!
سنجد أنه منذ طُرد البيزنطيين والفارسيين من مصر وسوريا والعراق ، حتي بدأت موجات من الهجرات العربية تتوافد موجة تلو الاخري تجاه أراضي الشرق الغنية ، ومن ثم ، كان السعي لتحقيق التوافق والتناغم من قبل السلطة الحاكمة بين العرب الوافدين الجدد بين العرب الأوائل ممن توجهوا علي رأس الجيوش الغازية – خاصةً في عهدي أبوبكر وعمر – ركيزة أساسية في ضمان الإستقرار بين عناصر النخبة المسلحة الجديدة التي أصبحت الوريث الشرعي لسلطان الفارسيين والبيزنطيين في الشام ومصر والعراق .
ومن جهة اخري ، ولتبسيط بعض التيارات الأساسية داخل تلك النخبة الجدية ، والتي ستلعب دوراً هاماً في تشكيل مستقبل شعوب المنطقة الممتدة من الهند حتى أسبانيا ، في بضع تيارات ، قد سبق الإشارة إليهم : “الخوارج” . و”الشيعة” ، “شيعة الحسين” . “العلويين” أنصار نسل “عليّ” والسيدة “فاطمة”.
وأخيراً وليس آخراً ، “العباسيين” – بنو “العباس بن عبدالمطلب بن هاشم” .
ولأن الشيعة والعلويين والعباسيين ما هم إلا (دعوات) ، تحولت إلى دول عن طريق تمرد ناجح ، فلنا أن نؤكد أن لـ {الدعاية أو الدعوة ؛ Propaganda} مركزية مهمة في التاريخ الإسلامي ؛ فقد وُضعت {أحاديث نبوية} – لم تثبت صحتها – تشيد بفضل “العباس بن عبدالمطلب” ، وتتنبأ بصيرورة الخلافة إلى أبنائه من بعده حتى تقوم الساعة ؛ بل واعتقد البعض أن محمد “المهدي”، ابن “أبو جعفر المنصور”، الخليفة العباسي هو المهدي المنتظر كما أشار “أحمد مختار العبادي” .
ولهذا أيضاً ، فإني ، ومثلما فعل “برتراند راسل” ، بتقسيمه لعمر العالم الناطق باليونانية ؛ سأقسم الفترة الممتدة من القرن السادس الميلادي – ماقبل “الدعوة المحمدية” – وحتي العصر العباسي الثاني إلي ثلاث فترات : فترة عدم الخضوع وعدم النظام . فترة الخضوع وعدم النظام . فترة الخضوع والنظام .
وقد اتفق مع “أرنولد توينبي” ؛ حين قال ان : المؤرخون على وجه التعميم ، أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يعيشون ويكدحون في محيطها ، منهم إلى تصحيح تلك الآراء . فللحق ، يصعب تقصي حقائق المناطق المقدسة في التاريخ – خاصةً تلك التي تحتوي علي رقع من الخلاف – لا من حيث غزارة الانتاج ، بل لتضارب وضبابية أخبار تلك البقعة .
ففي الشرق الأوسط ؛ وفي قصة “قابيل” و”هابيل” ؛ تُعرض لأول مرة في التاريخ الإنساني قصة على خلفية تنافس إجتماعي إقتصادي ؛ حيث قتل “قابيل” (فلاح الأرض) ، “هابيل” (مربي الأغنام) . حيث التنافس بين الرعاة الرحل وبين المزارعين الفلاحين هو موضوع متكرر عير تاريخ الشرق الأوسط بأكمله ، بل وفي أجزاء كبيرة من هذه المنطقة بيقى صراع المصالح بين الإثنين صراعاً بالغ الأهمية حتى في أيامنا هذه .
لذلك نري في السردية المعروفة وجهة نظر الرعاة في ذلك الصراع ، بأن الفلاح هو من قتل الراعي غيرة منه لان الله تقبل قربانه لا قربان الفلاح . لكن امتداد التاريخ في الشرق الأوسط كان الشيء المعاكس هو الذي يحصل . وهو ما تثبته كافة نصوص وحوليات قديمة تعود لهذا العصر .
لأنه وكما أشارت “آرمسترونج” ؛ أصبح الرعاة في الشرق الأوسط مجتمعاً مستقلاً تماماً في بدايات 6000 ق.م ، واعتقدوا أنهم سيستمرون في التجارة بالجلود ومشتقات الحليب مع المدن في مقابل الحبوب المختلفة . لكنهم اكتشفوا أن الطريقة الأسهل للتعويض عن بهائمهم الضائعة هي سرقة قطعان الماشية من القرى القريبة ومن القبائل المنافسة لهم . هكذا تحولت الحرب إلى معطى أساس لاقتصاد الرعي .
ولاحقاً مع توسع المدن ، ظهر صراع أكثر تعقيداً بين الهويات والولاءات بين المدن والأرياف ، وبين أحياء المدينة الواحدة التي تضم في الغالب هويات إثنية وجماعية وطائفية متنوعة .
وفي الإمبراطوريات الأكبر حجماً ، مثل إمبراطورية الخلفاء ، والتي وبالرغم من أن الهويات المناطقية والولاءات يمكن أن تكتسب أهمية اجتماعية وثقافية ، الا انها نادراً ما كان لها أهمية سياسية .
عمر عبدالعزيز
omar.a.abdelaziz666@gmail.com