كوارث الحروب
فواد الكنجي
الجزء الأول من هذا المقال .. اضغط هنا
ومن هنا فان الإعمال التي أنجزها الفنان (غويا) في هذه المرحلة التي سميت بـ(كوارث الحروب)
تعتبر مرحلة وسطية متميزة من مسيرة حياته الفنية بما قدمه من إعمال فنية رائعة تميزت بحدة التعبير والمعبرة بصدق عن معاناة الشعب تحت ظلال الحرب،
وما قدمه في هذه المرحلة؛ هي من جعلت المهتمين بالأنشطة الفنية وأكاديمياتها؛ يسلطون الضوء على مسيرة أعماله الفنية
معتبرين أعماله علامة مميزة وبارزة في تاريخ الفن التشكيلي العالمي ليس في (اسبانيا) فحسب بل في العالم اجمع،
لتصبح أعماله مدار بحث وتحليل وتدريس في الأكاديميات العالمية بما حملت من تجديدا وتطوير وإضافات مهمة على مستوى التقنيات وعلى مستوى أساليب الصياغة الفنية والإبداعية
أو على مستوى التعبير وربط الشكل بالموضوع؛ التي كانت شديدة الالتصاق بالواقع،
فـ(غويا) خلال مسيرته الفنية قد أنجز بما يتجاوز عن (سبعمائة) عملا فنيا،
فهو قد عاصر فلسفة التنوير التي كانت سائدة في عصره وتأثر بأفكارها؛ وكان من اشد مناصريها؛
رغم أنها كانت محصورة بين الطبقات الميسورة؛
لان عامة الشعب كان واقعا تحت تأثير المعتقدات الدينية؛
وان رجال الكنيسة كانوا يتلاعبون بعقول عامة الشعب باسم الدين والمعتقدات المسيحية ويؤمنون بوجود السحر والمنجمين والمشعوذين،
ولما كانت طبيعة الحياة تجري وفق شيوع هذا النمط من أناس وبهذا نمط من المعتقدات؛
فلا محال إن يعاشر الفنان (غويا) هذا الوسط الذي يملأ عقولهم بالخرافات والدجل؛ فعاشر المسحوقين بالفقر،
والمتسولين، وقطاع الطرق، واختلط مع الكهنة الفاسقين والمضللين،
كما اختلط مع الشباب الثوريين، وكما انه عاشر الملوك والطبقات الحاكمة، بل انه شاركهم في احتفالاتهم،
وقد استفاد من خلال تركيز الرؤية إليهم لرسم هذه الوجوه في أعماله لتعبر لوحاته بواقعية عما يريد التعبير؛ فصور دماثة وجوههم وتقاطيع وجوههم وعيونهم الجاحظة والمنتفخة،
ولما كان (غويا) معروف عنه بكونه فنان البلاط الملكي، وان اختلاطه مع الأمراء والأسرة المالكة وحاشيتها الأرستقراطية؛ اخذ عنها انطباع عام في كيفية التعبير عن حركاتهم،
وهذا ما أتاح له خبرة الفنية هائلة من التفاصيل ليعبر عنها بشكل واقعي معبر في لوحاته؛ أي انه اختلط وعاشر كل فئات المجتمع واخذ انطباع عن كل هذه الشرائح،
وقد عكسها في إعماله انعكاسا مثيرا لتعبير عن واقع المجتمع لهذه المرحلة ناقدا وساخرا من العادات وتصرفات،
ولما كان الفنان (غويا) ينفر من المشعوذين والدجالين لذلك سلط الضوء عليهم في لوحاته
ورسمهم بتعبيرات مختلفة اخذوا مساحات كبيرة في أعماله الفنية التي أنجزها خلال مسيرته الفنية في هذه المرحلة والتي سميت أعماله المنجزة في هذه المرحلة بعنوان (النزوات)،
النزوات
ويذكر بان مرحلة (النزوات) هي الأعمال المنجزة قبل مرحلة (كوارث الحروب)،
والتي حملت تعبيرات جريئة تخطت كل الحدود الجراءة بقدرتها التعبيرية على كشف وفضح وإظهار عيوب المجتمع الإسباني في ذلك الوقت،
وتميزت أعمال الفنان (غويا) الفنية لهذه المرحلة بتجاوزها كل المضامين والتصورات؛
لا تحدها قوانين أو القوالب للمدارس الفنية؛ بقدر ما تحاول اكتشافات النزوات و البدع وفق تعبيرات التي تمليها دوافعه النفسية،
وهي تحمل كل هذه المعاني لإغراقها في طرح صور تعبيرية؛ وقد تم تنفيذ هذه الإعمال في عام 1794 م،
أي في فترة التي كان يعاني من فقدانه لحاسة السمع والذي كان يرهقه كثيرا،
وقد سميت أو صنفت – كما قلنا – تحت عنوان (النزوات) والتي تم تنفيذها بالفرشاة والحبر،
ويذكر بان هذه المجموعة نفذت وهو كان مرتبط بعلاقة غير مستقرة عاطفيا وغمرته بمزيد من الألم مع دوقة (ألبا) عام 1796،
حيث تخلل في هذه الفترة قيامه برسم بعض من لوحات بتعبيرات ذاتية ليعطي لنفسه مساحة لتنفس الهادئ،
فرسم صورا للنساء وسحرهن كما وكان يرسم الإبطال والشهداء والأساطير والأعياد وغيرها من مظاهر الحياة اليومية لمجتمعه كمتنفس للهروب من مرارة الواقع سواء بأسلوب الكلاسيكي أو (البورتريه)،
وقد نشرت جل هذه الإعمال الفنية – وما سبق – عام 1799م، في فترة كان فيها يتماثل للشفاء،
لتكون أعماله في هذه المرحلة وهي مرحلة الأولى والتي سبقت – وكما قلنا – مرحلة الإعمال التي صنفت بعنوان (كوارث الحروب)، ب
أنها أعمال لوحت منذ البدا بنبوغ موهبة خارقة في عالم الفن،
وفعلا فان تلك الأعمال لاقت شهرة واسعة بما قدمته من أسلوب متميز و شكلت فلسفة بسياق فني جديد،
بكونه استطاع تجاوز أساليب (الجمال الكلاسيكي) بأساليب (التعبير العنيف الصارم) الذي أمكن (غويا) بقوة التعبير دمج الخيال بالعالم الواقع عبر التعبير،
لان غاية (غويا) في فن الرسم لم تكن تتوجه أو تبحث عن (الجمال الفني) وإظهاره بقدر ما كانت جهوده تبحث عن إظهار (الحقيقة)،
الحقيقة الداخلية والعالم الخارجي،
ليقدم الإنسان في معاناته، وفي تحديه، وفي تمرده، وصمته، واحتجاجاته، ورفضه،
وهكذا جاءت أعماله في مرحلة التي صنفت بـ(النزوات)،
وبقدر ما كان (غويا) يركز في أعماله عن التعبير؛ فان تعميقه وتركيزه بتصرفات الناس الغير المتزنة وعبثيتهم وجنونهم هي التي فجرت أعماقه لتعبير؛
ليصل إلى ذروة الإبداع بعيدا عن المدارسة الفنية الأكاديمية؛ متخذا من لون الأسود مادة التعبير في إعماله وكمتنفس لفواجع التي شهدها إثناء الحرب؛ وعن حالته الصحية حيث فقدانه حاسة السمع اخذ مأخذه منه،
وكغريزة إنسانية عندما يفقد الإنسان حاسة السمع تقوى عنده حواس العقل الأخرى، الأمر الذي جعل خياله وذاكرته تنشط بشكل ملفت،
وهذا النشاط نلاحظه في طريقة ابتكار والتعبير في لوحاته (غويا) فهو يقوم بإسقاط الصور وما جمع في ذاكرته من ملاحظات وانطباعات سابقة قبل فقدانه حاسة السمع،
وهو ما كان يقود (غويا) للغوص في عالمه الخاص وينتج أشكال تعبيرية بزوايا متعددة وبوجوه واقعية و أخرى ممسوخة في لوحاته تكون على الأكثر منقولة من الخيال؛
لتكون تجسيدها عبر التعبير و رؤية الفنان في أعماله الفنية التي أطلق عليها عنوان (النزوات) وعقبتها مجموعة (كوارث الحرب) لتعبقها في مرحلة الأخيرة من حياته حين دب الأسى والحزن بأعماقه
فانزوى في كوخه ليرسم مجموعته الأخيرة التي سميت بمجموعة (الرسوم السوداء)،
منزل الرجل الأصم
وهناك عاش الفنان (غويا) عزلته وأنتج إعمال متميزة واغلب ما رسمه في هذه الفترة رسمها على جدران منزله الصغير- الذي سميي فيما بعد بـ(منزل الرجل الأصم) –
حيث جاءت بلغة تعبيرية قاسية وسيطر اللون الأسود على إعماله في هذه الفترة أيضا؛ ليبلغ (غويا) في رسومه ذروة التعبير لحجم التشاؤم الذي كان ينتابه اثر إحساسه المفرط بفقدانه حاسة السمع وعدم قدرته على الاندماج مع محيطه،
فجاءت لوحاته أشبه ما تكون بكوابيس وأحلام مفزعة؛
وكانت مواضيع إعماله لهذه الفترة جلها مواضيع خياليه سوداوية النزعة للحالة النفسية التي تركتها الحرب على بلاده؛
وما انتاب فيها من حالة الفزع والخوف والقلق وحالات الاضطرابات التي مرت بلاده (اسبانيا)،
فعبر عن هذا الواقع بمجوعة من لوحات أخذت إبعادها في الساحة الفنية ليس في (اسبانيا) فحسب بل في الوسط الفني العالمي؛
حيث دمج التعبير في موضوعات التي طرحها في هذه المجموعة من الأعمال بين الرموز الأسطورية مع مواضيع الحرب وما تركته في نفوس الشعب من أثار مدمرة،
زحل يلتهم ابنه
ومن تلك الإعمال ما أطلق عليها اسم (زحل يلتهم ابنه) حيث ربط بين الأسطورة الرومانية المتمثلة بالإله (زحل) يلتهم ابنه؛ لنبوءة تقول بان احد أبنائه سيقضي عليه،
فعبر (غويا) عن هذا الأسطوري ورسمها بشكل مثير لتعبير عن حالة الاضطرابات الأهلية التي كانت تسود (اسبانيا) آنذاك،
لتعبير بان الرمز (زحل) يمثل (اسباني) التي تأكل أبناءها كما فعل الإله (زحل)،
هكذا كان فعل التعبير مع بقية أعمال لهذه المجموعة التي سميت بـ(الرسوم السوداء)،
ومن هذه الأعمال الفنية نذكر منها (رؤية أزموديا) و (رجل أصم) و(سبت الساحرات) و(الكلب) و(ليوساديا) و(أتروبوس) و (هولوفيرنس) و(رحلة إلى سان إيسيدرو) و (قتال بالهراوات) و (عجوزان يتناولان الحساء) و (رجال يقرأون) و (جوديث) و (نساء يضحكن) و(موكب المكتب المقدس)،
وهنا يشار بان الفنان (غويا) لم يعنون أي لوحة من هذه اللوحات التي رسمها في منزلة هذا؛
وإنما قام مؤرخين الفن بتسميتها،
لتكون لوحات (غويا) تجسيدا حقيقيا ومرآة لواقع شعبه عاش فترة عصيبة تحت الاحتلال (الفرنسي)،
فعكس معاناتهم بمنظوره الواقعي واسقط مشاعرهم بإحساسه المرهف لحجم تأثيره لما خلفته الحرب من فضائع انعكس سلبياتها على حياة الموطنين،
وقد عبر عن هذا الإحباط النفسي بما كان يلتمسه من خلال وقائع يشاهدها ويلتمسها ويحللها نفسيا،
وكيف (الأسبان) كانوا يجسدون مخاوفهم وأحزانهم وصمودهم وكفاحهم وضعفهم وحماقتهم في سلوكيات إرادية واللا إرادية،
وكل ذلك جسدها (غويا) في أعماله لتكون نافذة تطل لمشاهدة واقع عاشها شعبه في (اسبانيا) بمرارة وقسوة،
وهو ما وجع الضمائر الحية وهي تعيش الحزن والمرض والجنون كما عاشها (غويا)،
لتترك بصمته الفنية آثارها الواضحة بما تركته رسوماته الفنية من حالة التعبير عن قصص ورموز وأساطير حاكت واقعهم؛
ليتخذ منها عبر ودروس لتحصين واقعهم بقيم الخير والأمن والسلام التي كان يؤمن بها الفنان (غويا)
لتبقى رؤيته صورة حية مثيرة للاهتمام وتحتذ في المدارس الفن والفن العالمي على مر العصور.
فواد الكنجي