بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته للكاتب فواد الكنجي
بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته
فواد الكنجي
ولهذا عمل (بريخت) على نقد مظاهر الحياة لطبقات البرجوازية.. والأغنياء.. والنفاق.. والفساد.. والانحطاط الذي كان سائدا بين هذه الطبقات والتي كانت تمارسها وتعيشها في المجتمع،
وقد إلف في هذا الاتجاه النقدي على النظام الاجتماعي والمجتمع الرأسمالي الذي كان قائم آنذاك مسرحيات عدة نذكر منها مسرحية (طبول في الليل) و(في أحراش المدن)،
وكما ونقد وبقسوة بالغة ما عكسته مظاهر الصناعة الحديثة وعصر الآلة على الإنسان،
كما انه نقد (النظام الديني)عبر مسرحيات هادفة نلتمس منها في نص مسرحية كتبها عن عالم الفيزياء (غاليليوا) – و( غاليليو) عالم بحث في الحركة والسرعة والسقوط واخترع ترمومتر و أتثبت إن الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب،
وشكا بعض أعدائه إلى السلطة الكنسية الكاثوليكية بأن أفكار(غاليليو) تتعارض مع أفكار الكنيسة،
فاتهم بالهرطقة واستدعيا إلى روما وهناك تمكن بمهارته الإفلات من العقاب لكنه اجبر على عدم العودة إلى كتابة هذه الأفكار،
وظل ملتزما بوعده لكنه بعد حين كتب بنفس الأفكار،
وفي هذه المرة أرغمته الكنيسة على أن يقرر علانية أن الأرض لا تتحرك على الإطلاق وأنها ثابتة،
ولم يهتم (غاليليو) لهذا التقرير العلني وحكم عليه بالسجن ولكن بعد ذلك خفف الحكم إلى الإقامة الإجبارية وتم منع كتبه وظل منفيا في منزله حتى وفاته عام 1642 وتم دفن جثمانه في (فلورانسا) المدينة التي كان يعيش فيها تحت نظام السلطة الدينية لبابا – فاستوحى (بريخت) من هذه القصة مسرحيته المعنونة تحت عنوان (حياة غاليليو) تعكس واقع الحياة وأزمته الشخصية التي كان يعيشها (بريخت)؛ فاختار شخصية العالم الفيزيائي (غاليليو) كشخصية للعمل طرحها لتشابه معاناة (غاليليو) مع معاناته الشخصية،
فـ(غاليليو) هذا العالم الفيزيائي والفلكي قد اختار إما أن يعيش بين العمل الشاق و حياة الرفاهية في خدمة حاكم (فلورنسا) – حيث كان نظام حكم فيها نظام ديني وبسلطة (البابا) الذي كان مسيطرا على مقاليد الحكم فيها – وبالتالي فقد وجد (غاليليو) بان أبحاثه في قوانين الفيزياء والفلك والتي أحدثت ثورة حقيقية في العلم ستكون حياته – لا محال – معرضة لخطر بسبب تعارضها مع تعاليم الدينية التي كانت الكنيسة تبناها؛ كما حدث لمن سبقوه من العلماء؛ ولهذا كتب (غاليليو) مؤلفا علميا دون إن يفصح عن مضمونه لأحد لكي لا يكشف أمره،
تضمن على أبحاثه الهامة في نظريات العلم وهي في غاية الأهمية؛ وقد استطاع أحد تلاميذه تهريب الكتاب ونشره؛ وفي مسرحية (حياة غاليليو) هذه إحداث شيقة يصعب الدخول في تفاصيلها في هذه الأسطر القليلة .
أما مسرحية (الأم شجاعة) هي مسرحية مقتبسة من رواية الكاتب الألماني (غريميتسها وزن) تدور أحداث القصة في القرن (السابع عشر)،
ألفها (بريخت) في عام 1939 وتعتبر هذه المسرحية من أعظم مسرحيات (بريخت) مناهضة للحرب وضد الفاشية والنازية التي كتبها على الإطلاق في القرن (العشرين) أثناء اجتياح (هتلر) دولة (بولندا) عام 1939،
فالمسرحية تروى قصة (أم ) تسعى لتأمين الحياة لنفسها ولأولادها الثلاثة مطلع القرن (السابع عشر)،
وفي ظروف الحرب التي دامت ثلاثين عاما هزت أوروبا الشرقية و(ألمانيا) بشكل مؤثر؛ فتفقد هذه (الأم) أولادها الثلاثة في الحرب وينتهي مطافها وهي وحيدة فقدت أعز ما كانت تملكه أولادها الثلاث،
درجة الذي لم تفقد أولادها فحسب بل أصبحت رويدا – رويدا تفقد رشدها أيضا،
وفي المسرحية إحداث وانتقادات وتحليلات قدمها (بريخت) بمنتهى الذكاء والحبكة لتثير المتلقي كل الإثارة عما تخلفه الحرب من تزيف وتحطيم لذات وللقيم المجتمع والمشاعر الإنسانية؛ وقد أخذت هذه المسرحية منذ عرضها على المسارح اهتمام النقاد؛ وكتب عنها دراسات وتحليلات مهمة؛ وما زال إلى يومنا هذا تمثل هذه المسرحية في شتى دول العالم لما لها من معاني مناهضة للحرب( أي ضد الحرب) وما تخلفه من أثار مدمرة في قيم الإنسانية .
كما أن (بريخت) قدم انتقاداته للمجتمع الرأسمالي بمسرحيته (صعود وسقوط مدينة ماهوجني 1929)،
حيث قدم (بول إيكرمان) البطل إلى عقوبة الإعدام لأنه لم يتمكن تسديد ديونه،
وفي هذه المسرحية عمل (بريخت) بتقديم الحدث لا من اجل أن يتعاطف الجمهور مع معاناة البطل بل – وهو أسلوب الذي يتميز (بريخت ) بتقديم مسرحياته بشكل مستحدث في عالم المسرح – حيث كتب بخط عريض على لوحة علقها على خشبة المسرح لكي يواجه الجمهور نفسه بهذه الحقيقية،
كتب عليها ((الكثيرين منكم ربما يشهدون إعدام (بول إيكرامان) باشمئزاز،
ولكنكم أيضا في رأينا غير مستعدون لأن تدفعوا له ديونه،
حيث أن المال أصبح شيئا غاليا جدا في عصرنا هذا…!))،
وهذه الطريقة التي لجئ إليها (بريخت) إنما تأتي لأحداث صدمة لتوعية الجمهور بكونه يواجههم بحقيقة الأمر ليدفعهم للتفكير بكل مجريات الحدث وليس فقط للإثارة المشاعر .
كما وعرض مسرحية (أوبرا الثلاث قروش – 1928) لينتقد ما تفرزه (الرأسمالية) من أمراض في المجتمع حيث قدم مدينة كبيرة للدعارة وفيها كل شيء مباح ومعروض للبيع، بسبب قلة المال،
فـ(ألمانيا) في أعقاب الحرب العالمية الأولى تغلغل فيها كل أمراض المجتمع البرجوازي،
فعرض رجل صاحب المال بمظهر برجوازي وهو جالس في الملاهي الليلية الرديئة يتصرف بكل فج و وقاحة يشتري ذمم الناس بماله ويستغل أوضاع الفقراء بماله؛ وهذه الصورة هي نموذج وجد منها الكثير في المجتمع،
بل إن هذه الصورة ما هي إلا إفراز من إمراض المجتمع (الرأسمالي) التي هي مصدر كل شر.. ورذيلة.. وبلاء.. ومن النصب.. والاحتيال.. والخداع.. والعنف،
كما إن المسرحية سلطت الضوء وبشكل عفوي ضمن محاورها في كيفية بداية الطعام ومن ثم عن قيمة الأخلاق في مسرحية،
وهذا النمط من مسرحيات (بريخت) أخذت أشكالا أعمق من خلال تقديم مسرحيات اللاحقة .
كما إن (بريخت) كانت غايته من كتابة مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية) هو تسليط الضوء عن أحقية الملكية لمن يحرص على رعايتها واحتضانها بأفضل أسلوب وان يستثمرها لخدمة المجتمع فـ(بريخت) في هذه المسرحية يطرح موضوعين رئيسين فيها،
قصة (الأم الحقيقية) وقصة (الأرض لمن يزرعا)،
ففي الأولى يجد (بريخت) وهو قد اقتبس فكرة هذه المسرحية من قصة (صينية)،
مفادها بان احد القضاة كان يحكم بين السيدتين ادعتا بكونها كل واحدة منهما هي (الأم الحقيقية لطفل)، فرسم القاضي دائرة بخط الطباشير ثم وضع الطفل فيها،
وطلب من السيدتين أن تسحب الطفل إليها، فمن استطاعت أن تخرجه من دائرة الطباشير تكون الأم الحقيقية له،
لكن(بريخت) وظف هذه الحكاية (الصينية) بشكل مغاير، لأنه لم يحكم لـ(لأم الحقيقية) بل حكم القاضي لـ(لام الخادمة أو المربية)،
التي تبنت الطفل وعنيت بتربيته، لأنها هي التي اهتمت بالطفل ورعته بينما (ألام الحقيقية) هربت وتركت طفلها حين اندلعت الثورة في البلاد،
رغم إن (الأم الحقيقية) نجحت بجذب ابنها من خارج الدائرة الطباشير بينما (المربية) الأكثر رأفة وحنانا لم تستطع فعل ذلك خشية من أن يؤذى الصغير،
وهنا رأى القاضي أن (الأم المربية) كانت أكثر حنانا من (الأم الحقيقة)، على عكس (الأم الحقيقية) التي تعاملت مع الأمر بقسوة وعنف،
فحكم لـ(لأم المربية) برعاية الطفلة، وهنا نوضح، بان هناك حكاية مشابه في منطقتنا الشرقية يحكى عنها إن الحكيم (الملك سليمان) الذي حكم بين امرأتين متنازعتين على طفل ادعتا كل واحدة منهما بكون الطفل ابنها،
لذلك يقترح (الملك سليمان) بتقسيم الطفل إلي جزئيين أثر أدعاء كل من ألامرأتين المتنازعتين بأنه أبنها،
فوافقت (الأم المزيفة) بينما رفضت (الأم الحقيقية) أن يشطر الطفل لان ذلك معناه قتله ولهذا فضلت أن تتخلى وتتنازل عنه من إن يقتل أمامها،
وتبين لـ(الملك سيلمان) أنها (ألام الحقيقية) وحكم لها بحاضنته،
وهنا إن نذكر هذه القصة هو لكي لا يتلبس أمر قصة (الملك سلمان) عن قصة التي ذكرها (بريخت) والمأخوذة من (القصة الصينية) عند القارئ؛ بكونه ربما قد سمع هذه الرواية في تراثنا الشرقي،
وفي نص هذه المسرحية هناك مواقف وأطروحات فكرية و دروس وعبر في القيم والأخلاق في غاية الأهمية . إما في (القسم الثاني) من المسرحية ( دائرة الطباشير القوقازية)،
فان (بريخت) يقدم حكاية صراع بين جماعتين من الفلاحين متنازعتين حول ملكية الأرض،
كانت أحدى المجموعتين قد رحلت وتركت الأرض عندما هاجم (الجيش ألماني) على (روسيا)،
وبعد هزيمة (ألمانيا) عادت هذه الجماعة التي تركت الأرض وفرت تطالب بالأرض،
بينما جاءت جماعة أخري تنازعها وتطالب بملكية الأرض بكونهم استثمروا الأرض وزرعوها بالأشجار والمثمرة،
ليصدر الحكم بملكية الأرض لمن زرعها واستثمر فيها فيحسم النزاع في حل ألازمة باتجاه إلى من يرعي الشيء هو الأحق بملكيته،
ليكون (بريخت) استثمر في طرح (الإيديولوجية الماركسية) من خلال الصراع الاجتماعي.. والعامل الاقتصادي.. ونظام الملكية التي تبناها في هذا الطرح؛ وهي أحد تحليلات (بريخت) وقراءته لطبيعة المجتمعات وما أخذه من ملاحظات وانطباعات حول طبيعة هذه المجتمعات في ظل النظم (الرأسمالية) والنظم (الاشتراكية) اثر مكوثه في (أمريكا) لمدة سبع سنوات فأراد إن يسلط الضوء عن حقيقة النظام (الرأسمالي) وظروف القائمة تحت ظلاله اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بهذا العمل الذي كتبه هناك