بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته الجزء الرابع من هذا المقال الطويل للكاتب الأستاذ فؤاد الكنجي
بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته
فواد الكنجي
هكذا كان الكاتب والشاعر الألماني (برتولد بريخت) يعبر عن إيمانه بـ(الماركسية – اللينينية) من خلال أشعاره وكتاباته المسرحية؛
لان ما حرك مشاعر ووجدان وإيمان (بريخت) إلى النظام (الماركسي اللينيني) ويتخذ من (المادية التاريخية) منطلقا لكتابة مسرحياته عبر التحليل العلمي باتجاه الأوضاع الاجتماعية والسياسية،
لان (بريخت) الذي جند قلمه بعالم المسرح بعد إن هام بهذا العالم، عالم المسرح؛ فقد وجد بان المسرح آنذاك أي في مطلع قرن (العشرين) والربع الأول منه، كان يخدم ويطرح كل ما يخدم (الطبقات البرجوازية)
لان أغلبية كتاب المسرح في هذه الحقبة كانوا من النخب (البرجوازية) التي كانت تسيطر على عالم المسرح فلم تكن لمسرحياتهم أي هدف اجتماعي أو سياسي بقدر ما كان التقديم يعرض لمجرد التسلية؛
فكانوا يمنعون أي عرض هادف يحاكي هموم الطبقات العمالية، ولهذا دب الوهن والضعف في الإعمال المسرحية لحجم التسطيح الشكلي للمسرحيات وخلوها من أي مضمون هادف،
واعتبر(بريخت) بان كل ما يقدم على خشبة المسرح ما هو إلا تنويم مغناطيسي يخدر عقل المشاهد بكونه يحاصر عقله داخل أحداث العمل المقدم من دون أن تبلور لديه أي فكرة لتحليل الإحداث و مناقشة واقع الحياة بهدف تغيره وإيجاد حلول واقعية نحو الأفضل،
ولهذا وعى (بريخت) ما آلت إليه المسرح؛ ولما فكر بتغير هذا النمط من المسرح الغير الجاد والعبثي؛ أدرك بان منطلق (التغيير) يبدأ بإسقاط السلطة (البرجوازية)،
وهذا لا يتم ما لم يكن هناك وعي اجتماعي وسياسي ويتجه اتجاها ثوريا لتغيير؛ بعد إن وجد صعوبة في تقديم إعماله المسرحية في بداية عمله كمسرحي بسبب منع الطبقات (البرجوازية) لأعماله التي اتسمت بطابع تعليمي وذات ملامح سياسية، رغم إن (بريخت) عام 1922 حصل على جائزة (كلايست) عن أول أعماله المسرحية،
كما وانه لفترة عمل مخرجا مسرحيا وقد أخرج العديد من مسرحياته في (برلين) ولكن بصعوبة نتيجة اعتراض من قبل الطبقات (البرجوازية) على أعماله المسرحية، التي كان تهيمن على هذا القطاع،
ورغم كل المعوقات التي كانت تعترض طريقه إلى المسرح إلا انه تميز (بريخت) بكونه من ابرز كتاب المسرح في (ألمانيا) لكونه كان يسلط الضوء على شخصيات ألتي يقدمها على الجانب (النفسي) لأنه كان متأثرا بأفكار (فرويد 1856 – 1939) في التحليل النفسي والذي كان معاصر له،
لذلك عمل (بريخت) إلى تحليل القضايا بأسلوب (التحليل النفسي) باعتقاده بان ذلك يؤثرا في نفوس المشاهدين تأثيرا ايجابيا في مسرحياته، وبقى (بريخت) أمينا للمسرح يقدم أعمالا هادفة بما يطرح من مواقف إنسانية واجتماعية وسياسية بالفهم (الماركسية – الينينية) ومتحديا للأفكار (البرجوازية) و(الرأسمالية)،
لأنه كان مؤمنا بضرورة تسييس الفن والمسرح؛ لان اعتقاده كان يتجه بان لا تغير ما لم يعي الإنسان واقعه السياسي ويتفاعل معه من اجل إبداع صورة حقيقة لنهضة المجتمع، ولهذا عمل على كتابه (المسرح التعليمي) بغية تنبيه المتلقي وإيقاظه وإثارته ودفعه إلى (التغيير) تغيير الواقع،
ومن اجل إيقاظ وتركيز المتلقي عمل (بريخت) على استحداث المؤثرات البصرية والسمعية على المسرح لتمنح (أولا) جمالية للعمل و(ثانيا) تجذب المشهد و(ثالثا) لترسل رسالتها بصيغة مقنعة عبر إحداث التواصل بين النص والمتلقي، ولهذا ابتكر(بريخت) أسلوب (المسرح الملحمي) الذي هو عبارة عن سرد القصة كمقدمة لبداية المسرحية،
إذ يتم خروج ممثل إلى خشبة المسرح فيجلس ليروي ويسرد أهم أحداث المسرحية على الجمهور حتى تثير لدى الجمهور المشاهد فرصة التأمل والتفكير في الواقع إثناء بدا العرض ليتخذ موقفا ورأي من القضية المتناولة في عمل المسرحية، كما فعلها (بريخت) في مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية)، ولهذا فان (بريخت) اعتبر بان المشاهد هو عنصرا أساسيا في كتابة المسرحية وعرضها واعتبر بان خشبة المسرح ما هو إلا غرفة من ثلاثة جدران والجدار الرابع هو جدار وهمي الذي يقابل الجمهور
ولهذا فان إي عمل يقدم لا بد إن يكون ذو أحداث غريبة ومثيرة وباعثة على تفكير والتأمل عبر تقديم حكم وأمثال ومواعظ و تسلية؛ وهي تتجه أو تأخذ منحى سياسي من اجل التحريض السياسي للمتلقي وبأسلوب (السخرية الكوميدية) للمواضيع الحساسة فاستخدم (أغنيات) بين المشاهد كنوع من التحريض والتسلية للعمل كي يبقى الجمهور مشدودا إلى المسرحية،
ولهذا عمل (بريخت) في كتابة العمل المسرح بتجاوز البناء التقليدي في كتابة المسرحية والمتمثل بـ(البداية تتم بمدخل بسيط) ثم (ترتفع الأحداث لتصل إلى جوهر العقدة) ثم (الحل)،
حيث (لم يعتمد) على هذا النمط من البناء، إذ التجئ (بريخت) إلى كتابة أكثر من مسرحية في مسرحية واحده،
إي إنه عمل على بناء مسرحية واحدة ولكن تشمل في داخلها مسرحيات أخرى؛ وكل من هذه المسرحيات تشمل على فصل واحد يختلف كل واحد منها عن الفصل السابق من حيث وقوع أحداثها وبما تشكل من مشاهد متفرقة في أزمنة مختلفة ولا يربط بينهما إلا هدف واحد هو (التوعية)،
كم قدم هذا النمط من العمل المسرحي في مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية) و مسرحية (الخوف والبؤس في الرايخ الثالث)،
كما استخدام (الموسيقى) و(الأغنيات) بين المشاهد لتواكب هذه القطع الموسيقية مجمل أحداث المسرحية مع عرض مناظر وأفلام سينمائية كمؤثرات تواكب احدث المسرحية على نحو ما قدمه في مسرحية (طبول في الليل) و(أوبرا القروش الثلاثة) و(حياة ادوارد الثاني)،
وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية والتركيز على الواقع الاجتماعي التي في إطارها تتحرك أحداث المسرحية؛
وذلك من اجل تعميق وتحريك وعي المشاهد بالواقع وبالتناقضات المجتمع،
ولهذا عمل (بريخت) باستخدام أسلوب (الغرابة) أي انه يكتب عن (أمور مألوفة ولكن بصورة غريبة)،
وذلك لكي لا يترك مرور المشهد المسرحي على المتلقي بصورة مملة؛ وهو يعي سلفا ما سيؤول إليه المشهد، ولكن عندما يقدم مشهد ما بشكل جديد (غير مألوف) إنما كان (بريخت) يقصد من ذلك فرصة للمتلقي إن يحاور ذاته بصدد هذا المشهد (الغريب)،
رغم كونه ليس بالجديد ولكن صيغ بشكل جديد بما يربك المشاهد عن وضع الذي يتلقاه عبر هذا المشهد؛ إما بتقبله والإقناع بما يحدث أو رفضه،
لتكون صبغة صياغة المسرحية عند (بريخت) يعتمد في بعض مسرحياته على (التاريخ) كأحد أركان التغيير الذي أراد من خلاله تحويل (المسرح الملحمي) إلى (المسرح الدايلكتيكي) عبر البحث في معطيات (التاريخ) تاريخ الماضي للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل،
ليكون (التغيير) احد أهداف هذه الإلية؛ لتفادي سلبيات التي يواجهها المجتمع، ولهذا نجد بان (بريخت) اخذ يقتبس من قصص وأحداث (التاريخ) وإعادتها بشكل (حديث) كما فعل في مسرحيته (الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة) التي اقتبس فكرتها من مسرحية (كيل بكيل) لـ(شكسبير)،
وكما كتب مسرحية (أوبرا الثلاث قروش) التي اقتبس فكرتها من (أوبرا المتسولون) للكاتب البريطاني ( جون كاى )، وكما كتب مسرحيته المعنونة (يوحنا المقدسة على المذابح) وهي مسرحية اقتبس فكرتها من مسرحية (عذراء اورليانز) للكتاب الكبير(شلر)،
وكما كتب مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وهي مسرحية مقتبسة من رواية (الأم) لروائي الروسي (مكسيم غوركي)، ومن خلال هذا الابتكار في كتابة المسرحية؛ إنما أراد (بريخت) أحياء التراث بالمفهوم المعاصر ويعاد صياغته بمنظور فكري وفلسفي وسياسي يواكب المعاصرة لكي يتحول النص إلى موضوع عام يمس المجتمع فيتقبله المتلقي كونه يعالج ويخاطب قضايا ومشاعر الإنسانية،
ولهذا فان ميزة أعمال (بريخت) المسرحية هي تعميق الوعي الإنساني بكل ما يحيط وجوده من تناقضات الواقع بهدف تغييرها، ولهذا لم يكتفي (بريخت) بمعطيات التي ابتكارها في (المسرح الملحمي) والتي كانت تعارض خط المسرح (البرجوازي) الذي كان سائدا في عصره بنمط المسرح (ارسطوي) التقليدي؛
فعمل على تطويره متأثرا بأفكار (ماركس) و(هيغل) إلى (المسرح الدايلكتيكي) لكي يواكب مسرحه طبيعة التناقضات الحاصلة في المجتمع على خشبة المسرح؛
لكي يكون المتلقي لديه فرصة المشاركة في عملية التغيير بعد إن وجد (بريخت) بان (المسرح الملحمي) ليس بوسعه (التعبير) عن طبيعة التي يرغب (بريخت) التوجه إليها عبر (التغيير) لذلك عمل على إيجاد مسرح بديل عنه؛
فابتكر (المسرح الدايلكتيكي) جمع فيه بين عناصر (المسرح الملحمي) و(المسرح الارسطوي) محاول منه التقريب بين منطلقات المسرحين باتجاه واحد وهو (المسرح الدايلكتيكي)،
لان (أرسطو) كما اعتقد (بريخت) كان شديد تأثير بالمسرح (الإغريقي) في وقت الذي نجد بان أشهر كتاب المسرح (الإغريقي) من (سوفوكليس) و(ايسخولوس) و(يوريبيديس) هم كتاب سبقوا (أرسطو) وكانوا في كتابة نصوصهم المسرحية يهتمون بإبراز عناصر (الغرابة ) وشي من بعض مقومات التي عمل (بريخت) على ابتكارها وإظهارها وتركيز عليها في مسرحياته وتحيدا في نمط الذي نسميه بـ(المسرح الملحمي البريختي)،
وان (أرسطو) تأثر بالمسرح (الإغريقي) تأثيرا كبيرا؛ ولهذا فانه صاغ وكتب قواعد كتابة (الفن الدراما والشعر) من (مسرحيات إغريقية) وتحديدا مسرحية (اوديب ملكا)، وكمل عمل (أرسطو) في تطوير فن (الدراما) بتأثير من الفن (الإغريقي)،
فان (بريخت) عمل إلى تطوير المسرح بتأثير أفكار (ماركس) و (هيغل) إلى المسرح (الدايلكتيكي) – كما قلنا – لكي يفهم الجمهور طبيعة حركة (الدايلكتيك) في تتابع الأحداث لكي يعي المفارقات التي تحدثت و تجددت وتطورت في المسرحية، وعن إمكانية معرفة طبيعة التناقضات وعن إمكانية (التغيير) ما هو عليه إلى ما يمكن أن يكون عليه،
حيث قدم شخصياته بملامح أرسطية ولكن بطبيعة (دايلكتيكية)، أي إن هذه الشخصيات تنمو وتتطور بفعل الإحداث،
وهذا هو فهم (المسرح الدايلكتيك) الذي قدمه (بريخت) على خشبة المسرح وأبدع فيه لتشكل إعماله المسرحية مدار اهتمام الباحثين ولدارسي المسرح بعد إن احتل (بريخت) مرتبة من المراتب المتقدمة في عالم المسرح بعد (سكسبير) و (جوته) و (شيلر) و(مولير) و (جورج برنادشو) .
لان ما قدمه (بريخت) من إعمال فاضت بالأفكار والمشاعر الإنسانية وتكلمت بصدق عن واقعها لتكون ليست مجرد إعمال أدبية مسرحية أتقنت حرفيتها بقدر ما كانت تعبر عن أحداث التي أحاطت بالآم الشعوب ففاضت بروح ومشاعر الإنسانية النبيلة بما جعلتها أعمال لا تمر على متلقيها دون إن تترك فيه تأثيرا؛
لان ما قدمه (بريخت) من مسرحيات جسد بصدق هموم الإنسان وقضياهم ليجعل من مسرحه في خدمتهم لأنه كان يرصد ويشعر بهموم المجتمع وما يتعرض من معاناة في حياته أليوميه،
ولهذا فان (بريخت) جسد هذه المعاناة في لغة المسرح ليتوهج ما يقدمه على خشبة المسرح بحضور حيوي تناغم المتلقي مع رؤيته الفنية التي واكبت كل مستحدثات واقعه ومتطلباته .
فواد الكنجي
fouadganje@yahoo.com
لا يوجد