بين النقل والابداع مقال للكاتب فارس كمال محمد في موضوع المعرفة و الثقافة و الفلسفة وأهمية التقييم الذاتي لمستوى الثقافة من أجل قبول الرأي الآخر ، المقال الأول بعنوان كلنا مبدع
بين النقل والابداع
فارس كمال محمد
كلنا مبدع
من منا من لا يرى انه انسان مبدع و فنان متميز وفيلسوف له في كل امر وجهة نظر …. ؟
أرى ان الإجابة بالنفي مجانبة للصواب ..
وان رد احد بان سقراط قد اعلن ذلك منذ اكثر من الف سنة وبيّن للناس انه جاهل وكل الذي يعرفه هو انه لا يعرف شيئا ، فذاك ادعاء لم يكن مؤمنا به في حقيقة الامر،
بل هو أسلوب ابتدعه للتواصل مع مواطنيه وتعليمهم ،
وليظهر لهم التناقض في تفكيرهم واقوالهم ، ودفعهم الى تبني اراء أخرى لم يكونوا مؤمنين بها ،
اما عن نفسه فقد كان على علم بانه يعلم .
وكذا الذي يبديه أعلام الفكر الاخرون من جهل وحيرة أمام ألغاز الوجود وآفاقه الرحبة ، فهو ضرب من الخُلق السامي وتواضع يليق بهم ان يبدوه ،
وهو حال كل من أثقل العلم رأسه حتى مال وانحنى كما تنحي السنبلة عندما تمتلئ ،
وهم في حقيقة الامر على معرفة بالمستوى الذي بلغوه والعلم الذي استوعبوه وعرفوا ان التقدم في المعارف والارتقاء بالعلوم يزيد الفهم ويوسع المدارك ،
لكنه في ذات الوقت يكشف عن ابعاد لم تكن ظاهرة على شاشات الاحساس والشعور ،
ويفتح أبواب التساؤل عن ظواهر كانت مختبئة خلف الاستار ، واحاجٍ لم تخطر لهم على بال ،
وان بين العقل والحقيقة المطلقة هوّة كبيرة ،
لها من العمق والاتساع ما يدفعهم الى الاعتقاد بحقيقة ان كلما زادت معارف الانسان وكبر عقله وتوقد ذكاؤه ،
ازداد صغرا وضآلة امام حقائق الكون واسراره .
وما قيل عن العلماء نقوله عن الاخرين .. عن عامة الناس ، مثقفيهم وجهّالهم ..
الكل يرى انه صاحب فكر متميز وعقل واسع ورؤية نافذة ..
رئيس دولة
اننا نرى اليوم سماء الانترنيت ملأى بمواقع شخصية ومؤسسات متخصصة لاشك انها على مستوىً عالٍ من الفهم والعلم والخبرة والاختصاص
لكن الاكثر هم اقرب الى الجهل وسوء الفهم وقلة التجربة وعدم الجديّة او الاكتراث ،
ولا زلت اذكر زميلي الذي اعلن لنا – في لقاء تداورت بيننا فيه مشاكلنا الحياتية وتعقيداتها المزعجة – انه لو اُختير رئيس دولة لقاد البلد نحو دروب التقدم والسعادة والرفاه ،
ونحن اعلم الناس بما يعانيه من تدن في كل مستويات المعرفة والفكر السياسي الذي ليس له فيه نصيب ..
من المؤكد انه قد تابع احداث بلدان العالم السياسية ومعاناة الشعوب اليومية عبر وسائط الاعلام المرئية والمقروءة
وتبادل فيما بينه وبين الاخرين اطراف احاديث السياسة وقيادة الناس وإدارة مرافق الدولة
كحال كل المجالس واللقاءات بين افراد العائلة والمقربين والمارين العابرين المستطرقين في الاماكن العامة والمقاهي والحافلات
فكان لكل واحد منهم وجهة نظر..
اما هوفقد اعجبه رأيه ورأى انه فلتة من فلتات عقله وابداع ليس بمقدور الاخرين الاتيان بمثله ،
وربما رفرفت ثيابه خيلاء وانبسطت اساريره اعجاباً وارتفع صدره ثقة
وغمرته مشاعر الاعتداد بالنفس دون ان يدري انه جاهل وليس لديه رصيد يصرفه في عوالم الادارة ولا أدوات مناسبة ولا نفوذ واسع يستند اليه ..
لعل الخطأ ( كل الخطأ ) اننا حينما نفكر نستخدم مفاهيم عامة كوّنّاها في نفوسنا وملأنا بها رؤوسنا بما فيها من سطحية وضبابية وغواش ،
منها نستنتج ونقطع ونبتكر ونؤلف ونكتب ونربي ونوجه ويملؤنا يقين بان ما كان ماثلاً في عقولنا هو علوم الفيزياء والكيمياء والاجتماع والفلسفة والتاريخ والقرآن والحديث و .. و ..
فكلها مخزونة في تلافيف ادمغتنا وطوع امرنا نتصرف بها انّى نشاء ..
لقد ذهب ارباب الفكر الاصلاء وتواروا وصاروا كالسراب ،
وبرز الجهّال السذّج قليلو الفطنة والنباهة والعلم فتكلموا كما تكلم اولو الفكر الاصيل والفهم العميق والذكاء المبدع الخلّاق
وبتنا نستمع اليهم ونعجب بهم فلا نفرق بين الغِرِّ هذا وذاك الذكي الفاهم الفطن .
السياسة مهنة الكل
لقد ادرك سقراط – ان لم يكن خطأ – الحقيقة هذه وعرف احاسيس الناس ومشاعرهم
وبيّن أن ما من مهنة إلا ولها سر تنفرد به
وعلى من أراد ممارستها التدرب عليها والتعلم فيها الوقوف علي السر هذا قبل اي شيْ ،
الا السياسة فهي المجال الذي يرى كل الناس ، على اختلافهم ، انهم مؤهلون لخوض غماره ،
وانهم اصحاب نظر ورأي سديد يؤهلهم لاِحراز النجاحات فيه ..
ولا زال الامر باقٍ على صحته ، فان كان صحيحا أيام سقراط فهو صحيح في أيامنا هذه أيضا
حتى وان استجدت في الفكر السياسي علوم لاحقة وخبرات متنوعة وقوانين ومعاهدات وتاريخ سياسي للأمم والحروب ..
فهي تدور بشكلها العام حول محور حياة الشعوب وإدارة شؤون البلدان ومعرفة الصالح والاصلح لهم .
وليس الذي قيل صحيح في مجال السياسة وقيادة الدول وحسب .. بل هو ظاهر وبين في أمور الفكر عامة ..
والجاهل ( ان لم نقل والمثقفين في شكل عام ) يعيش دوماً إحساساً غامراَ يفرح قلبه وسروراً بما لديه من نظر ثاقب ومعرفة واسعة ورؤية واضحة ..
خطر الإعجاب بالنفس
وقد مرت بي أيام كنت اطالع فيها المواضيع المحببة الي وقد كتبت بأقلام كتاب مبدعين ، امتازوا بسعة العلم والقدرة على اثارة الدهشة والتساؤل والامعان في التفكير لدى الاخرين ،
شعرت معها بالذي ناب الجهّال وظننت ان لي مدى نظر بعيد ، واني أرى اكثر مما يراه الغير، وادرك الأمور على مستوى عال من درجات الفهم والتبصر..
ولولا الشخص المزهوّ الذي عرض لي حينذاك ، ذاك الذي طلب مني سؤاله عن أي شيء ابغي معرفته ليقدم لي ما يشبع رغبة الفهم وينير ظلمة العقل ،
فكان اول سؤالي عن ( كارل ماركس ) وفلسفته ..
وصعق الذي ادعى العلم فدارى جهله بعبارة كانت حاضرة على السنة من انضووا تحت خيمة الفكر الجمعي الذي تبناه المجتمع ..
ورأيت نفسي واقفاً في مكان جاهلنا هذا ، وماذا لو سألني من لديه أسئلة عما ليس لي به علم او معرفة ..
وادركت حقيقة ان ما تجمع لدي من معارف (( وهي قليلة جدا في حقيقة الامر )) لم تكن الا جوانب ضيقة من الفكر الذي قدمه اعلام الفكر الذين قرات لهم ..
فيا لحرج من ادعى العلم وهو جاهل بل يا لعاره ،
ويا لخيبة من زج بنفسه في مشهد يكشف نشازه ويظهر عواره ويُضحك الاخرين عليه .
ولو ادرك من ظن أن ليس في الدنيا شيء لا يعرف حقيقته ، انه صاحب نظر قصير وادراك محدود ،
وان الخطأ انما يكمن في اعتقاده بان حدود العالم تنتهي بحدود عقله ..
ولو كان حاله كحال الفيلسوف اليوناني القديم الذي تمنى بلوغ الحدود التي تنتهي اليها السماء ، ليمد عصاه خارجا فيعرف الذي يوجد هناك …
لأدرك ان بعد الحدود آماد بعيدة وحقائق كثيرة لم تعرف واسراراً لم تتكشف بعد .
Be the first to comment on "بين النقل والابداع 1/3 كلنا مبدع"