من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (١) المقال الأول من ثلاثة مقالات للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله
من يجدِّد لهذه الأمة أمر دينها
للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك ديناً عامَّاً سائرَ البشرِ، وباقياً على امتداد الدهر إرادةً دلت عليها نصوص القرآن،
وأيدها متواترُ أفعالِ الرسول ” مما لا يترك مجالاً للشك في نفس المتأمل؛ فلا جرم قدَّر الله للإسلام التأييد والتجديد اللَّذَينِ لا يكون الدوام في الموجودات إلا بهما؛
فكما جُعِل في كل حيٍّ وسائل الدفاع عن كيانه، وهو ضرب من التأييد، وجعل له وسائل لإخلاف ما يضمحل من قوته بالتغذية ونحوها، وهو التجديد_ كذلك جعل للإسلام حين أراد حياته؛
فالتأييد بعلمائه يذودون عنه ما يطرقه من التعاليم الغريبة عن مقاصده؛
حتى تبقى مقاصده سالمة واضحة، ومحجته بيضاء للسالكين لائحة، والتجديد بما نفحه من قائمين بدعوته، ناهضين بحجته، صياقل يجلون صفائحه البواتر، وزعماء بِسُرَى الأساحر، وتأويب البواكر.
إن هذه الشريعة إرشادٌ صِرْفٌ، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلقاً بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفاً وانحرافاً إذا امتد الميدان.
من أجل ذلك ضمن الله لهذا الدين حفظه فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] وإن لحفظه ثلاثة مقامات:
أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال:
وهو مقام العمل بآية [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً].
وثانيها: مقام تجديد ما رثَّ من أصول الدعوة:
وهو مقام العمل بآية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ].
وثالثها: مقام الذب عنه وحمايته:
وهو مقام [إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ].
وكلا المقامين الأولين لا يقفه(١) إلا الفقيه في الدين، وهو المجتهد العارف بالطرق الموصلة إلى الغايات المقصودة من التشريع الإسلامي،
بحيث تصير معرفة الشريعة _ وسائلها ومقاصدها _ ملكة له أي علماً راسخاً في نفسه، لا تشذ عنه مراعاته، والإصابة فيه عند جولان فكره في أمور التشريع.
وبمقدار ما يكون عدد هؤلاء الفقهاء مبثوثاً بين المسلمين تكون حالتهم قريبة من الاستقامة،
كما يكون أمرهم صائراً إلى التضاؤل بمقدار قلة وجود هذا الفريق بين أظهرهم؛ ففي الحديث الصحيح: =لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله+.
قال البخاري: وهم أهل العلم.
وفي الحديث العلماء ورثة الأنبياءوهو حديث حسن.
وفي الحديث :علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. وهو حديث ضعيف السند، لكنه صحيح المعنى.
فوجود هؤلاء العلماء في عصور عدم الاضطرار إليهم، منة من الله _تعالى_ على الأمة لتحسين حالها،
ووجودهم في حالة اضطرار الأمة عصمة من الله _تعالى_ للأمة، ولطف بها؛ لإنقاذها من التهلكة.
وقد يحتاج الدين وأهله إلى الاجتنان بِجُنِّة القوة لحماية الحق، وإقامة الشريعة كما أشار إليه قوله _تعالى_:
[وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ].
فذلك هو موقع المقام الثالث؛ لذلك منح الله الأمة مجدِّداً على رأس كل مائة سنة.
روى أبو داود في سننه في أول كتاب الملاحم: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم،
عن رسول الله قال: =إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها+.
قال أبو داود عبدالرحمن بن شريح الأسكندراني: لم يجز(٢) به شراحيل. اهـ يعني أن عبدالرحمن بن شريح وقف عند شراحيل ولم يعرفه،
فهو في رواية ابن شريح مقطوع، وليس مرفوعاً إلا في رواية ابن وهب.
قال ابن عدي في الكامل: لا أعلم يرويه غير عبدالله _ يعني ابن وهب _ عن سعيد بن أبي أيوب.
ورواه عنه _ أي عن ابن وهب _ عمرو بن سوَّاد، وحرملة بن يحيى، وأحمد بن عبدالرحمن بن وهب ابن أخيه _ أي ابن أخي أبي وهب _ ولم يروه عنه غير هؤلاء الثلاثة ا. هـ.
فابن عدي لم يطلع على رواية سليمان بن داود عن ابن وهب التي ثبتت عند أبي داود، وبهذا السند رواه البيهقي في سننه، والحاكم في المستدرك.
وذكر ابن السبكي أن أحمد بن حنبل رواه بزيادة =رجلاً من أهل بيتي يجدد لهم أمر دينهم+.
وظاهر أن زيادة كونه من أهل البيت، من موضوعات الشيعة على العادة؛ لتنحرف بالحديث إلى مهيع الأحاديث المصنوعة في المهدي المنتظر(٣).
ومعنى =يبعث الله من يجدد+ أنه يقيمه، وييسره لهذا المهم؛ لأن حقيقة البعث الإرسال، قال الله _تعالى_: [فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ].
وقال طريف العنبري:
بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
ثم تطلق مجازاً على الإقامة والتنصيب، قال الله _ تعالى _: [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً].
ومنه قولهم: بعث فلان بعيره، إذا أقامه في مبركه.
وهو المراد هنا؛ لأن الله لا يبعث المجدد بأن يرسله، ولكنه يوفقه، ويرشده، ويهيئ له.
=ومَنْ يجدِّد+ اسم موصول، وهو صادق على من اتصف بِعِلَّتِه، وهو التجديد للدين سواء كان المجدد واحداً أو متعدداً.
ومعنى التجديد إرجاع الشيء جديداً، أي إزالة رثاثته وتَخَلُّقِه، وهو هنا مجاز في إيضاح حقيقة الدين، وتجريده عما يلصق به من اعتقاد، أو عمل، أو سيرة،
ليس شيء من ذلك في شيء من الدين، في حال أن الناس يتوهمون شيئاً من ذلك ديناً.
=وأمر الدين+: شأنه، وماهيته.
ودين هذه الأمة الإسلام لا محالة، وهو اعتقاد، وقول، وعمل، وشريعة، وجامعة؛
فتجديده إرجاع هذه الأمور أو بعضها إلى شبابه، وقوته وجدّته.
دعائم الإسلام:
يقوم الإسلام على ثلاثة دعائم لا ينتظم أمره بدونها:
الدعامة الأولى: العقيدة؛ لأن العقيدة الحقة هي أصل الإسلام، وهو المقصد الأعظم المسمى بالإيمان، والذي هو المدخل إلى التدين بدين الإسلام.
ومبنى هذه الدعامة على صحة التلقي لما يجب اعتقاده في الإسلام عن الرسول، ومن البراهين القاطعة التي يهتدي إليها العقل.
الدعامة الثانية: شرائع الإسلام التي لا يستقيم أمر الأمة الداخلة في الإسلام إلا بمتابعتها؛
إذ فيها صلاح أمرهم في الدنيا بانتظام جماعتهم، وسيادتهم، وبها صلاح أمرهم في الآخرة بسلامتهم من العذاب، ومن قول باللسان، وعمل بالجوارح،
ويدخل فيها ضمائرُ قلبيةٌ كمحبة المؤمنين، وسلامة الطوية إلا أنها لما كانت آثارها أعمالاً ألحقت بقسم عمل الجوارح.
ومبنى هذه الدعامة على تلقي الشريعة من لفظ القرآن، ومن سنة الرسول وأعماله،
وأفهام أئمة الدين الذين تلقوه صافياً من شوائب الضلالات؛ حيث يكون هذا التلقي سالماً من اختلال نقل الرواة،
ومن سوء فهم المنتمين لحمل الشريعة،
ومن دخائل الملاحدة، ورقائق الديانة.
الدعامة الثالثة: جامعة الإسلام المسماة بالبيضة: وهي سلطان المسلمين، وقوتهم، وانتظام أمرهم انتظاماً يقيم فيهم الشريعة،
ويدفع عنهم العوادي العادية عليه من المجاهرين بعداوته،
والمسيئين معاملته من أتباعه الذين يحق عليهم المثل: =عدوك العاقل خير من حبيبك الأحمق+.
ومبنى هذه الدعامة على إقامة الحكومة الإسلامية في عظمة، وقوة، ومنعة، ونشر الإسلام بالفتوح الصالحة.
وقد رأى الصحابة القتال لإقامة جامعة الشريعة، وذود أهل العقائد الضالة، المريدين حمل الناس على عقائدهم،
كالقتال للدفاع عن بثّ الإسلام في أول أمره؛ فلذلك امتشقوا السيوف في الثأر لعثمان،
وفي الانتصار لعلي على من خرج عنه، وقد قال عبدالله بن رواحة:
اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
معنى التجديد
تجديد الشيء هو إرجاعه إلى حالة الجدة أي الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره؛ وذلك أن الشيء يوصف بالجديد إذا كان متماسكةً أجزاؤه، واضحاً رواؤه، مترقرقاً ماؤه.
ويقابل الجديدَ: الرثيثُ، والرثاثةُ انحلالُ أجزاء الشيء، وإشرافُه على الاضمحلال.
ولقد أفصح عن معنى الجدة والرثاثة قول الشاعر:
قد كان رثّ هوايَ فابـ
ـتسمت فَردَّتْهُ جديدا
فهذا الدين قد أظهره الله _تعالى_ ونصره؛ فتكامل أمره حين قال _ تعالى _: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي].
فكان في زمن رسول الله “ديناً واضحاً بيِّناً قويَّاً، لا يتطرقه تضليل، ولا يحول دون نفوذه قويٌّ ولا ضئيل، وذلك الكمال في أمور:
أولها: العمل به، وتحقيق مقاصده.
الثاني: نصره وإقامته.
الثالث: انتشاره، وزيادته، وتسهيل بثِّه.
الرابع: حراسته، وحفظه من تدخل الضلالات.
الخامس: دفع نائبة حلت بالإسلام إذا استمرت أفضت إلى طمس معالم الدين، أو إفساد الإيمان، أو ذهاب سلطانه.
وقد تمتد إليه يدُ الرثاثة من إحدى نواحي جِدَّتِه؛ فهو لا يرثُّ من جميع نواحيه؛ لأن الله قد ضمن حفظه،
ولكنه قد تتسرب إليه أسباب الرثاثة من إحدى النواحي؛ فَيُشاهد الضعف فيها،
فيبعث الله له من يجدده بأن يزيل عنه أسباب الرثاثة، ويرده جديداً ناصعاً.
فالتجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح للناس في الدنيا: إما من جهة التفكير الديني الراجع إلى إدراك حقائق الدين كما هي،
وإما من جهة العمل الديني الراجع إلى إصلاح الأعمال، وإما من جهة تأييد سلطانه.
مُضِيُّ مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد:
ليست حكمةُ الله بالمُضَاعة، ولا فعلُه بالعبث؛
فقد أنبأنا رسول الله أن الله يبعث للأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها؛ فعلمنا أن لهذا الأمر أثراً في تطرق الرثاثة إلى بعض الأمور؛ ذلك أن مدة مائة تنطوي فيها ثلاثة أجيال،
ويكثر أن يتسلسل فيها البشر آباءاً وأبناءاً وحفدة؛ فإذا فرضنا كمال أمر الدين كان في عصر الآباء عن مشاهدتهم أمره كما نفرضه في عصر النبوة حين شاهد الصحابة الدين في منعة شبابه _ جاء الأبناء،
فتلقوا عن الآباء صور الأمور الدينية عن سماع وعلم دون مشاهدة، فكان علمهم به أضعف.
ومن شأن الجيل إحداث أمور لم تكن في الجيل السابق، لكنهم يغلب عليهم ما كان في الجيل السابق؛ فإذا جاء جيل الحفدة تُنُوْسِيَتْ الأصولُ،
وكثر الدخيلُ في أمور الدين؛ فأشرف الدين على التغيير؛ فبعث الله مجدد أمور الدين؛ تحقيقاً لما وعد الله به في حفظ الدين.
وهذا التيسير الإلهي بقيام المجدد على رأس كل مائة سنة تجديد مضمون منضبط، وهو لا يمنع من ظهور مجددين في خلال القرن ظهوراً غير منضبط،
فقد ظهر في خلال القرن الأول علي بن أبي طالب وعبدالملك بن مروان وعمر ابن عبدالعزيز، وظهر في خلال القرن الثاني محمد بن إدريس الشافعي وظهر في خلال القرن الرابع أبو حامد الغزالي.
كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة؟:
جاء في لفظ الحديث أن ظهور المجدد يكون على رأس كل مائة سنة، والرأس في كلام العرب يطلق على أول الشيء، يقال فلان على رأس أمره، أي أن أمره أُنُفٌ كأنه لم يكن له قبل أمر.
في الحديث أن رسول الله بعثه الله على رأس على أربعين سنة من عمره؛ فيظهر أن المراد في رأس مائة سنة مبدأ مائة سنة؛
فمقتضاه أن يكون العدُّ مِنْ يوم قال الرسول ذلك،
إلا أن قرينة قوله: =مَنْ يجددُ لهذه الأمة أمر دينها+ دلت على أن ذلك لا يكون ما دام رسول الله بين أظهر المسلمين؛
لأن وجود رسول الله وقاية للدين من الرثاثة، وسلامة له من التخلق؛ فلا يحتاج إلى التجديد؛
فيتعين أن يكون ابتداء العدِّ عَقِبَ وفاةِ الرسول؛
ليحمل لفظ الرأس على ما يناسبه من الأولية بحسب المقام؛ فإن أول كل شيء بحسبه.
ويحتمل أن يراد من رأس مائة مبدأ مائة بعد مائة سنة تمضي بعد اليوم الذي صدر فيه هذا القول من الرسول
على حدِّ قول الرسول “في الحديث الصحيح المروي في صحيح البخاري وسنن الترمذي من حديث الزهري عن سالم ابن عبدالله وأبي بكر بن خيثمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى صلاة العشاء في آخر حياته،
فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد.
إذ يتعين أن يكون قوله فيه: فإن رأس مائة سنة أي مبدأ مائة سنة من تلك الليلة بقرينة السياق.
ولذلك قدَّر شراح الحديث قوله: فإن رأس مائة سنة أي من تلك الليلة، أي بعد مضيها.
وقد قيل بمثل هذا في إطلاق رأس مائة سنة في قولهم في الحديث بعثه الله على رأس أربعين سنة أي عند تمام الأربعين من عمره الشريف،
فيكون ابتداء العدِّ _أيضاً_ من يوم قال رسول الله ذلك،
ومثال الاحتمالين واحد إلا في عدِّ المرة الأولى من التجديد،
وعدِّ أول المجددين.
وأيَّاً ما كان فالظاهر أن رسول الله قال ذلك في آخر حياته؛ إذ قد دلت أدلة من السنة على أن رسول الله قد أكثر في آخر حياته من أقوال تؤذن بقرب انتقاله؛
تأنِّياً للمسلمين بتلقي مصيبة وفاته بصبر،
وتنبيهاً لهم؛ ليتهيؤوا إلى سدِّ ما تعقبه وفاته من ثلمة في أمور المسلمين، وبشارة لهم بما يعرفون به تولي الله _تعالى_ حفظَ هذا الدينِ كما جمعه قوله “: =حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم+.
وفي ذلك الغرض جاء قوله _ تعالى _: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]،
وقوله _ تعالى _: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ] إلى آخر السورة.
وقد صرح عبدالله بن عمر في حديثه الذي ذكرته آنفاً بأن رسول الله قال: =أرأيتكم ليلتكم هذه…الخ+ في آخر حياته، وهو نظير هذا الحديث.
فالظاهر أن رسول الله قال هذا الكلام في شأن المجدد في سنة عشر،
أو في سنة إحدى عشرة من هجرته.
فإن كان المراد من رأس مائة سنة تأتي كما هو الظاهر _ فالمجدد الأول هو أبو بكر الصديق ÷ وإن كان المراد رأس مائة سنة تمضي فالمجدد الأول هو من ظهر لتجديد الدين في حدود سنة عشر ومائة من الهجرة.
وكل ذلك يوقنك بأن ما سلكه تاج الدين السبكي في تعيين المجددين للدين،
وضبطه ذلك بموافقة وفاة من نَحَلَهُمْ صفةَ المجدد مبادئ مرور المئين من السنين ابتداء من يوم الهجرة _ قد أخطأ فيه من وجهين عظيمين وإن كانا خفيين:
أحدهما: إناطة ذلك بوقت ظهوره، أو انتشار أمره،
وقوة عمله في تجديد الدين كما يُفْصِحُ عنه لفظ: (يبعث) الواقع في الحديث الذي هو بمعنى يقيم،
ولفظ: (يجدد) المقتضي أن يكون معظمُ حياةِ المجدد في رأس القرن؛ إذ العمل من أثر الحياة لا أثر الموت.
الوجه الثاني: أنه جعل ابتداء عد رأس القرن من يوم الهجرة،
وشأن العدِّ أن يكون من يوم الوعد بذلك؛ فإن اعتبارَ سنة الهجرة مبدأً للقرون الإسلامية أمرٌ اصطلح عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله في خلافة عمر؛
فكيف يفسر به كلام واقع قبل ذلك بسنين؟
رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:
قال تاج الدين عبدالوهاب ابن السبكي في كتاب طبقات الشافعية في مقدمته المسهبة
وذكر حديث أبي هريرة في المجدد والحديث الذي فيه زيادة (من أهل بيتي)
وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: نظرت في سنة مائة فإذا هو رجل من آل الرسول عمر بن عبدالعزيز،
ونظرت في رأس المائة الثانية فإذا هو رجل من آل الرسول محمد بن إدريس الشافعي،
ثم قال ابن السبكي: ولأجل ما في هذه الرواية الثانية من الزيادة _ أي زيادة من أهل بيتي _ لا أستطيع أتكلم في المئين بعد الثانية؛
فإنه لم يُذْكَر فيها أحد من آل النبي ” ولكن هنا دقيقة وهي أنا لم نجد بعد المائة الثانية من هو بهذه المثابة،
ووجدنا جميع من قيل: إنه المبعوث في رأس كل مائة سنة ممن تمذهب بمذهب الشافعي؛
فعلمنا أنه ابن الشافعي الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله،
وبعث بعده في رأس كل سنة من يقرر مذهبه،
ولهذا تعين عندي تقديم ابن سريح في الثالثة على الأشعري؛
فإن الأشعري _وإن كان_ أيضاً شافعي المذهب _ إلا أن قيامه كان للذب عن أصول العقائد دون فروعها،
فكان ابن سريح أولى بهذه المرتبة لاسيما ووفاة الأشعري تأخرت عن رأس القرن إلى بعد العشرين.
وعندي لا يبعد أن يكون كل منهما مبعوثاً، هذا في فروع الدين، وهذا في أصوله وكلاهما شافعي.
وأما المائة الرابعة فقد قيل: إن الشيخ أبا حامد الاسفرائيني هو المبعوث فيها،
وقيل: بل الأستاذ سهل الصعلوكي وكلاهما من أئمة الشافعيين.
قلت: والخامس الغزالي، والسادس فخر الدين الرازي،
ويحتمل أن يكون الرافعي؛ لأن وفاته تأخرت إلى بعد العشرين وستمائة، والسابع الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد+.
هذا حاصل كلام ابن السبكي بعد تجريده من التطويل، وقد قَفى جلال الدين السيوطي على أثر تاج الدين ابن السبكي،
ورجا لنفسه أن يكون هو مجدد المائة التاسعة.
وكلاهما حجَّر واسعاً من نعمة الله؛ فاحتكراها لعلماء الشافعية،
ولا أعجب من إسرار السبكي في مطاوي ذلك أن يومئ إلى أن الدين عنده هو مذهب الشافعي إذ يقول:
ووجدنا جميع من قيل: إنه المبعوث في رأس كل مائة ممن تمذهب بمذهب الشافعي؛ فعلمنا أنه _ أي الشافعي _ الإمام المبعوث الذي استقر أمر الناس على قوله،
وبعث بعده في رأس كل مائة سنة من يقرِّر مذهبه+.
الهامش
(١) لعلها: لا يفقههما، أو لا يفقهه (م).
(٢) لعلها: لم يجزم (م).
(٣) إن كان يقصد أن هناك أحاديثَ مصنوعةً وردت في المهدي فلا بأس،
وإن كان يقصد أن الأحاديث الواردة في شأن المهدي مصنوعة فغلط؛ لأن خروج المهدي ثابت بالأحاديث الصحيحة (م).
من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (١) (٢) (٣)
مقالات عربية رائعة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية (٣)