من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (٢) .. شروط المجدد المقال الثاني من ثلاثة مقالات للشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله
من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (٢) للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
شروط المجدد
وإذ يقول في منظومة له نظم فيها المجددين على حسب اختياره:
أجلى دليلٍ واضح للمهتدي
هذا على أن المصيب إمامنا
فابن السبكي ظهر بمظهر التعصب المذهبي، وأتى بدليل مصنوع بيده، فكان هو واضعَ الدعوى وواضعَ الدليل، وقد غفل عن أن هذا يعطل عليه وجود مجدد في المائة الأولى.
ثم إنا نرى معظم مَنْ عَدَّهم السبكي مجددين لا يزيد معظمهم على أن كانوا مدونين مذهبَ الشافعي، وليس ذلك كافياً في وصف المجدد، وأين معنى التجديد من معنى التدوين؟
ولم أَرَ من عني بتحقيق هذا الأمر، ولا عرضه على شواهد التاريخ وأحوال الدهر، وها أنا ذا أبدي ما وقر في روعي من الاختبار في صفة هذا المجدد على العموم،
ثم أتبعه بأفراد هذه الأمة الذين انبروا للتجديد في وقت الحاجة، وليس ببدع أن يكون ما أراه في هذا الشأن راجحاً في كفة البيان،
فليس الحق بمحتكر، ولا شرب الصواب بمحتضر، والحكم في الترجيح لمحك النظر.
التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:
لقد صرح الكلام النبوي أن هذا المجدد يبعثه الله ويلهمه لتجديد أمر الدين للأمة؛ فوجب أن يكون هذا المجدد قائماً بعمل مثمر تجديداً في هذا الدين،
وقد أَبَنْتُ فيما مضى معنى التجديد؛ فيتعين أن تكون لهذا المجدد الصفات التي تؤهله لرتق ما فُتِقَ من أمر الدين في زمنه،
فإذا كان الفتق قد طرأ على ناحية من نواحي علم الدين تعين أن يكون المجدد في تلك الناحية عالماً يؤهله علمه لإدراك الدين الحق في الغرض المقصود،
وإن كان الفتق قد طرأ على الدين من ناحية وهن نفوذه ووقوف انتشاره تعيَّن أن يكون المجدد في ذلك قادراً على حماية البيضة، ونصر الشريعة، أي نصر الحق من الدين؛
لئلا يدخل في المجددين من قام ينصر نحلة اعتقادية يعتقد أنها الدين وهو فيها زائغ،
مثل أبي زيد راكب الحمار، ومثل أبي عبدالله الشيعي داعية المهدي العبيدي، أو لإعلان فتنة وانقلاب دولة تحت اسم الدين مثل مهدي الصومال، والتعايشي.
ويجب أن يكون المجدد في هذا المقام عالماً بالشريعة، وأن يكون مسترشداً بالعلماء؛ ليصادف الحق الذي يتطلبه الشرع.
وإذا كان الفتق الذي اعترى الدين من ناحيتين فصاعداً تعين أن يكون المجدد كفئاً للنهوض بما يتطلبه التجديد في ذلك،
مثل أبي بكر الصديق في موقف ارتداد العرب.
ثم إن الأظهر أن يكون هذا المجدد واحداً؛ لأن اضطلاعه بالتجديد وهو واحد يكون أوقع؛ إذ يكون عمله متحداً، ويكون أنفذ؛
إذ يسلم من تطرق الاختلاف باختلاف الاجتهاد في وسائل المقصد،
وربما اقتضى حال الزمان أن يكون المجدد متعدداً في الأقطار بأن يقوم في أقطار الإسلام مجددون دعوتهم واحدة،
أو يكون رجلان فأكثر متظاهرين على عمل التجديد في موضع واحد.
ولقد جوز ابن السبكي أن يكون ابن سريح وأبو الحسن الأشعري مجددين في نهاية المائة الثالثة:
أولهما في الفروع،
وثانيهما في الأصول،
ولا مانع من قيام رجلين بمهم واحد، فقد أظهر ذلك في أعظم مهم وهو الرسالة،
إذ أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى بني إسرائيل وفرعون وملئه، وأرسل رسولين لأهل القرية ثم عززهما بثالث كما جاء في سورة يس.
ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع، أو تأليف مثبوت بين الأمة،
أو حمل الناس على سيرة، بحيث يكون سعيه قد أفاد المسلمين يقظة في أمر دينهم، فسار سعيه بين المسلمين،
وتلقوه وانتفعوا به من حين ظهوره إلى وقت إثماره، سواء كان حصول ذلك دفعة واحدة أم تدريجيَّاً.
ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين، وتكون سمعتها بموضع القدوة للمسلمين،
مثل أن يكون من أهل الحرمين، أو من مقر الخلافة، أو من البلاد التي تعنوا إليها وجوه المسلمين،
مثل مصر في بعض عصور التاريخ، ولذلك نجزم بأن مظهر المجددين الذين ظهروا في عصور الإسلام كان هو الشرق؛
إذ يلزم أن يكون عمله نافعاً لجميع الأمة لا لصقع خاص.
وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجاله بالغاً حدَّاً قاصياً في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى، ولا بالغاً الغاية في الفقه،
ولا كائناً من أهل القضاء بالعدل؛ لأن تلك صفات قاصرة عليه؛ لذلك نرى عدَّ عمر بن عبدا لعزيز مجدد القرن الثاني غير متجه؛
إذ هو وإن كان بحق خليفة عدل إلا أن الإسلام قبل زمانه لم ترهقه رثاثة،
وليت الذين عدوا عمر بن عبدا لعزيز في المجددين عللوا ذلك بأنه الذي أمر بتدوين السنة، وفيه نظر.
التوسم في تعيين المجددين، بحسب أدلة الحق المبين:
لقد قضيت حق البيان في توقيت الزمن الذي نطق فيه رسول الله “بقوله:
إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
وأوضحت أنه مما قاله رسول الله في آخر سني حياته المباركة،
فقضى ذلك أن يكون ابتداء الحاجة إلى التجديد من وقت وفاة رسول الله ”
لأن مدة حياة رسول الله هي مدة أكمل أحوال نماء الدين [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ].
إن وفاة رسول الله أكبر نائبة أصابت المسلمين، فإن رسول الله هو مظهر الإسلام،
وكان جميع أحواله نفعاً للإسلام، ولعل في قوله _ تعالى _: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ] إيماء إلى هذا المعنى، إذ قَصَرَهُ على صفة الرسالة؛
فكأنه لا صفة له إلا الرسالة، فوفاته بمنزلة رفع الإسلام من جذوره،
وكأن الله أراد أن يظهر بركة رسوله لمحة، فيرى الناس كيف اضطرب أمرهم بموته،
حتى لا يكون انتقاله هيناً عليهم؛ لأن عواقب المصيبة تزيدها قوة، فكأن الإسلام قد ذهب مشيعاً روح الرسول، ثم عاد بعد التشييع.
فما شاع نبأ وفاته ” حتى ارتجت المدينة واضطرب أمر الأمة، وهجست خواطر الشيطان في نفوس الأعراب وحديثي الإسلام،
وكاد الخلاف أن يدب بين المسلمين في أمر الخلافة، وأخطر ما فيه توقع دبيب الخلاف بين فريقين لم يختلفا البتة،
وهما المهاجرون والأنصار، فكان موقف أبي بكر أول يوم عقب وفاة رسول الله موقف من رتق الفتق، ورأب الثأي،
وبه استقر أمر الجماعة في وطن الإسلام، ومدينة أهل الحل والعقد من قادة الأمة،
فبايعوا أبا بكر خليفة لرسول الله في تدبير شؤون المسلمين،
فكان ذلك مبدأ تجديد أمر الدين بعد انفتاق نسيجه، ومبدأ إشادة صرحه بعد أن أشرف على الانهيار.
وما استقر الأمر بضعة أيام حتى ارتدت العرب، وتسرب الانحلال إلى الجامعة الإسلامية، وبقيت سلطة الخليفة قاصرة على المدينة وقليل من القبائل؛
فوجم أبوبكر، وحار المسلمون، فاستشارهم أبو بكر في ذلك، فما أقدموا ارتياء مقاتلة معظم العرب؛
ولكن أبا بكر قد سدد الله رأيه وثبَّت فؤاده فقال:
والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، كيف لا أقاتل من فرَّق بين الصلاة والزكاة؟ فإن الزكاة حق المال.
فشرح الله صدر الصحابة إلى تأييد أبي بكر والمقاتلة معه، وامتشق الحسام لنصر الإسلام،
فلم يلبث إلا قليلاً حتى هَزَمت جيوشُه جميعَ قبائل الردة، وردَّ للإسلام قوته؛
فكان ذلك أول تجديد للإسلام، وكانت القبائل التي قاتلت معه هم الذين خاطبهم على لسان رسوله بقوله:
[قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ].
وثاب العرب إلى الرشد، وعاد لهم إسلامهم، وطاعة إمامهم،
وكان ذلك دخولاً جديداً في الإسلام لمعظم قبائل العرب دخولاً لم يخرجوا بعده.
ثم رجع السيف إلى قرابه، واستقر أمر الإسلام في نصابه، وصلح حال المسلمين،
وعلم الجميع معنى الإسلام ودوامه، فكان أبو بكر مجدد معنى الرسالة ومبيناً له،
ولم يزل الإسلام يعلو، وينتصر، ويفيض على الأقطار كالسيل المنهمر،
ففتحت الأمصار، ودُرِّست العلوم، وعَلِم الناسُ أمرَ دينهم، وأمن المسلمون كيد أعدائهم،
وانتصبوا لنظام أمرهم، وتأييد أمور دينهم، وتلقي علوم الكتاب والسنة، وتدوين الآثار المروية عن الرسول “.
وانقضى عصر الصحابة، وحمل العلم من كل قطر عدولُه وأفاضلُه،
وصار الناس متعطشين إلى ما يؤثر عن رسول الله وخلفائه، ومصيخين لكل من يقول: قال رسول الله،
فتهمم بالرواية أقوام كثيرون، وصار التصدي والتلقي غاية أهل الألباب،
ولكن تفاوت الأفهام وتباينها في الضبط والتقوى قد حدا بقوم إلى الاستكثار من الرواية عن رسول الله، والاستهتار بحب الإغراب في ذلك،
وبالإصغاء لكل من يتظاهر بأن له علماً بسنة، أو تفسيراً لآية؛ فكثر الدخيل، وعظم القال والقيل،
وتفطن علماء الأمة لهذا الخطب الجليل، وبدأت الشكاية من تساهل الضعفاء وغلاة الرواة تئن بها صدور أهل العلم والضبط،
ففي صحيح مسلم أن عبدالله بن عباس قال: إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا،
وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
لقد تصدى للرواية عن رسول الله، ولتفسير القرآن أصنافٌ من الناس في العلم؛
فمنهم أهل الضبط والتحري من أهل الفقه والإفتاء والرواة، ومنهم أصحاب التساهل من أصحاب السِّيَر المتبعين لكل ما جاء فيه من أثر،
ومنهم الوعاظ الذين تعلقوا ما يناسب دعوتهم من الآثار، وأبهجهم ما أعانهم من أثر يروى يعضد مقصدهم، ومنهم القصَّاص في المساجد والنوادي،
والمتجولون في الحواضر والبوادي، يُلْقون إلى اللفيف ما تقبله عقولهم، وتبلغ إليه أفهامهم،
فيتوخون أن يلتقطوا من المرويات كل ما يسهل على العامة قبوله، ويطابق ما في مخيلاتهم وإن كان ضعيف المعنى واللفظ،
ومنهم أهل الأهواء والنحل الذين تعمدوا الكذب على رسول الله، أو تساهلوا بحسب جرأتهم على التدليس والترويج؛ فقد وضع الكَرّامية() عشرة آلاف حديث.
فكانت أهل هذه الأصناف الأخيرة غير مكترثين بالبحث عن صحة نسبة الآثار المروية إلى رسول الله ”
كاكتراثهم بمناسبة الآثار لأغراضهم، وحب الشيء يعمي ويصم،
وهنالك اختلط الحابل بالنابل والخاثر بالزباد، ولم يزل تفاقمه في ازدياد، حتى بلغ السيل الزبى،
وكادت أن تذهب السُّنَّةُ أيادي سبا.
ولم تزل طائفة من الأمة ظاهرين على الحق، باحثين عن مراتب الخلق،
متهممين بانتقاد ما صح عن رسول الله من الآثار، لم يخل عن طائفة منهم قطر من الأقطار،
إلا أن جمهرة هؤلاء كانت من علماء المدينة، يتلقى الخلف عن السلف رواية الصحيح؛
إذ كانوا عاكفين على معاهد الرسول وآثاره، سالمين مما تطرق من الابتداع في بعض أقطاره،
والإيمان يأرِز إليهم، وسنة الرسول شائعة بين ظهرانيهم، وانحصر ذلك في فقهاء المدينة ورواتها،
وهم عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسعيد ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم،
ولحق بهم محمد بن شهاب الزهري؛ فكانوا قدوة الرواة.
ثم انحصر علمهم في مالك بن أنس عالم المدينة، فأزبد عنده ذلك المخض، وأفصح عن الخالص المحض، فانفرد في زمنه بحمل السنة الصحيحة،
وعرض المرويات على محك النقد، وكان اعتماده في النقد من ثلاث معايير: عمل أهل المدينة، وقواعد الشريعة، وصفات الرواة، ولم تجتمع هذه المعايير لغير مالك.
وكان ظهور مالك في أوائل القرن الثاني في حدود سنة 112 لأن مالكاً قد نبغ وهو شاب،
وكانت ولادته سنة 93 وقيل 96 فيكون في حدود سنة 110 قد بلغ الحلم أو تجاوزه.
قال شعبة: دخلت المدينة بعد موت نافع فإذا لمالك حلقة، وموت نافع سنة 117.
وقد اتفق العلماء من أهل عصره على تأويل ما روي عن رسول الله بروايات متقاربة في سنن الترمذي، وكتاب النسائي، ومسند أحمد بن حنبل ومستدرك الحاكم ومسند الشافعي من قوله “:
يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة أنه إشارة إلى مالك بن أنس،
قال بذلك سفيان بن عيينة، وابن مهدي، ويحيى بن معين، وابن المديني، وجمع كثير.
ثم إن ما بلغه مالك من توقير خلفاء الدولة العباسية، وبرّهم إياه،
ووقوفهم عند نصائحه، مع ما كان له من شدة على المتساهلين في الحديث وتلقي السنة _ قد أعان على نفاذ أصوله في تحمل الحديث،
ومكَّنه من التقريع والتأديب لكل من يبلغه من المتساهلين والمبتدعين وأهل الأهواء.
وحسبك أن المنصور أبا جعفر قد همَّ همَّاً قويَّاً على أن يأمر الناس في أقطار الإسلام باتباع ما في الموطأ دون غيره؛
فانثال الناس على الأخذ عن مالك.
وقد اختص بأشياء لم تأت لغيره، وهي التعمير، وكثرة الآخذين عنه، وتفرقهم في سائر الأمصار،
وإعلانه بطريقته، وتزييف الطرائق المخالفة لها، واجتماع إمامة الفقه والحديث فيه؛
وهذه صفات لم يشاركه فيها غيره ممن كان يدانيه في صحة الرواية
مثل يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبدالرحمن بن مهدي، مع شدته في متابعة أصوله، لا ينحرف عنها قيد أنملة.
ولأجل تخليد عمله، وتخطيط طريقه ألف كتاب الموطأ، وهو أول كتاب ألف في الإسلام، فذلك كله عيَّن عندي أن يكون مالكٌ مجددَ أولِ القرن الثاني.
وأرى أنه لم يشاركه أحد في تجديد أمر الدين من ناحية لحقت الدين منها رثاثة، فطريقة مالك × هي التي كانت الطريقة المثلى للتمييز بين الصحيح والسقيم من الآثار،
وقد ذهب بها جُفاء ما طرأ على الرواية من الخلل، وقد أصبحت تلك الطريقة مسلوكة إلى يومنا هذا؛ فهو مجدد طريقة، وأصل عام في التحمل.
وما فرغ المسلمون من علم قواعد التحمل، ومعرفة المقبولين والضعفاء والمدلسين حتى طفحت الروايات عليهم من كل مكان، فمن صحيح وعليل، وأصيل ودخيل،
فأصبح الناس في حيرة في مقام التمييز، لاحتياجه إلى علاج بوسائل القواعد، وذلك على الناس عزيز،
فكانوا بحاجة إلى تدوين كتاب يجمع صحاح الآثار في كل نوع من أنواع التشريع، ويدحض ما عداها،
فكان محمد ابن إسماعيل البخاري للأمة شمس هداها؛
إذ ألف الجامع الصحيح فاطمأنت نفوس المؤمنين، وألغوا كل معروف بالوضع وكل ظنين.
كان ابتداء ظهور عمل محمد بن إسماعيل البخاري في مبتدأ القرن الثالث من يوم قال رسول الله ” مقالته تلك،
أعني في حدود سنة 211 وقد كان هذا التجديد لناحية من الرثاثة في الدين،
وهي رثاثة التساهل في الحديث من حيث جزئيات الأحاديث لا من حيث الأصل الكلي؛
فذلك وجه غير الذي لمالك، وإن جرى على أصل مالك؛ لأن البخاري جدد طريقة تمييز أعيان الأحاديث،
ومالكاً جدد طريقة تأصيل قواعد الأخذ للسنة، وتخريج الأحاديث التي هي أصول للتفقه في الدين من صحيح الآثار.
هكذا مضى المسلمون آمنين في طريق نقل الآثار الشرعية، ومسالك التفقه في الدين والتفريع فيه؛
فظهر الحق من الباطل، واستبانت السنن من الابتداع،
فكان أهل السنة وأهل الحق غالبين من يغالبهم من أهل الأهواء والبدع الذميمة،
وكان العلم الغالب في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه، ولا في علم التوحيد.
وفيما هم على تلك الحال من الهدى إذ نبعت فيهم فئات يخوضون في أصول الدين خوضاً يشوب الأدلة الشرعية بالأصول الفلسفية،
ويعلنون أن الحق هو الذي يجب أن يكون رائد المسلم في أصول الاعتقاد،
ويردُّون الأدلة السمعية التي تخالف الأصول التي أصلوها ردَّاً بالتأويل أو الإبطال،
وكانوا قد درسوا ما ترجم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثة بينهم وبين أتباعهم،
وصاروا يتبجحون على مخالفيهم بأنهم لا ثقة بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية،
فدخلت بذلك على الأمة فتنٌ في عقائدها كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن،
وتبعتها فتنة الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال، وغيرها.
فوجم أهل السنة وجمة عضوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ؛ فرثَّ الإسلام من ناحية العقيدة استدعت رحمة الله بأهله، وضمانه لحفظه،
لأن يقيض من يذبُّ عن السنة، ويزيف مذاهب أهل الأهواء بنصب أدلة من نوع مما موَّهوا به على الناس وذلك هو إمام المسلمين الشيخ أبو الحسن الأشعري().
كان الشيخ من أتباع مذهب الاعتزال، فأنهضه الله للذب عن السنة، وبين له سقم كثير من أصول المعتزلة،
فانبرى لتأييد العقيدة الإسلامية السنية، وكان انتقاله إلى أتباع السنة منذ سنة 300 وأخذ يدلل العقائد بالأدلة الفلسفية،
ويعضد بها الأدلة السمعية فتم عمله في حدود سنة 310 وتوفي سنة نيف وثلاثمائة وثلاثين، وقيل سنة 330 ببغداد،
فهو مجدد رأس المائة الرابعة ولا أجدر منه بهذه المزية من علماء ذلك القرن.
الهوامش
(١) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء الثامن، المجلد العاشر، صفر 1357هـ، إبريل 1938م، ص463_474.
(٢) هم أتباع محمد بن كرام (م).
(٣) ليس أبو الحسن الأشعري وحده في هذا بل سبقه بقليل وعاصره أئمة نفوا كثيراً مما ألصق بالدين من بدع،
ومن أعظم أولئك إمام أهل السنة أبو عبدالله أحمد بن حنبل الذي وقف سداً منيعاً أمام كثير من البدع، وعلى رأسها فتنة القول بخلق القرآن،
بل إن الأشعري لما رجع إلى السنة بعد الأربعين من عمره أعلن أنه على مذهب أحمد بن حنبل (م).
من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (١) (٢) (٣)
مقالات عربية رائعة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية (٣)