Site icon حديقة المقالات

عمر الإنسان للعلاَّمة محمد الطاهر بن عاشور

عمر الإنسان

عمر الإنسان : كتبت في مجلة السعادة في عددها السادس شذرة في عمر الإنسان تحت عنوان الإنسان على الأرض جعلتها تعضيداً لمن كتب في عددها الرابع كلمة  عمر الإنسان الطبيعي .

عمر الإنسان للعلاَّمة محمد الطاهر بن عاشور

عمر الإنسان (1) للعلاَّمة محمد #الطاهر_بن_عاشور

كتبت في مجلة السعادة في عددها السادس شذرة في عمر الإنسان تحت عنوان الإنسان على الأرض جعلتها تعضيداً لمن كتب في عددها الرابع كلمة  عمر الإنسان الطبيعي .

ولكن اتحدت الوجهة واختلف الطريق، فإني عدلت عن اعتبار الفلتات الطبيعية في عمر الإنسان؛

لأني رأيته جواباً على تسليم الأصل الذي بنى عليهم الشاكون شكهم، وإنما أردت البحث في مستند الأصل الذي أصَّلوه أن عمر الإنسان لا يتجاوز المائة والعشرين سنة؛

من أجل ذلك بحثت في المسألة بحثاً فلسفياً ترديدياً؛ ليرى المبصرون أنْ لا دليل من العقل يجعل هذا الحد طبيعياً للبشر،

وأنْ ليس المرجع في هاته التحديدات إلاَّ لاستقراء غالب عيش الأمم في كل عصر.

وإذا كان ما حددوه عمراً للإنسان منذ كتب البشر التاريخ، ونشهد أنه قد انحطَّ في عصرنا هذا عن ذلك الحد _ فلا بِدْعَ أن يكون قبل ذلك أطول،

لاسيَّما وقد أثبت العلم يقيناً باختلاف أطوار مرت على الأرض، وأنها كأبنائها يعتورها طفولة وشباب وهرم، ذلك كله بَيَّنَّاه فيما كتبنا أولاً مع بسط وترديد.

ومما زاد بي عدولاً عن اعتبار الفلتة أنَّ الأطباء الذين إليهم المرجع في هذا التحديد يرون أنه لا يمكن أن يتعدى الإنسان ما حدّ له من العمر،

بل يتحلل إن بلغه تحللاً، وما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف.

ولا ينقص من شجاعتنا على هدم هذا الأصل، أن يصادق عليه الشيخ ابن خلدون و الفخر ابن الخطيب _ رحمهما الله

فإنا لا نعلم الأول إلا فيلسوفاً تاريخياً، ولا الثاني إلاَّ رجلاً عالماً له سعة اطلاع على كلام الحكماء لم يخوِّله مرتبة الحكم اليقيني أو يكسبه صوتاً معهم.

وما كان واحد منهما بالفيلسوف الطبيعي، وإنما ذكرا ذلك الكلام في كتابيهما كما تذكر الأصول الموضوعة في كتب العلوم.

الأصل في الفلتات القلةُ

ثم أضفتُ إلى ذلك أدلةً ما تصل إلى إيثار اليقين، ولكنها لا تقصر بعد اجتماعها عن أن تكسب الحق قوة،

منها: أن الأصل في الفلتات القلةُ، والفلتة _وإن لم يضعوا لها حداً تقف عنده _ إلاَّ أنَّ اسمها وحده كافٍ في اعتبار قدرتها كمَّا وكيفاً،

ولو كثرت لانقلبت عادة؛ إذ ليس أصلها من الأحكام العقلية التي لا يخرج الشاذ منها عن شذوذه ما بلغت به الكثرة.

وظاهر القرآن والتاريخ يقتضي أن نوحاً _ عليه السلام _ عاش هذا الزمن وقومه هم هم،

وأنهم الذين عاقبهم الله _ تعالى _ بالطوفان ومن الآيات التي تقتضي طبيعة سوقها ذلك قوله _ تعالى _ في سورة الشعراء:

[كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111)

قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (118)

فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ]الشعراء.

وأما احتمال أن المعاقبين خلفهم فشيء بعيد عن سنة الله في الخلق،

وإذا كان طول عمر نوح معجزة فمن الضروري أن يقارنها القوم المتحدين بها ليشهدوا بآيات ربهم.

ومن الأمثال التعجبية الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون .

الطوفان قد أبرد حرارة الأرض

ومنها أن الطوفان قد أبرد حرارة الأرض وأنهك قواها،

وذلك لنجعل مناسبة لاقترانه بقِصر عمر البشر؛ تصحيحاً للتاريخ العتيق بالإمكان كما تقتضي مدارات هذا الزمان،

ولا شك أنه إن أفقد شيئاً عظيماً من حرارة الأرض _ وحق له أن يفعل ذلك فإنه ما كان وادياً فائضاً أو مطراً وابلاً،

ولكنه غمر ماء يعم الأرض كلها إلى قمم أشهق جبالها فماذا ترى مثل هذا الفعل

فقد أعدمها شيئاً ما كان ليرجع إليها من بَعْد .

وإذا كان الطوفان قد أتى على جانب عظيم من الأرض فلا بِدْعَ إنْ هو أنهك بعض قواها،

وأبرد من حرارتها جزءاً عظيماً تسري أدواؤه إلى كلها،

كما يصاب الجسم الواحد في بعض مواضعه فيألم كله، إذا صح عدم عموم الطوفان.

وربما وجدنا الأمم التي لم يصلها على هذا التقدير أطول أعماراً من الأمم التي يسمونها طوفانية .

ومن العجائب التي تنافي ما ينتحله الشيخ ابن خلدون من الفلسفة،

أن تسمعه يسند طول عمر نوح إلى قرانات كوكبية غريبة،

ناسياً أن الكواكب التي اقترنت ما طلعت على نوح وحده، بل على العالم كله؛

فمن الواجب أن يعيش كل البشر الموجود يومئذ كما عاش نوح حذو النعل بالنعل؛ فلا معجزة ولا خصيصة.

تدجيلات الكهان

وتأثير الكواكب في بعض الأشخاص دون بعض من تدجيلات الكهان،

التي ما كان ينبغي أن تأخذ مكاناً من عقل الشيخ ابن خلدون حتى يشوه بها كتابه، ويموه صوابه.

ثم ماذا يصنع في أعمار غير نوح من الأنبياء وغيرهم الذين ذكرتهم التوراة العهد القديم  وهي الملجأ في التاريخ العتيق  المقدس .

أنا لا أرى هذا التحديد المنسوب للحكماء إلاَّ شيئاً سرى لهم من قولها في سفر التكوين ص36:

فقال الرب لا يدين روحي لي الإنسان إلى الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة .

وربما لوَّحْنا فيما كتبنا أولاً إلى الانزواء عن الحكم فيه بعد ما رأينا من ذكرها أعماراً أخرى من الطوفان أطول من الأجل المكتوب.

نعم قد كان نوح أطول ذوي الأسماء التاريخية عمراً حسب ما يؤخذ من الأعمار المسرودة في التوراة،

ولكن ذلك لا يوجب له خاصية ولا يقتضي قراناً أو طالعاً أو جواً خاصاً إنما هي اتفاقية لازمة في كل ما يقال عليه بالتشكيك،

فكل أفراد تشككت في شيء مهما بلغت كثرتها فإن نسبة أقصر أفرادها إلى الذي يليه كنسبة أدناها إلى الذي فوقه،

وتجد نسبة أطول رجل في العالم للذي يليه كنسبة آخر قصير لأقصر رجل،

وما ذلك لقرانات أو معجزات وإلاَّ لكان لكل صنف قران خاص،

وجو خاص إن شئت وطبع خاص، ولعل هذا يشوش الطبيعة ويكثر حركة الكون .

هذا هو المراد من المنع، ووجه العدول عن التسليم لأصلهم، حتى نخنع إلى الاعتراف بالفلتة، والله أعلم بصحة ما نقول .

الهوامش

(1) مجلة السعادة العظمى عدد(8)، 16ربيع الثاني 1322هـ، ص119_122.

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_علمية

#الطاهر_بن_عاشور

اسماء مقالات مميزة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية المجموعة الثانية

اقرأ الكتاب على موقع المكتبة العربية الكبرى

 

Exit mobile version