الاستشهاد بالحديث في اللغة للشيخ العلامة محمد الخضر حسين بحث قدمه المؤلف إلى مجمع اللغة العربية ، ونشر في الجزء الثالث من مجلة المجمع
الاستشهاد بالحديث في اللغة
للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
يستند علماء العربية في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأصول النحوية إلى القرآن المجيد، وكلام العرب الخُلَّص.
وجرى بينهم الخلاف في الاحتجاج بما يروى من الأحاديث النبوية،
وحقيق بمجمع اللغة العربية أن ينظر في هذه المسألة، ويقطع فيها رأياً،
فإن الكتب المؤلفة في الحديث وغريبه كثيرة، ومنها ما يبلغ مجلدات ضخمة.
ومتى رأينا أن الحق في جانب من يراها حجة كافية في اللغة كان مجال البحث في علوم اللغة أوسع،
ووجدنا من المساعدة على إعلاء شأن اللغة ما لا نجده عندما نقصر الحجة في القرآن الكريم، وما يبلغنا من كلام عربي فصيح.
وهذا ما دعاني إلى أن بحثت هذه المسألة، وبذلت جهداً في استقصاء ما كتبه فيها أهل العلم، ثم استخلصت من بين اختلافهم رأياً.
وهأنذا أعرض البحث كما اتفق لي أنْ سِرْتُ فيه، وأَصِلُهُ بإبداء ما رأيت؛ لينظر مجمعنا اللغوي ماذا يرى.
ما المراد بالحديث؟
تشتمل كتب الحديث على أقوال النبي ” وعلى أقوال الصحابة: تحكي فعلاً من أفعاله _ عليه السلام _ أو حالاً من أحواله، أو تحكي ما سوى ذلك من شؤون عامة أو خاصة تتصل بالدين.
بل يوجد في كثير من كتب الحديث أقوالٌ صادرة عن بعض التابعين.
وكذلك نرى المؤلفين في غريب الحديث يوردون ألفاظاً من أقوال رسول الله” أو أقوال الصحابة، أو أقوال بعض التابعين كعمر بن عبدالعزيز .
وهذه الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين، ومتى جاءت من طريق المحدثين تأخذ حكم الأقوال المرفوعة إلى رسول الله “من جهة الاحتجاج بها في إثبات لفظ لغوي، أو قاعدة نحوية.
هل في الحديث ما لا شاهد له في كلام العرب؟
يرد في الحديث ألفاظ لا يعرف لها علماء اللغة شاهداً في كلام العرب، وتَرِدُ بعض الألفاظ على وجه من الاستعمال لا يعرف إلا من الحديث.
وكثيراً ما يقول شراح غريب الحديث _ وهم جهابذة علماء اللغة _: هذا اللفظ لم يجئ إلا في الحديث، ولم نسمعه إلا فيه.
وقال أبو بكر محمد بن قاسم الأنباري أحد المؤلفين في غريب الحديث: وكذلك أشياء كثيرة لم تسمع إلا في الحديث().
وتكلم أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني في كتاب الغريب عن الألفاظ التي لم ترد إلا في بعض روايات الحديث فقال: وإنما أورد نحو هذه الألفاظ؛ لأن الإنسان إذا طلبه لم يجده في شيء من الكتب، فيتحير، فإذا نظر في كتابنا عرف أصله ومعناه.
ومن أمثلة هذا النوع كلمة إستارة وردت في حديث أيما رجل أغلق بابه على امرأته وأرخى دونها إستارة فقد تم صداقها.
لقد قال شراح الغريب: لم تستعمل إستارة إلا في هذا الحديث().
ومن أمثلته كلمة أفلج من الفلج أي تباعد ما بين الثنايا؛
فقد وردت في وصف ابن أبي هالة للنبي ” غير مضافة إلى الأسنان،
وابن دريد وصاحب القاموس يقولان: لا يقال رجل أفلج إلا إذا ذكر معه الأسنان.
الخلاف في الاحتجاج بالحديث:
ذهب جماعة من النحاة إلى أن الحديث لا يستشهد به في اللغة، أي لا يستند إليه في إثبات ألفاظ اللغة ولا في وضع قواعدها،
ومن هذه الجماعة أبو الحسن علي بن محمد الأشبيلي المعروف بابن الضائع، وأثير الدين محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان،
وزعم أبو حيان أنه مذهب المتقدمين والمتأخرين من علماء العربية،
فقال في شرح كتاب التسهيل: إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه، من أئمة البصريين،
والكسائي، والفراء، وعلي بن مبارك الأحمر، وهشام الضرير، من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك _ أي لم يحتجوا بالحديث _
وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس.
وأجاز قوم الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعدوه في الأصول التي يرجع إليها في تحقيق الألفاظ، وتقرير القواعد.
وممن عرف بهذا المذهب محمد بن عبدالله المعروف بابن مالك، وعبدالله بن يوسف المعروف بابن هشام.
وممن انتصر لهذا المذهب البدر الدماميني في شرحه للتسهيل، والعلامة ابن الطيب في شرحه لكتاب الاقتراح،
وفي شرحه لكفاية المحتفظ المسمى بتحرير الرواية.
وعُدَّ من أصحاب هذه المذاهب الجوهري، وابن سيدة، وابن فارس، وابن خروف، وابن جني، وابن بري، والسهيلي،
حتى قال: لا نعلم أحداً من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل، وأبو الحسن الضائع في شرح الجمل،
وتابعهما على ذلك الجلال السيوطي.
وجهة نظر المانعين:
قالوا: لا يستشهد بالحديث؛ لعدم الوثوق بأن ذلك لفظ رسول الله ”
وانتفت الثقة من أنه لفظ الرسول لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى؛
فتجد القصة الواحدة قد جرت في زمانه “فتنقل بألفاظ مختلفة، كحديث: زوجتكها بما معك من القرآن
وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن
وفي ثالثة: خذها بما معك من القرآن+ وفي رابعة: أمكناكها بما معك من القرآن.
نعلم يقيناً أنه “لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم بأنه قال بعضها،
إذ يحتمل أنه قال لفظاً آخر مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتى الرواة بالمراد منه، ولم يأتوا بلفظه؛ إذ المطلوب إنما هو نقل المعنى.
وأضافوا إلى هذا أن الرواة لم يكونوا يضبطون الحديث بالكتابة؛ اتكالاً على الحفظ،
وأن الضابط منهم من يحتفظ بالمعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جدَّاً ولا سيما ألفاظ الأحاديث الطويلة.
ثانيهما: أنه وقع اللحن في كثير مما روي من الأحاديث؛
لأن كثيراً من الرواة لم ينشأوا في بيئة عربية خالصة حتى يكونوا عرباً بالفطرة،
بل كانوا قد تعلموا العربية الفصحى من طريق صناعة النحو.
وجهة نظر المجوزين:
يستند هؤلاء إلى الإجماع على أنه “أفصح العرب لهجة كما قال ابن حزم في كتاب الفصل منكراً على من لم يجعلوا الحديث حجة في اللغة:
لقد كان محمد ابن عبدالله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة أعلم بلغة قومه وأفصح؛
فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه.
وقالوا: إن الأحاديث أصح سنداً مما ينقل من أشعار العرب كما قال صاحب المصباح بعد أن استشهد بحديث:
من أثنيتم عليه بشر وجبت
على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر:
قد نقل هذا العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب؛ فكان أوثق من نقل أهل اللغة؛ فإنهم قد يكتفون بالنقل عن واحد ولا يعرف حاله.
وقد عرفت أن المانعين من الاحتجاج بالحديث معترفون بأن الرسول ” أفصح العرب لساناً، وأبرعهم بياناً،
ولا ينازعون في أن أسانيد الأحاديث أقوى من أسانيد الأشعار، وإنما استندوا في المنع إلى أن الأحاديث قد تروى بالمعنى،
بخلاف شعر العرب أو منثورهم فإن رواته اعتنوا بألفاظه؛ لأن الغرض من روايته تقرير أحكام الألفاظ.
قال ابن الضائع في شرح الجمل:
لولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان أولى وأثبت في إثبات فصيح اللغة كلام رسول الله “.
وأظهر وجه يورده المجيزون أن الأصل رواية الحديث الشريف على نحو ما سمع،
وأن أهل العلم قد شددوا في ضبط ألفاظه والتحري في نقله ولهذا الأصل تحصل غلبة الظن بأن الحديث مروي بلفظه.
وهذا الظن كافٍ في إثبات الألفاظ اللغوية، وتقرير الأحكام النحوية.
مناقشتهم لأدلة المانعين
يقول المانعون:
إن الرواة كانوا ينقلون الأحاديث بالمعنى؛ فلا ثقة لنا من أن اللفظ الذي روي به الحديث هو لفظ رسول الله “.
وأجاب المجيزون على هذا بأن كثيراً من المحدثين والفقهاء والأصوليين قد ذهبوا إلى منع رواية الحديث بالمعنى،
ومن أجازوا الرواية بالمعنى شرطوا لذلك أن يكون الراوي على علم بما يغير المعنى أو ينقصه، وأن يكون محيطاً بمواقع الألفاظ،
بل قال بعضهم: شرطه أن يحيط بدقائق علم اللغة، وأن تكون المحسنات الفائقة على ذكر منه؛
فيراعيَها في نظم كلامه على أن المجيزين للرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هي الأولى،
وإذا كانت الرواية بالمعنى ليست في رأيهم سوى رخصة فإنهم لا يحتجون لها إلا في حال ضرورة،
وأضافوا إلى هذا أن النقل بالمعنى إنما أجازه من أجازه في غير ما لم يدون في الكتب،
أما ما دون في الكتب فلا يجوز التصرف فيه بوجه، وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل أن تفسد اللغة،
وإذا كان قد وقع في الأحاديث المدونة نقل بالمعنى فإنما هو تصرف ممن يصح الاحتجاج بأقوالهم.
وإليك ما قاله البدر الدماميني وما حكاه عن شيخه ابن خلدون في الرد على من يمنعون الاستشهاد بالحديث،
قال في حواشيه على المغني: أسقط أبو حيان الاستدلال على الأحكام النحوية بالأحاديث النبوية باحتمال رواية من لا يوثق بعربيته إياها بالمعنى،
وكثيراً ما يعترض على ابن مالك في استدلاله بها،
ورده شيخنا ابن خلدون بأنها على تسليم أنها لا تفيد القطع بالأحكام النحوية تفيد غلبة الظن بها؛
لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في ضبط ألفاظها، والتحري في نقلها بأعيانها مما شاع بين الرواة.
والقائلون منهم بجواز الرواية بالمعنى معترفون بأنها خلاف الأولى،
وغلبة الظن كافية في مثل تلك الأحكام بل في الأحكام الشرعية؛ فلا يؤثر فيها الاحتمال المخالف للظاهر،
وبأن الخلاف في جواز النقل بالمعنى في غير ما لم يُدَوَّنْ في كتب.
الأحاديث المدونة
أما ما دُوِّنَ فلا يجوز تبديل ألفاظه بلا خلاف كما قاله ابن الصلاح() وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية،
وحين كان كلام أولئك _ على تقدير تبديلهم _ يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ يحتج به بآخر كذلك،
ثم دُوِّن ذلك البدل، ومُنِع مِنْ تغييره ونقله بالمعنى، فبقي حجة في بابه صحيحة،
ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق في استدلالهم بالمتأخر.
وقد ناقش بعض شارحي() كتاب الاقتراح ابن خلدون، فقال: إن تدوين الأحاديث وقع بعد فساد اللغة.
وقال: لم يحصل التدوين إلا في عصر التابعين، ووقع يومئذ الاختلاط في اللغة،
والرواية بالمعنى لم تقف عند حد من يتكلم بالعربية سليقة.
ولا يسعنا أمام دعوى ابن خلدون ومناقشة هذا الشارح له، إلا أن نقول كلمة في تاريخ تدوين الحديث،
ونتحدث عن العهد الذي وقع فيه فساد اللغة؛ لعلنا نهتدي إلى ما يفيدنا في أصل البحث بحث الاستشهاد بالحديث في اللغة.
الواقع أن أصل كتابة الحديث وقع في عهد النبي “.
وممن كان يكتب الحديث عبدالله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان أكثر جمعاً للحديث من أبي هريرة.
أما تدوينه في كتب فقد وقع بأمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز المتوفى سنة 101هـ،
ومن المروي في الصحيح أنه كتب إلى أهل الآفاق أن انظروا ما كان من حديث رسول “أو سنته فاجمعوه أو فاكتبوه.
وأول من دَوَّن الحديث محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124هـ
والمعروف أنه كان يروي عن الصحابة مثل عبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وسهل ابن سعد الساعدي.
وقيل إن أول من دَوَّن الحديث الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160هـ، وسعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة 156هـ.
ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري كمالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة.
كتابة الحديث
وكان كثير من رواة الحديث في هذا العهد يكتبون الأحاديث عند تلقيها، ولا يكتفون بحفظها عن ظهر القلب؛
فإنا نجد في تاريخ طائفة منهم أن لهم كتباً كانوا يرجعون إليها عند الرواية.
ونجد في تاريخ من يروون عن أمثال الزهري إن في مخلفاتهم أجزاءاً كثيرة تحتوي أحاديث أخذوها عن أولئك الأئمة.
وكتابة الحديث تساعد على روايته بلفظِه، وحِفْظُه عن ظهر القلب يبعده من أن يدخله غلط أو تصحيف.
ويصل بنا البحث إلى مصنفات الطبقة التي جاءت بعد طبقة مالك وابن جريج قد بلغت الغاية في جمع الأحاديث،
وفي ذلك العهد صنفت مسندات كثيرة كمسند أسد بن موسى الأموي المتوفى سنة 212هـ،
ومسند عبيدالله بن موسى العيسى المتوفى سنة 213هـ،
ومسند نعيم بن حماد الخزاعي المتوفى سنة 228هـ، ومسند أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ.
وجاء بعد هؤلاء أصحاب الكتب الستة، وأولهم البخاري المولود سنة 194هـ وآخرهم النسائي المولود سنة 215هـ.
وما في الكتب الستة أو معظمه كان مدوناً في الكتب المصنفة من قبل.
ذكر الحافظ ابن حجر مصنفات أئمة الحديث في الصدر الأول وقال:
فلما رأى البخاري هذه المصنفات، ورواها وجدها بحسب الوضع جامعة، فألف كتابه مقتصراً على الصحيح.
وإذا رأينا أن البخاري يقول في كتابه: حدثنا فلان، فهذا لا يمنع من أن يكون الحديث مدوناً في كتاب؛ فإنهم كانوا _ كما عرفت _ آنفاً لا يستغنون بالكتابة عن الحفظ،
وربما قال الراوي: أملى علينا فلان كذا وكذا حديثاً من حفظه، ثم قرأها علينا من كتابه.
وهذه النظرة التاريخية تدلنا على أن ابتداء تدوين الحديث كان في أوائل القرن الثاني،
وأنه لم يمض القرن الثاني حتى قيد معظم الأحاديث بالكتابة والتدوين.
أثر فساد اللغة
ولننظر بعد هذا إلى حال اللغة من جهة ما دخلها من الفساد، وننظر ما يكون لهذا الفساد من أثر في رواية الحديث.
أخذ الفساد يدخل اللغة منذ وصلت الفتوح الإسلامية العرب بالعجم،
وأسرع إلى ألسنة طائفتين من أبناء العرب أو الناشئين في بيئتهم: طائفةٍ كانت أمهاتهم من الأعاجم،
وطائفةِ العامة الذين يسكنون الأمصار، وتكثر مخالطتهم للأعاجم.
وظهر اللحن بجلاء في أواخر عهد الدولة الأموية، وكان انقراضها سنة 132هـ.
وبقي بجانب هاتين الطائفتين فريقان:
سكان الجزيرة البعيدون عن مخالطة الأعاجم مخالطة تمس فصاحتهم بسوء،
وأبناء الخاصة من سكان الأمصار الذين لم تكن أمهاتهم من الأعاجم.
أما سكان الجزيرة فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن الرابع،
وأما الخاصة من سكان المدن فبقوا على فصاحة اللهجة مدةً في أوائل عهد الدولة العباسية.
وذكر الباحثون في طبقات الشعراء أن إبراهيم بن هرمة آخر من يحتج بشعرهم،
وقد توفي في خلافة الرشيد بعد الخمسين والمائة بقليل.
والذين نشأوا في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة انتشاراً يرفع الثقة بفصاحة لهجتها يوثق بأقوالهم ولو تأخروا عن منتصف القرن الثاني،
كالإمام الشافعي؛ فإنه ولد سنة 150هـ ولكنه نشأ في بيئة عربية وهي مكة،
فيصح الاستشهاد بما يستعمله من الألفاظ، قال الإمام أحمد: كلام الشافعي حجة في اللغة.
وقال الأزهري في إيضاح ما استشكل من مختصر المزني:
ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة، ومن عجمة المولدين مصونة.
وإذا عدنا إلى قول ابن خلدون: وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية،
وحين كان كلام أولائك _ على تقدير تبديلهم _ يسوغ الاحتجاج به وعرضناه على التاريخ _ وجدنا التدوين وقع بعد أن دخل الفساد في اللغة،
ولكن من المدونين من يحتج بأقواله؛ لأنه نشأ في بيئة عربية كالزهري ومالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج.
ومنهم من نشأوا في بيئة غير عربية، أو عربية انتشر فيها الفساد، وصارت العربية الفصحى فيها إنما تدرك من طريق التعلم.
تدوين الأحاديث وفساد اللغة
فدعوى أن الأحاديث دونت قبل فساد اللغة، وأن كلام المدونين لها يسوغ الاحتجاج به في اللغة _ غير مطابقة للتاريخ من كل وجه،
ولو تمت على نحو ما قرره ابن خلدون لقامت بها الحجة الفاصلة على الاستشهاد بالحديث في اللغة من غير حاجة إلى شيء آخر يعضدها.
والذي نستفيده من حقائق التاريخ أن قسماً كبيراً من الأحاديث دوَّنه رجال يحتج بأقوالهم في العربية،
وأن كثيراً من الرواة كانوا يكتبون الأحاديث عند سماعها،
وذلك مما يساعد على روايتها بألفاظها؛ فيضاف هذا وذاك إلى ما وقع من التشديد في رواية الحديث بالمعنى،
وما عرف من احتياط أئمة الحديث وتحريهم في الرواية؛
فيحصل الظن الكافي لرجحان أن تكون الأحاديث المدونة في الصدر الأول مروية بألفاظها ممن يحتج بكلامه.
وأما قول المانعين:
إنه وقع اللحن في كثير من الأحاديث فيجاب عنه بأن كثيراً مما يُرى أنه لحن قد ظهر له وجه من الصحة،
وقد ألف في هذا الباب ابن مالك كتابه التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح وذكر للأحاديث التي يشكل إعرابها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربي الصحيح،
وكثيراً ما نرى ألفاظاً من الحديث ينكرها بعض اللغويين،
فيأتي لغوي آخر فيذكر لها وجهاً مقبولاً، أو يسوق عليها شاهداً صحيحاً.
ثم إن وجود ألفاظ غير موافقة للقواعد المتفق عليها لا يقتضي ترك الاحتجاج بالحديث جملة،
وإنما يحمل أمرها على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة.
وإذا وقع في رواية بعض الأحاديث غلط أو تصحيف فإن الأشعار يقع فيها الغلط والتصحيف، وهي حجة من غير خلاف.
قال محمد بن سلام: وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله.
وأبو أحمد العسكري الذي ألف كتاباً في تصحيف رواة الحديث قد ألف كتاباً فيما وقع من أصحاب اللغة والشعر من التصحيف.
المتقدمين من علماء العربية لا يحتجون بالحديث
أما قول أبي حيان: إن المتقدمين من علماء العربية لا يحتجون بالحديث فأجاب عنه المجيزون بأن علماء العربية في العهد الأول لم يتعاطوا رواية الحديث،
فعلماء الحديث غير علماء العربية()،
ثم إن دواوين الحديث لم تكن مشتهرة في ذلك العهد،
ولم يتناولها علماء العربية كما يتناولون القرآن الكريم،
وإنما اشتهرت دواوينه ووصلت إلى أيدي جمهور أهل العلم من بعد؛
فإن سلمنا عدم احتجاجهم بالحديث فلعدم انتشاره بينهم لا لأنهم يمنعون الاحتجاج به،
على أن كُتُبَ الأقدمين الموضوعة في اللغة لا تكاد تخلو من الاستدلال على إثبات الكلمات بألفاظ الحديث،
واللغة أخت النحو كما صرحوا به.
وكذلك نرى الإمام اللغوي أبا منصور الأزهري المولود سنة 282هـ يعتمد في كتابه (التهذيب) على الأحاديث،
ويكثر من الاستشهاد بها.
وأما ما ادعاه أبو حيان من أن المتأخرين من نحاة الأقاليم تابعوا المتقدمين في عدم الاحتجاج بالحديث _
فمردود بأن كتب النحاة من أندلسيين وغيرهم مملوءة بالاستشهاد بالحديث.
وقد استدل بالحديث الشريف: الصِّقلي، والشريف الغرناطي في شرحيهما لكتاب سيبويه،
وابن الحاج في شرح المقرب، وابن الخباز في شرح ألفية ابن معطي، وأبو علي الشلوبين في كثير من مسائله.
وكذلك استشهد بالحديث السيرافي، والصفار في شرحيهما لكتاب سيبويه،
وقال ابن الطيب: بل رأيت الاستدلال بالحديث في كلام أبي حيان نفسه .
وقد عرفت أن مذهب البدر الدماميني صحة الاستشهاد بالحديث،
وقد جرى على مذهبه في شرحه للمغني والتسهيل والبخاري.
تفصيل وترجيح:
من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج به في اللغة، وهو ستة أنواع:
أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته _ عليه الصلاة والسلام _:
كقوله: حمي الوطيس وقوله: مات حتف أنفه وقوله: الظلم ظلمات يوم القيامة
إلى نحو هذا من الأحاديث القصار المشتملة على شيء من محاسن البيان
كقوله: مأزورات غير مأجورات وقوله: إن الله لا يمل حتى تملوا .
ثانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها، أو أمر بالتعبد بها؛
كألفاظ القنوت والتحيات، وكثير من الأذكار، والأدعية التي كان يدعو بها في أوقات خاصة.
ثالثها: ما يروى شاهداً على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم:
ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة لرواية الحديث بلفظه.
رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها؛
فإن اتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها.
والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي “أو إلى الصحابة أو التابعين الذين ينطقون الكلام العربي فصيحاً.
خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة؛
كمالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج، والإمام الشافعي.
سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى:
مثل ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وعلي بن المديني.
ومن الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في عدم الاحتجاج به،
وهي الأحاديث التي لم تدون في الصدر الأول، وإنما تروى في بعض كتب المتأخرين.
ولا يحتج بهذا النوع من الأحاديث سواء أكان سندها مقطوعاً أم متصلاً،
أما مقطوعة السند فوجه عدم الاحتجاج بها واضح، وأما متصلة السند فلبعد مدونها عن الطبقة التي يحتج بأقوالها.
وإذا أضيفت كثرة المولدين في رجال سند الحديث إلى احتمال أن يكون بعضهم قد رواه بالمعنى أصبح احتمال أن تكون ألفاظه ألفاظ النبي _
عليه الصلاة والسلام _ أو ألفاظ راويه الذي يحتج بكلامه قاصراً عن درجة الظن الكافي لإثبات الألفاظ اللغوية أو وجوه استعمالها.
ألفاظ الحديث
والحديث الذي يصح أن تختلف الأنظار في الاستشهاد بألفاظه هو الحديث الذي دون في الصدر الأول،
ولم يكن من الأنواع الستة المنبه عليها آنفاً، وهو على نوعين:
(حديث) يرد لفظه على وجه واحد،
(وحديث) اختلفت الرواية في بعض ألفاظه.
أما الحديث الوارد على وجه واحد، فالظاهر صحة الاحتجاج به، نظراً إلى أن الأصل الرواية باللفظ،
وإلى تشديدهم في الرواية بالمعنى، ويضاف إلى هذا قلة عدد من يوجد في السند من الرواة الذين لا يحتج بأقوالهم؛
فقد يكون بين البخاري ومن يحتج بأقواله من الرواة واحد أو اثنان وأقصاهم ثلاثة.
ومثال هذا النوع أن الحريري أنكر على الناس قولهم قبل الزوال: سهرنا البارحة،
قال: وإنما يقال: سهرنا الليلة، ويقال بعد الزوال: سهرنا البارحة.
والشاهد على صحة ما يقوله الناس حديث أن النبي “كان إذا أصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟
وحديث: وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول عملت البارحة كذا .
ففي قوله: إذا أصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة
وقوله: ثم يصبح فيقول: عملت البارحة _ شاهد على صحة أن يقول الرجل متحدثاً عن الليلة الماضية وهو في الصباح: سهرنا البارحة،
أو وقع البارحة كذا.
وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية فإنا نرى من يستشهدون بالأحاديث من اللغويين والنحاة لا يفرقون بين ما روي على وجه واحد،
وما روي على وجهين أو وجوه.
ويمكننا أن نفصل القول في هذا النوع؛
فنجيز الاستشهاد بما جاء في رواية مشهورة لم يغمزها بعض المحدثين بأنها وهم من الراوي
مثل كلمة ممثل وردت في أشهر رواية الحديث قام النبي ” ممثلاً أي منتصباً،
والمعروف في كلام العرب إنما هو ماثل من مثل كنصر وكرم.
الروايات الشاذة
وأما ما يجيء في رواية شاذة أو في رواية يقول فيها بعض المحدثين إنها غلط من الراوي _ فنقف دون الاستشهاد بها،
ومثال هذا كلمة ناعوس وردت في إحدى روايات حديث إن كلماته بلغت ناعوس البحر
ووردت في بقية الروايات قاموس البحر أو وسطه ولجته.
وكلمة ناعوس غير معروفة في كلام العرب.
قال أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني أحد المؤلفين في غريب الحديث:
فلعل الراوي لم يجود كتب كلمة قاموس .
وأضعف من هذا أن تجيء الكلمة غير المعروفة في اللغة في صورة الشك من الراوي
ككلمة خطيط وردت في حديث: ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه
قال ابن بطال: لم أجد كلمة خطيط بالخاء عند أهل اللغة.
وخلاصة البحث:
أنا نرى الاستشهاد بألفاظ ما يروى في كتب الحديث المدونة في الصدر الأول وإن اختلفت فيها الرواية،
ولا نستثني إلا الألفاظ التي تجيء في رواية شاذة أو يغمزها بعض المحدثين بالغلط أو التصحيف غمزاً لا مرد له،
ويشد أزرنا في ترجيح هذا الرأي أن جمهور اللغويين وطائفة عظيمة من النحويين يستشهدون بالألفاظ الواردة في الحديث ولو على بعض رواياته.
الهامش :
() بحث قدمه المؤلف إلى مجمع اللغة العربية، ونشر في الجزء الثالث من مجلة المجمع،
وانظر رسائل الإصلاح 2/53_66، وهذا البحث من أحسن وأبدع ما كتب في هذا الموضوع في القديم وفي الحديث(م).
(1) النهاية لابن الأثير في مادة هرو .
()2 النهاية لابن الأثير في مادة ستر .
(3) قال أهل العلم بالحديث: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا بقولك: حدثنا، ونحوه.
(4) هو ابن علان، وتوجد نسخة من شرحه بالمكتبة التيمورية.
(5) من علماء العربية من كانوا يعدون في رواة الحديث،
مثل أبي عمرو بن العلاء، وعيسى ابن عمر الثقفي، والنضر بن شميل المازني، والخليل بن أحمد، والقاسم بن سلام، وعبدالملك بن قريب الأصمعي، والرياشي.