Site icon حديقة المقالات

الطب في نظر الإسلام للشيخ العلامة محمد الخضر الحسين

الطب في نظر الإسلام

الطب في نظر الإسلام للشيخ العلامة محمد الخضر الحسين، عن أهمية الطب ، ودأب الخلفاء والأمراء في تاريخ الإسلام وعنايتهم بالطب والأطباء. من حيث اتخاذ الأطباء والاهتمام بكتب الطب وإنشاء المعاهد والمدارس وحماية مهنة الطب من المتطفلين عليها ، الرأي الشرعي في الطب والتداوي ، وهل الطب النبوي يؤخذ باعتباره وحياً أم من العادات كل ذلك وغيره تطرق له الكاتب الجزل في هذا المقال الذي جاء في 2880 كلمة و 188 فقرة ، يستغرق للقراءة 16 دقيقة و 14 ثانية 

الطب في نظر الإسلام للشيخ العلامة محمد الخضر الحسين

الطب في نظر الإسلام (1)

الشيخ محمد الخضر حسين

عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق _ جلَّ شأنه _ ويوجِّه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال،

وهو _ إن عُدَّ التوكلُ والتفويضُ إلى الله في جملة آدابه _ لم يهمل النظر في الأسباب وارتباطها بمسبباتها؛

فأَذِنَ بل أمر بتعاطي ما دلَّتْ العقول والتجارب على أنه مجلبة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه مجلبة شر.

والتوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ما شدَّ أحدهما بعضد الآخر؛ التوكل أدب نفسيٌّ يُبْتَغى به رضا الخالق ومعونَتُه،

والأخذُ بالأسباب عملٌ يجري على سنن الله في الخليقة؛ فمن وكَّل أمرَه إلى الله، ثم تعاطى أسبابه وصل إليه من أرشد الطرق، وعاد منه بأحسن العواقب.

والطبُّ إنما هو من قِبَل(2) الأسباب التي أذن الإسلام في تعاطيها، وهو من أشرف الصناعات.

وشرفُ الصناعة على قدر ما يترتب عليها من نفع الأمة، وتقويم أود حياتها.

ونَفْعُ الطبِّ في حماية الناس أو إنقاذهم من كثير من المهالك أمرٌ جليٌّ لا يحتاج إلى بسط واستدلال.

ولا جرم أن يتجه الإسلام بشيء من العناية إلى الطب؛

ذلك أنه يريد من الأمة أن تكون عزيزة الجانب مهيبة السلطان حتى تستطيع أن تنفذ ما أمر الله به من إصلاح، وتتحامى ما نهى عنه من فساد.

وإنما يعزُّ جانبها، ويهاب سلطانها متى كانت كثيرة العدد، قوية الأيدي، والطبُّ من أهم الوسائل إلى كثرة النسل وقوة الأجسام.

ومن المعروف أنَّ في سلامة الأجسام معونةً على انتظام الأفكار، وسداد الآراء،

وسماحة الأخلاق، وإنما تتفاضل الأمم برجاحة عقولها، واستقامة أخلاقها.

وإذا تحدثنا عن الطب في هذه المحاضرة، فإنما نقصد إلى معالجة الأمراض الحاصلة في الحال،

ووقاية الأبدان من أن تُصاب بها في المستقبل، وذلك ما يُدعى بحفظ الصحة، وكذلك قال جالينوس: الطب حفظ الصحة، وإزالة العلة.

الطب في نظر الإسلام : حِفْظُ الصحة لا مداواة المرضى:

لما دخل عضدُ الدولة بغداد دخل عليه من الأطباء أبو الحسنِ الحرَّانيُّ وسنانُ ابن ثابت،

فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأطباء، قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم،

فقال له سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حِفْظُ الصحة لا مداواة المرضى،

والملك أحوج الناس إلى حفظ الصحة، فقال عضد الدولة: صدقت، وقرر لهما الجاري السنوي، وقرَّبهما إلى مجلسه في طائفة من الأطباء.

رفع الإسلام من شأن الطب: مداواة العلل، وحفظ الصحة، وعرف هذا من القرآن الكريم، وأقوال النبي”” وسيرته.

أما القرآن الكريم فقد أذن في ترك بعض الفرائض متى كان القيام بها يؤثر في الصحة بإحداث مرض، أو زيادته، أو تأخر برئه،

وشرعَ في أحد هذه الأحوال التيمم بدل الوضوء أو الغسل، كما أذن للمريض والمسافر أن يترك كلٌّ منهما الصيامَ الواجبَ،

ويقضيَ المريضُ الأيامَ التي أفطر فيها عندما تعود إليه صحته، كما يقضي المسافر أيام إفطاره عندما ينقطع سفره،

قال _ تعالى _: [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](البقرة:184).

والإذن في الفطر للمسافر من قبيل حفظ الصحة؛ فإن السفر مَظِنةُ التعب، والتعب من مغيِّرات الصحة،

فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب، فيزداد تغير الصحة.

وحرَّم الإسلام الدمَ ولحمَ الخنزير والميتة وما ألحق بها من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع.

وسرُّ هذا التحريم أنها مؤثرة في الصحة، كما بيَّن هذا الأطباء في القديم والحديث،

وقد تحدَّث الأطباء في هذا العصر عن مضارها من جهة الصحة بأوسع بيان.

وحرَّم القرآن مباشرة الحائض، وقد بسط الأطباء _ أيضاً _ في مضار هذه المباشرة بها من جهة الصحة مما يدل على أنه تحريم شارع حكيم.

وحرَّم القرآن الخمر والزنا، ولهذه المحرمات مضار صحية علاوة على المضار الاجتماعية، وكذلك فعل الأطباء اليوم.

فكشفوا القناع عن هذه المضار الصحية، فنترك الكلام عن هذه المضار لحضرات الأطباء المحققين.

الطب في نظر الإسلام : استدلالات شرعية:

في الكشاف: يُحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق،

فقال لعلي ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان،

فقال له: قد جمع الله الطبَّ في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]الأعراف:31.

أما أقواله _ عليه الصلاة والسلام _ فمنها ما رواه مالك في موطَّئه عن زيد ابن أسلم أن رجلاً في زمن النبي”صلى الله عليه وسلم” جرح، فاحتقن الدم،

وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فقال لهما رسول الله”صلى الله عليه وسلم”: أيكما أطب

فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء .

وعن هلال بن يسار أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” دخل على مريض يعوده،

فقال: أرسلوا إلى طبيب فقال قائل: وأنت تقول يا رسول الله؟

قال: نعم إن الله _عز وجل_ لم يُنزل داءاً إلا أنزل له دواءاً .

ونهى عن التنفس والنفخ في إناء الشراب أو الطعام؛ حتى لا يتناول الإنسان الطعام أو الشراب وقد مازجه ما لا خير في امتزاجه به.

وأما سيرته _ عليه الصلاة والسلام _ فإنه كان يتعاطى بعض الأدوية،

كما تداوى للجرح الذي أصابه في غزوة أحد، وأذن في الاحتجام عند تَبَوُّغ(3) الدم،

واحتجم في الأخدُعينِ والكاهل، وثبت في الصحيح أنه بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً، وكواه عليه،

وجاء في الحمية أنه _ عليه الصلاة والسلام _ رأى علي بن أبي طالب يأكل عنباً فقال له: مه مه يا علي؛ فإنك ناقِهٌ.

ومما جاء في الوقاية نهيه _ عليه الصلاة والسلام _ عن الإقدام على أرض فشا فيها الوباء

فقال: إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها ، وفي رواية: فلا تقدموا عليها .

الطب في نظر الإسلام : وصايا نبوية طبية:

ومما جاء من هذا القبيل تحذيره _ عليه الصلاة والسلام _ من مخالطة بعض ذوي الأمراض السارية كالجرب والجذام،

وقال: فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد .

قال ابن خلدون: وللبادية من أهل العمران طبٌّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص،

متوارث عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج.

وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث ابن كلدة وغيره،

والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عادياً للعرب،

ووقع في ذكر أحوال النبي “صلى الله عليه وسلم” من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلَّة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛

فإنه “صلى الله عليه وسلم” إنما بُعث ليعلمَنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات،

وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم .

فلا ينبغي أن يحمل شيء في الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع؛

فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع .

وذهب ابن القيم في زاد المعاد غير هذا المذهب فقال: وليس طبُّه “صلى الله عليه وسلم” كطبِّ الأطباء؛

فإنَّ طبَّ النبي “صلى الله عليه وسلم” متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي،

ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطبُّ غيرِه أكثره حدسٌ وظنون وتجارب.

ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة؛ فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به،

وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان؛ فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق بهذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور .

ثم قال: فطبُّ النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أنَّ شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، والقلوب الحية . (301)

الطب في نظر الإسلام : الطبَّ النبوي لا يلزم أن يكون وحياً:

ونحن نرى أنَّ الطبَّ النبوي لا يلزم أن يكون وحياً،

ولكن ما يقوله النبي “صلى الله عليه وسلم” في هذا الشأن لابد أن يكون صحيحاً كبقية المسائل الطبية المشهود بصحتها في علم الطب،

وننبه هنا على بعض أحاديث طبية تنسب إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” ونسبتها غير ثابتة،

منها حديث: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء يورده بعضهم مرفوعاً إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” ولم يثبت هذا عند المحدِّثين،

بل قالوا: هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو كلام غيره.

ومنها حديثه: البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوِّدوا كلَّ بدن ما اعتاد أورده الغزالي في الإحياء، وقال المحدِّثون: ليس له أصل.

ومنها حديث: المعدة حوض البدن، والعروق إليه واردة،

فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم .

ولا يعرف هذا من كلام النبي “”، وإنما هو من كلام عبدالملك بن سعيد ابن الحارث.

وأدرك الفقهاء رعاية الدين لحفظ الصحة والطب، فبنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايتها؛ فتراهم يفتون بمداواة الأجنبي للمرأة عند الضرورة،

وإن اقتضى العلاج أن يطلع على ما لا يباح الاطلاع عليه.

وأفتوا بقبول قول الطبيب في كثير من الوقائع، والاعتماد عليه في القضايا نحو الجنائيات،

ومن هنا نشأ ما يُسمَّى في هذا العصر بالطب الشرعي، ويسميه بعض علماء الهند بالطب الحكمي،

وقالوا في تعريفه: هو المعارف الطبية والطبيعية المستعملتان في الأحكام الواقعة بين الناس.

وفي أمثال هؤلاء يقول بعضهم:

أعمى وأفنى ذا الطبيبُ بكحله

ودوائه الأحياءَ والبصراءَ

فإذا رأيت رأيت من عميانه

أمماً على أمواته قرّاء

وأجمع الفقهاء على أنَّ الطبيبَ الماهرَ إذا عالج مريضاً فأخطأ في اجتهاده،

وتولد من معالجته تلف عضو أو نفس أو ذهاب صفة _ فلا ضمان عليه، بخلاف المتطبب الذي لم يتقدم له معرفة بالطب يقدم على معالجة عليل،

فيترتب على علاجه تلف عضو أو نفس، فإنه يضمن(4).

ويعللون بعض الأحكام الشرعية بوجوه ترجع إلى حفظ الصحة.

الطب في نظر الإسلام : تعليل أحكام الطب النبوي:

أمر النبي “صلى الله عليه وسلم” بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب،

فذكر الفقيه ابن رشد في تعليل هذا الحكم فقال: ليس من سبب النجاسة،

بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كَلِباً، فيخاف من ذلك السم .

قال الحفيد: وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إنَّ الكَلْبَ الكَلِبَ لا يقرب الماء حين كلبه قال:

وهذا الذي قالوه عند استحكام هذه العلة بالكلاب لا في مبادئها، وفي أول حدوثها؛ فلا معنى لاعتراضهم .

وقال طائفة من محققيهم: إن المجذومين إذا كثروا يمنعون من المساجد والمجامع،

ويتخذ لهم مكان ينفردون به عن الأصحاء، ويجري هذا الحكم في الجرب،

وبعض أنواع الحمى التي يقرر الأطباء أنها أمراض سارية.

وعرف علماء الشريعة فضل صناعة الطب، وأنها من الأعمال التي تُكْسب حمداً؛

فأنفقوا فيها جانباً من أنظارهم وأوقاتهم، وأضافوها إلى علومهم الشرعية.
ومن هؤلاء العلماء رجال بلغوا في علوم الشريعة الذروة،

منهم الإمام أبوالحسن علي سيف الدين الآمدي، وأبو عبدالله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، والإمام أبو عبدالله المعروف بالمازري؛

فقد كان هذا العالم كما قال في ترجمته: يُفْزَعُ إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى في الفقه،

والفيلسوف محمد ابن أحمد بن رشد، وهو مؤلف بداية المجتهد في الفقه، وكتاب الكليات في الطب،

والعلامة موفق الدين عبدالمطلب البغدادي، فقد كان يجمع بين الفقه والطب.

وظهرت عناية العلماء بهذه الصناعة في الإقبال على تدريسها والتأليف فيها.

الطب في نظر الإسلام : عناية الأمراء بالأطباء:

وعني أمراء الإسلام بالطب، ولهذه العناية أربعة مظاهر:

أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم، وإسعادهم بالأرزاق الواسعة، والمناصب العالية،

فقد نال عبدالملك بن أبحر الكناني لدى عمر بن عبدالعزيز حظوة، وكان عمر يستطبه، ويعتمد عليه في صناعة الطب،

ونال ابن أثال حظوة عند معاوية بن أبي سفيان، فكان معاوية يستطبه، ويحسن إليه، ويكثر من محادثته.

ومن عناية سيف الدولة بالأطباء أنه كان يَحْضُر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً،

وقد يبلغ الطبيب أن يكون رفيع الشأن في دولة، فإذا تغيرت وقامت دولة أخرى مكانها استمرت منزلته في رفعة واحترام،

كأبي بكر بن زهير؛ كان ذا حظوة في دولة المرابطين بالمغرب، ولما خلفتها دولة الموحدين لقي من هذه الدولة _ أيضاً _ الإقبال والإكرام.

أما إحرازهم المناصب العالية، فقد تولى الطبيب رفيع الدين الحلبي منصب قاضي القضاة بدمشق،

وتولى ابن المرخم يحيى بن سعد منصب قاضي القضاة في أيام المقتفي بدمشق، وكان طبيباً في المارستان المحمول، وفصَّاداً فيه.

وتولى الوزارة في عهد يعقوب المنصور سلطان المغرب أبو بكر بن نصر، وهو _ كما قالوا _ بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين.

كما تولى الطبيب يحيى بن إسحاق الوزارة لعبدالرحمن الناصر، وحظي عنده بمنزلة رفيعة،

ويدلكم على أن لصناعة الطب شرفاً يناسب الوزارة أن هذا الطبيب الوزير قد يلجأ إليه المبتلون بأمراض عسرة، وهو وزير، فيتولى علاجها بنفسه.

الطب في نظر الإسلام : نقل كتب الطب:

ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية: وجرى هذا في عهود طائفة من الخلفاء والأمراء مثل خالد بن يزيد بن معاوية،

والمأمون، ومحمد بن عبدالملك الزيات، ومحمد بن موسى بن عبدالملك.

ودخل معظم كتب جالينوس الطبية في العربية بنقل حنين بن إسحاق، أو تصحيحه لها بعد نقلها،

وظهر بعد نقل هذه الكتب إلى العربية مؤلفات عربية اللهجة

ككتاب القانون لابن سينا وغيره من المؤلفات الوارد معظمها في كتاب كشف الظنون والكتب التي تصدت لتراجم الأطباء ككتاب عيون الأنباء في تراجم الأطباء .

الطب في نظر الإسلام : صيانة مهنة الطب:

ثالثها: صيانة الطب عن أن يتعاطاه غير أهله: اتصل بالمقتدر أن غلطاً جرى من بعض المتطببين على رجل من العامة،

فصدر أمر بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت،

فامتحنهم سنان، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه.

وفوَّض الخليفة المستضيء بأمر الله رياسة الطب ببغداد لأمين الدولة ابن التلميذ، فاجتمع إليه سائر الأطباء؛

ليرى ما عندهم، وشرع في امتحانهم واحداً بعد آخر.

الطب في نظر الإسلام : بناء المستشفيات:

رابعها: بناء المستشفيات: بنى الخلفاء والأمراء وغيرهم من المطبوعين على فعل الخيرات مستشفياتٍ كثيرةً كانت بالغةَ الغاية في استيفاء وسائل العلاج،

وتوفير راحة المرضى حسبما يقتضيه رقيُّ العلم في عصورهم.

وقد تكفل كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام للدكتور أحمد عيسى بوصف واسع تناولها من كل ناحية،

مثل: البيمارستان العتيق الذي أنشأه أحمد ابن طولون بالقاهرة، والبيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة ابن بويه في بغداد،

وبيمارستان مراكش الذي أنشأه يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن في مدينة مراكش.”

واتخذ أمراء الإسلام المستشفيات المتنقلة، قال ابن خلكان: إنَّ أبا الحكم المقري عبدالله بن المظفر نزيل دمشق،

كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون رجلاً، والمستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيَّم.

وأول مستشفى أحدثه الوليد بن عبدالملك بن مروان بدمشق للمجذومين سنة ثمانٍ وثمانين وأجرى لهم فيها أرزاقهم.

العناية بتوفير العلاج :

شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم:

كان الأمراء يبنون المستشفيات، ويعيِّنون لها أطباء، ويُعِدّون فيها من الأدوية ما يُحتاج إليه.

كتب الوزير علي بن عيسى بن الجرَّاح في أيام خلافة المقتدر إلى سنان ابن ثابت،

وكان سنان هو القائم على أمر البيمارستانات: فكرت في أمر الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم، وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛

فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كلَّ يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزوَّرات(5)،

وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفون لهم إن شاء الله _ تعالى _ .

وكتب إليه كتاباً آخر يقول فيه: فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم؛

لخلو السواد من الأطباء؛ فتقدم بإيفاد متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون بالسواد،

ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره .
وقد يتجاوز بعضهم في العناية بأحوال المرضى إلى حد الرفاهيةِ،

وأوضحُ مثال لهذا معاملة المرضى بالمستشفى الذي أنشأه أبو يوسف المنصور يعقوب ابن يوسف بن عبدالمؤمن بن علي في مدينة مراكش،

قال عبدالواحد المراكشي: ذلك أنه بعد أن بنى المستشفى في ساحة فسيحة،

وظهر في نقوشه البديعة وزخارفه المحكمة، وحفَّه بالأشجار ذات الثمار والأزهار،

وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، وأمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره مما يزيد عن الوصف .

ثم قال: وأعد فيها للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل .

وقال: وكان في كلِّ جمعة بعد صلاته يركب، ويدخل يعود المرضى، ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، ويقول: كيف حالكم، وكيف القومةُ عليكم .

الطب في المدارس والمعاهد:

عني رجال الإسلام بالطب حتى أصبح من العلوم التي تدرس في المعاهد أو المساجد على طريقة البحث وتحقيق النظر،

يحدثنا التاريخ أن الملك الأشرف جعل لمهذب الدين عبدالرحيم بن علي مجلساً لتدريس صناعة الطب،

ووقف مهذب الدين هذا داره بدمشق، وجعلها مدرسة يُدَرّس فيها صناعة الطب من بعده،

وكان لموفق الدين عبدالعزيز بن عبدالجبار مجلس عام للمشتغلين عليه بعلم الطب.

وأقرأ علمَ الطبِّ رضيُّ الدين يوسف بن حيدرة الرحي، وكان لا يُقْرِئ هذا العلم إلا لمن يجده أهلاً له،

قالوا: وكان يعطي صناعة الطب حقها من الرياسة والتعظيم.

وكان شمس الدين محمد بن عبدالله مدرساً للأطباء بجامع طولون.

وكان موفق الدين البغدادي يدرس الطب فيما يدرسه من العلوم بالأزهر الشريف.

وكان من إقبال أمراء الإسلام وعلمائه على علم الطب أن كثر أساتذته في العهود التي ازدهرت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها،

وأسوق شاهداً على هذا أن سنان بن ثابت لما كلفه المقتدر بامتحان الأطباء بلغ عدد الذين أجرى عليهم الامتحان في جانبي بغداد ثمانمائة شخص ونيف وستين

سوى من استغنى عن امتحانه بشهرته بالتقدم في هذه الصناعة.

والذي نرمي إليه في هذا الحديث أن دينَ الإسلام، ونبيَّ الإسلام رفعا علم الطب وصناعته مكانة عالية؛

إذ كان الطب مظهراً من مظاهر الرأفة بالإنسانية، ووسيلة من أهم وسائل راحة النفوس، وتخليصها من آلام تُكَدِّر عليها صفو حياتها،

ومعونةً لذوي الهمم الكبيرة على أن يتمتعوا بعافية تسعدهم في القيام بأعمال جليلة؛

فالأخذ بما ينصح به الأطباء الأمناء من إتيان أشياء، أو اجتنابها إنما هو عمل على حفظ الصحة التي تظهر بها الأفراد والأمم في قوة وعزم يسهل عندهما كل صعب،

ويتضاءل أمامهما كلُّ خطب، وإنما خلق الإنسان؛ ليسير في طريق الفلاح، ويذلل ما يلاقيه من العقبات بإيمان صادق، وعزيمة ماضية.

 

نهاية مقال : الطب في نظر الإسلام

#المقالات_المختارة

#مقالات_علمية

#محمد_الخضر_حسين

الهوامش:
__________________________________________________

(1) الطب في نظر الإسلام نشر في مجلة (الهداية الإسلامية) الجزءان الأول والثاني من المجلد التاسع عشر الصادران في رجب وشعبان 1365،

وانظر روائع مجلة الهداية الإسلامية _ الإسلام والطب _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص9_20.

(2) لعلها: قبيل. (م)

(3) تبوغ الدم: توقُّده، وهيجانه، ويشير هنا إلى حديث: إذا تبوَّغ بأحدكم الدم فليحتجم . انظر لسان العرب 8/422 (م)

(4) وأصل هذا ما رواه أبو داود والنسائي: أنه _عليه الصلاة والسلام_ قال: من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن .

(5) خضر بدون لحم ولا دسم.

المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية

المكتبة العربية الكبرى

Exit mobile version