رسائل لم تصل للإنسانية للكاتبة نورة بنت عبدالرحمن الكثير يصور حالات الأسى التي يتعرض لها المسلم وردود الأفعال الباردة، مقال “غير مناسب لأصحاب القلوب الضعيفة”
رسائل لم تصل للإنسانية
بقلم : نورة بنت عبدالرحمن الكثير
لم تجد (إنعام) الحِمصية نفسها إلا وهي مُلقاة على فراش في مستشفى الولادة بالأردن،
بعدما وجدها أحد أفراد الجيش الأردني ملقاة بالقرب من الحدود الأردنية،
إنها رحلة الموت التي بدأتها بعدما قُتِل زوجها، وهو يُقاتِل وتركها وهي حُبلى،
فلاذت بالفرار خوفًا وهلعًا أن يُنتهَك عِرْضها أو تُقطَّع أوصال طفلها أمام ناظرَيها، فحملت (عمر)،
طفل السنوات الثلاث على كتفها باحثة عن مأوى يؤويها؛
لتنجو وطفلها وجنينها الذي في بطنها من ويلات حرب لم تَذر أخضر ولا يابسًا إلا جعلته حصيدًا.
استمرت رحلتها 12 ساعة سيرًا على قدميها حتى شطت الدار ونأت الديار، وأعياها التعب،
فسقطتْ مغمًى عليها؛
لتنتهي رحلة الفرار من الجحيم وتبدأ رحلة اللجوء وقسوته ومعاناة مرارة الغربة وانقطاع سبل العيش الكريم.
مشاهد تَقْرَح الأكباد، وتُدمي القلوب؛ لدماء أريقت، وأجساد عُذِّبت،
وأعراض هُتِكت، وأنفس شرِّدت،
وأطفال يُتِّمت، ومنازل هُدمت،
وأرواح أزهقت، وجثث أحرقت،
وإعدامات بالجملة، وحملات اعتقال للمجهول،
فلم يبقَ من عذاب الأولين والآخرين إلا ومارَسوا فنونه حتى استنفدوه وما خلّوا منه شيئًا!
تلك المشاهد تُسجَّل وتُوثَّق وتُرسَل فورًا بالصوت والصورة،
فتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي هنا وهناك،
تُعرَض فيراها الملايين، ويتقدَّم الرابط عبارة (غير مناسب لأصحاب القلوب الضعيفة)، أو كلمة (قاسي)،
ومشاهد أخرى مكتوب عليها عبارات ساخرة كردود أفعال لما آلت إليه الأوضاع؛
مِثل (شكرًا من كل القلب لإخوتنا العرب المتفرجين،
أرجو من مجازرنا وأشلائنا أن تنال إعجابكم)،
وأخرى (نعتذِر إذا كانت الصور لم تؤثِّر فيكم وفي مشاعركم)،
وهذه عُنوِنت بـ (مؤثر جدًّا)، وتلك بـ (أين أنتم يا عرب؟!).
ولسان الحال يجيب:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا
ولكن لا حياةَ لمن تُنادِي
ولو نارًا نفختَ بها أضاءت
ولكن أنتَ تَنفُخ في رمادِ
مناظر دامية
تلك المناظر الدامية كفتْ واستوفت لتَصِل رسائلها إلى كل ضمير يقظ؛
ليُحمِّل صاحبه هم تلك النازلة والمُصاب الجَلَل،
ولكن الغريب في الأمر أنها لم تأخذ سبيلها لضمائر أهل الحل والعقد!
قد تكون أخطأت الطريق أو تأخَّرت في الوصول لضمير هؤلاء؛
ولكن على الرغم من هذا لم ينل اليأس من أصحابها وما زالوا يتحرَّون بحُرقة بوادر تلبية الغوث وردود الأفعال؛
حيث لا مغيثَ لهم إلا الله وحده.
وقد تُعيد تلك الأحداث إلى ذهننا ما وقع لإخوتنا في الدين شعب البوسنة والهرسك عام 1992،
ووقائع أحداث الحرب الصربية عليهم، والتي دامت رحاها ثلاث سنوات مُورِست خلالها أبشع عمليات التطهير العرقي والإبادات الجماعية،
حينها أرسل الرئيس (علي عزت بيجوفيتش) – رحمه الله – 100 رسالة استغاثة إلى زعماء العالم،
وغالبها كان موجهًا للمسلمين منهم!
إنها عبارة المؤرخ اليوناني (ثوكيديس): (التاريخ يُعيد نفسه)،
والذي أضحتْ عبارته على كل لسان، وباتت تُغني عن كل بيان،
لكن الحقيقة أن التاريخ لا يستطيع أن يُعيد نفسه؛ إنما الأيام دُول، وسنن الله جارية،
ولن نجد لسننه –تعالى- تبديلاً ولا تحويلاً.
هي الأمورُ كما شاهدتُها دولٌ
مَن سرَّهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ
إن ما يَحدُث الآن له شأن آخر ووضع استثنائي جدًّا؛
فهي ليست حرب دول، إنما صراع بين حكومة باطل وشعب يحمل عقيدة الحق.
وما يدعو للعجب فعلاً أن المنظمات الحقوقية تتعامَل مع تلك الأوضاع والممارسات بأرْيحية تامة! وتكتفي بإصدار تصريحات ما أَسمَنتْ ولا أغنت من جوع.
لقد انتصر السوريون بثورتهم منذ البداية،
وكان أعظم انتصاراتهم أن فضحوا الشخصيات المتوارية وراء حُجُب،
وأسقطوا أقنعتها الوردية، وكشفوا زيف الأوراق، وفضحوا ما تُخفي صدور هؤلاء من بغضاء شحناء خبيثة حاقدة، ووحشيَّة تَعجز عن وصفها الكلمات،
ولقَّنتنا هذه الشدائد درسًا لن ننساه بأن لا نُعلِّق آمالنا ونضع ثقتنا في منظمات حقوقية ومحافل دولية أُنشئت من أجل الحفاظ على مصالحها فحسب،
دون الوضع في الاعتبار أن ما يجري الآن لم تشهد له الإنسانية مثيلاً في العهد الحديث!
نورة بنت عبدالرحمن الكثير