المجاهدون الأولون ، في هذا المقال الجميل استعرض الكاتب العلامة #محب_الدين_الخطيب جهاد بيت من بيوت العرب يقال لهم آل جَزْءِ بن عمرو٫ كانوا قد هلكوا في بلاد الروم، في الجهاد. في أجمل صورة من صور الكمال الذي كان للـ المجاهدين الأولين؛ فجمعوا فيه بين الإخلاص لدين الله، وتصريف الشجاعة و الفروسية والأموال بل والأهواء باستعمال ذلك كله في سبيل الله.
المجاهدون الأولون للعلامة محب الدين الخطيب
المجاهدون الأولون(1) للعلامة محب الدين الخطيب
في كتاب الإصابة للحافظ ابن حجر (1: 576 _ 577) عن خالد بن سعيد ابن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه قال:
لما بويع مروان بن الحكم _ وكان ذلك سنة 64هـ أي قبل ثلاثة عشر قرناً _
مرَّ على ماء في البادية لبني جَزْءِ بن عمرو بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، وعلى الماء شيخ منهم كبير، فقال له مروان:
كيف أنتم آل جزء؟
فقال الشيخ: بخير؛ أنبتنا الله فأحسن نباتنا، ثم حصدنا فأحسن حصادنا.
قال الحافظ ابن حجر: وكانوا هلكوا في بلاد الروم، في الجهاد.
أما كيف هلكوا قبل ذلك في الجهاد، فقد ذكر مؤرخو الإسلام لمعاً من أخباره.
وأنت إذا وقفت على القليل مما ذكروا تجلت لك صورة من صور الكمال الذي كان للمجاهدين الأولين؛
فجمعوا فيه بين الإخلاص لدين الله، وتصريف الشجاعة والفروسية والأموال بل والأهواء باستعمال ذلك كله في سبيل الله.
وكان لهم _ مع ذلك الكمال _ نضوج العقل، وجمال المنطق، وهما من ميراث القومية العريق في القدم الذي ازدان به سلفنا من العرب،
وبه امتاز الإنسان على سائر خلق الله من ذوي الحياة.
المجاهدون الأولون : جهاد آل جزء:
وحكاية جهاد آل جزء _ الذي كان به حصادهم كما قال ذلك الشيخ من شيوخهم لمروان بن الحكم سنة 64هـ
هي أن زرارة بن جزء الكلابي، انتهى إليه وهو في نجوعه بالبادية سنة 49هـ، أن أمير المؤمنين معاوية يعقد رايات الجهاد لأبطال العرب ومجاهديهم تحت قيادة ابنه يزيد،
وأن القبائل تقرع طبولها في كل أفق متجهة إلى دمشق؛ لتأخذ مكانها في فيالق الحملة الكبرى التي ينظم كتائبها في البر وأساطيلها في البحر سفيان بن عوف الأزدي،
وأن طائفة من أعلام الصحابة وعلمائهم التحقوا بهذه الحملة جنوداً في سبيل الله،
وفي مقدمتهم عبدالله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعبدالله بن العباس بن عبدالمطلب _ ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم
وعبدالله بن الزبير بن العوام _ حفيد عمة رسول الله، وسبط أبي بكر الخليفة الأول _ وأبو أيوب الأنصاري الذي نزل النبي ضيفاً عليه في بيته عند هجرته الشريفة من مكة إلى المدينة.
واتفق في ذلك الحين مرور أمير من أمراء البيت المالك بديار آل جزء، وهو الأمير عنبسة بن أبي سفيان أخو الخليفة، فاحتفل آل جزء بمقدمه، وأنزلوه في المقام اللائق به.
ومما أكرم به آل جزء ضيفهم الأمير أن الشاب النبيل عبدالعزيز بن زرارة ابن جزء استعرض أمامه خيلَه بفرسانِها، وإبلَه بركبانِها،
ومواشيَه وأموالَه التي جَرَتْ عادة العرب أن يرفقوها بفرسانهم وركبانهم إذا نفروا للقتال؛ فرأى الأمير الأموي من ذلك ما أعجبه،
فلما لمح ذلك عبدالعزيز في وجه أخي الخليفة _وكان قد وقف على خبر الحملة التي تجهز في الشام لغزو القسطنطينية_ نادى قائلاً _والأمير عنبسة يسمع_:
اللهم إني أشهدك أني حبست نفسي، وأهلي ومالي، في سبيلك….”
المجاهدون الأولون : التضحية نوراً يمشي:
فكانت هذه التضحية في مقام بدلية التجنيد التي كان يبذلها أبناء الوجهاء إلى عهد قريب،
ولكن أبناء وجهاء العرب الأولين لم يكونوا يبذلونها؛ ليقعدوا بها عن الجهاد، وليهربوا من كتائبه،
ويتخلوا عن حمل أعبائه، واحتمال متاعبه، وتحمل عواقبه في أنفسهم وذويهم،
بل لتكون هذه التضحية نوراً يمشي بين يدي دمائهم التي عاهدوا الله على بذلها في سبيله؛ إعلاء لكلمة الحق في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
وما كاد ضيفهم الأمير يرحل عن نجعهم متوجهاً إلى دمشق، حتى تجهز شيخ العشيرة زرارة بن جزء أبو عبدالعزيز
وركب من باديته قاصداً عاصمة الإسلام الرابضة بين جبل قاسيون وضفاف برَدَى،
حتى إذا صار بباب معاوية، رأى ازدحام زعماء القبائل عليه، وصعوبة الوصول إليه،
فقال لمن كان هناك: من يستأذن لي اليوم على أمير المؤمنين أستأذن له غداً !.
أي أنه يستقرض الاستئذان حقاً بحق، ولا يستجديه عفواً بلا مقابل.
وكان زرارة يثق فيما له من مواهب أنها ستنيله الحظوة عند معاوية، وتحله منه في المكان الأقرب،
كما كان يثق بأن معاوية يعرف أقدار الرجال، وينزلهم من نفسه ومجلسه ودولته على قدر رجولتهم،
وعلى قدر ثقتهم بفضائل أنفسهم، وجودهم للملة بما تحت أيديهم.
فلما أذن له معاوية ودخل عليه، قال: يا أمير المؤمنين، إني رحلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر،
ورأيت أقواماً أدناهم منك الحظ، وآخرين باعدهم منك الحرمان، وليس للمقرب أن يأمن، ولا للمباعد أن ييأس.
ونسب الجاحظ (2) إلى ابنه عبدالعزيز الفقرة التالية خطاباً لمعاوية، وما علمنا أن عبدالعزيز خطب بين يدي معاوية،
وهي بكلام أبيه أشبه، ومعانيها تدل على أنها من تمام الخطبة التي أوردنا منها الفقرة السالفة.
قال: يا أمير المؤمنين، لم أزل أستدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك،
فإذا ألوى بي الليل، فقبض البصر، وعفى الأثر أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوم، والاجتهاد يعذر، وإذ بلغتك فقطني…
فأعجب معاوية كلامه، كما أعجبت أخاه عنبسةَ خيلُ ابنهِ عبدالعزيز وإبلُه.
وزرارة بن جزء _ أبو هذا الشبل الشهيد الفارس الكريم _ معدود من الصحابة.
المجاهدون الأولون : عمر بن الخطاب في خلافته:
ونقل أبو عثمان الجاحظ أبياتاً من بليغ شعره قالها حين أتى عمر بن الخطاب في خلافته، وهي:
أتيت أبا حفص ولا يستطيعه … من الناس إلا كالسنان طرير
فوفَّقني الرحمن لما لقيته … وللباب من دون الخصوم صرير
قُرومٌ غَيارى عند باب ممنع … تُنازِعُ مَلْكاً يهتدي وتجور
فقلت له قولاً أصاب فؤاده … وبعض كلام الناطقين غرور
أما الابن المجاهد الشهيد فقد ظلت سيرته على ألسنة الفتيان في البادية يتحدثون بها جيلاً بعد جيل؛
ليقوموا بمثل فضائلها وروائعها بأنفسهم كلما سنحت لهم الفرص.
وقد زار أرضهم بعد ذلك بأمد طويل هارون بن بكار _ حفيد عبدالله بن الزبير ابن العوام الذي كان زميل عبدالعزيز بن زرارة في حصار القسطنطينية الأول
فذكروا له في جملة ما ذكروه من أخلاق عبدالعزيز بن زرارة، وإعلانه التبرعَ بنفسه، وبأهله، وبأمواله بين يدي الأمير عنبسة بن أبي سفيان،
ثم وفاءه بهذا العهد أكمل وفاء عرف عن فارس شاعر نبيل.
هذه صورة صادقة لبادية العرب في صدر الإسلام إلى نهاية دولة بني أمية، وهو زمن التابعين والتابعين لهم بإحسان،
وهو زمن الخير الذي عمَّت فيه الفتوح، وحدث فيه أعظمُ انقلابٍ في تاريخ الإنسانية
لأن دخول الممالك في الإمبراطورية الإسلامية لم يكن معناه الظفرَ والفتحَ كما تفهمه الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام،
بل كان معناه تحولَ الأمم عن أنانيتها، وعن باطلها، وعن ضعفها الخلقي وسخافاتها الدينية والعقلية؛
بل عن ألسنتها وقومياتها إلى لسان القرآن وقومية رسوله، والتحاقها بتلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعهم التحاقَ تخلقٍ واندماج،
وهو انقلاب لم يسبق له نظير، ولا استطاع أن يأتي بمثله الفاتحون فيما بعد، لا من المسلمين المتأخرين، ولا من الغربيين.
والمجاهدون الذين تم على أيديهم هذا الانقلاب هم أمثال عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وأبي أيوب الأنصاري،
الذين تقدموا بأنفسهم للجهاد في سبيل الله تحت راية معقودة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان،
وكان الأميرَ القائدَ الذي يصلي بالناس، وهو الذي يرجعون إليه في جميع حركاتهم وسكناتهم.
المجاهدون الأولون: طبقة عبدالعزيز بن زرارة:
وإذا تجاوزنا هذه الطبقة من علماء الصحابة وأعلامهم نلقى بعدها الطبقة التي منها أمثال عبدالعزيز بن زرارة بن جزء الكلابي.
وإن الكثيرين من مثقفي المسلمين يعلمون أن من أحداث الدعوة المحمدية الأولى تبرعَ عثمانَ بنِ عفانَ بنفقات جيش العسرة،
وتبرعَ إخوانه من كبار الصحابة بكرائم أموالهم،
ولكن قلَّ من يعلم منهم أن من أحداث الجهاد الإسلامي الأعظم في زمن التابعين تَبَرُّعَ أمثالِ هذا البدوِي النبيلِ القابع في نجعه،
المنزوي بين الحمات في الصحراء بكل ما يملك من خيلٍ وإبلٍ ومواشيَ وأموال،
بل تبرعه بدمه وبأهله في سبيل الله.
وهذا البدوي المجاهد، وكل عربي تقدم للجهاد معه أو قبله أو بعده، كانوا يعرفون فرق ما بين شمس باديتهم الساطعة الضاحية،
وبين جو القسطنطينية التي كان يتجمد ماءُ خليجها في بعض السنين من شدة البرد؛ فتسير الخيول، والعربات، والناس على مائه المتجمد.
ومع ذلك فإن هذه الطبيعة بقسوتها وشدتها لم تستطع أن تصد أبناء البادية،
ولا أهل الرفاهة من وجوه أبناء العواصم وفي مقدمتها دمشق عن أن يقدموا أنفسهم ودماءهم في سبيل إعلاء كلمة الحق والخير،
تحت كل سماء، وفي دائرة كل أفق
لأنهم يرون أن الله الذي أنبتهم فأحسن نباتهم، إنما أكرمهم بالجهاد؛ ليحصدهم في سبيله فيحسن حصادهم.
هذه الأخلاق التي كان عليها المجاهدون الأولون هي التي تمكنوا بها من إسعاد البشر بالإسلام فيما بين نهر الغانج،
وجبال الأطلس وتخوم البيرنيه في عشرات قليلة من السنين.
وبتلك الدماء الطاهرة سقى العرب تربة الدنيا، فأينعت بها ثمرات الإسلام.
الهامش
__________
(1) مع الرعيل الأول ص200 _ 209.”
(2) في البيان والتبيين (3: 37)
#محب_الدين_الخطيب
#المقالات_المختارة
#مقالات_في_السياسة_والإجتماع