Site icon حديقة المقالات

الثورة الروسية 1917

الثورة الروسية

الثورة الروسية من كتاب أحجار على رقعة الشطرنج للكاتب ويليام قاي كار، وقد تناول في هذا الفصل أحداث ومسببات الثورة الروسية عام 1917 

الثورة الروسية 1917

الحوادث التي سبقت الثورة الروسية:

هزت حملة نابليون عام 1812 روسيا هزة عنيفة، تاركة إياها مثخنة بالجراح..

فأخذ القيصر ألكسندر الأول علي عاتقه إعادة تنظيم بلاده، وأصدر عددا من القوانين ألغت الأحكام الزجرية التي كانت مطبقة علي اليهود منذ عام 1772، والتي كانت تحدد إقامتهم في أمكنة معينة..

وبذل القيصر جهدا لحمل اليهود علي العمل في الزراعة وغيرها، وتشجيعهم علي الامتزاج الكامل بالمجتمع الروسي.

عام 1852 مات ألكسندر الأوّل، فخلفه علي العرش نيقولا الأول، فلم ينظر بعين الرضا إلي التغلغل السريع لليهود في الاقتصاد الروسي، ولم ترتح حكومته إلي الإصرار الذي أبداه اليهود للحفاظ علي تراثهم ولغتهم الخاصين وزيهم المميّز.

وهكذا، وفي محاولة منه لإذابة العنصر اليهوديّ في المجتمع الروسيّ، أصدر نيقولا الأول عام 1834، قوانين تجبرُ اليهود علي إرسال أولادهم إلي المدارس الحكومية، وذلك لمحو معاناة الاضطهاد الديني التي كانوا يشربون إياها في الطفولة.

غير أن النتيجة جاءت عكس المتوقع، لآن التعليم أصبح إلزاميا لأطفال اليهود، ولم يكن كذلك بالنسبة لأطفال الروس من غير اليهود، مما أدّي إلي جعل اليهود الفئة الأكثر ثقافة في روسيا!

وارتقي عرش روسيا القيصر ألكسندر الثاني عام 1855، وكان هو الذي وصفه بنجامين دزرائيلي بـ “أكثر أمراء روسيا تسامحا”..

وقد كرس ألكسندر حياته لتحسين الأوضاع الحياتية للفلاحين والطبقات الكادحة واليهود..

وقد حرّر في عام 1861 23.000.000 عبد..

وقد كانوا عبيدا بكل ما في هذه الكلمة من معني، وكانت عمليات بيع الأراضي وشرائها تشملهم، فيباعون من سيد إلي سيد.

ودخل العديد من اليهود، الجامعات، ولكنهم بعد التخرج كانوا يواجهون مصاعب وعقبات قاسية..

ولإزالة هذا الإجحاف، أصدر القيصر أوامره بقبول هؤلاء اليهود في المناصب الحكومية، والسماح لهم بالسكن أينما شاءوا في الأراضي الروسية..

وما إن حل عام 1879، حتى كان من اليهود أطباء وممرضون وأطباء أسنان ورجال أعمال ومهن، وكان يسمح لهم بالعمل والسكن في أي مكان من روسيا.

ولكن القادة اليهود لحركة الثورة العالمية، كانوا مصممين علي الاستمرار في التحضير للثورة في العالم..

وكانت جماعاتهم الإرهابية ترتكب المجزرة تلو الأخرى، وعملوا علي كسب تأييد الرافضين من المثقفين في روسيا، وعلي زرع فكرة التمرد والثورة في عقول الجماهير العاملة..

وقاموا بأول محاولة لاغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1866..

ونجا القيصر من محاولتين لقتله بأعجوبة..

وتمكن المتآمرون أخيرا في المحاولة الثالثة من اغتياله عام 1881، في بيت يهودية تدعي هسيا هلفمان.

وبينما كانت القوات الثورية تحرج الحكومة الروسية في الداخل بكل الوسائل الممكنة، بإثارة المشاغبات والقيام بالاغتيالات السياسية،

كانت القوي الخفية من مراكزها في إنكلترا وسويسرا والولايات المتحدة تحاول من جهتها توريط روسيا في حرب مع بريطانيا، ففي مثل هذه الحرب لن تستطيع أي من الإمبراطوريتين إحراز أي مكاسب تذكر..

وتكون النتيجة لمثل هذه الحرب إضعاف كلا البلدين ماديا، وتركهما فريسة سهلة للأعمال الثورية التالية.

في عدد تشرين الأولي 1881 من مجلة القرن التاسع عشر، كتب البروفيسور غولدوين سميث أستاذ التاريخ الحديث في جامعة أركسفورد يقول: “عندما كنت في إنكلترا لآخر مرة، كنا علي حافة الحرب مع روسيا..

وكان مقدرا لهذه الحرب أن تورط الإمبراطورية بأكملها..

وكانت المصالح اليهودية في أوروبا، وأداتها الرئيسية صحافة فيينا، تسعي بكل جهدها لدفعنا إلي المعركة”.

كانت حادثة اغتيال “البابا الصغير” للروس (قيصر روسيا) السبب في موجة واسعة من الغضب، فجّرت أعمال العنف ضد السكان اليهود في العديد من الأراضي الروسية..

ومررت الحكومة الروسية “قوانين أيار” القاسية إرضاء لوجهات نظر الرسميين الروس الكبار، الذين قالوا: “إذا كانت سياسة التسامح التي اتبعها ألكسندر الثاني لم تكن كافية لإرضاء اليهود ومصالحتهم، فلن يرضيهم شيء بعد الآن إلا أن يبسطوا سيطرتهم المطلقة علي روسيا”..

وهكذا وللمرة الثانية راح الشعب اليهودي بأسره ضحية الجرائم التي يرتكبها الذين نصبوا أنفسهم زعماء له.

في الثالث والعشرين من أيار عام 1882، طلب وفد يهودي برئاسة البارون جينزبيرغ مقابلة القيصر ألكسندر الثالث للاحتجاج علي القوانين المذكورة..

ووعد القيصر بإجراء تحقيق شامل في القضية بأجمعها، وخاصة فيما يتعلق بالأزمة بين اليهود وغير اليهود من سكان الإمبراطورية الروسية..

وفي الثالث من أيلول أصدر البيان الآتي: “منذ مدة والحكومة تولي بالغ العناية لليهود ومشاكلهم، مع الانتباه للأوضاع المحزنة للسكان المسيحيين الناشئة عن الطرق التي يستعملها اليهود في قضايا العمل والمال.. خلال العشرين سنة الماضية لم يكتف اليهود بالسيطرة علي كل التجارات والأعمال بفروعها، بل سيطروا أيضا علي أجزاء كبيرة من الأراضي، إما بشرائه أو بزراعتها..

وباستثناء القليل، كرس اليهود جهودهم كمجموع، ليس لإثراء الدولة ولفائدتها، بل لخداع الشعب الروسيّ بحيلهم الملتوية..

وقد قاسي الفقراء بنوع خاص من هذا، فتصاعدت الاحتجاجات من الرعايا، وتجلي ذلك في أعمال العنف التي قام بها الشعب ضد اليهود..

وقد سعت الحكومة لتخليص اليهود من الاضطهاد والمذابح، لكن لا يسعها تحت ضغط ملح إلا أن تتبني القوانين القاسية، لتخليص الشعب من اضطهاد اليهود وأعمالهم الشريرة”.

إن إقرار قوانين أيار لم يكن فقط انتقاما لمقتل القيصر ألكسندر الثاني، وإنما كان نتيجة للتحذيرات المتوالية التي وجهها الاقتصاديون الروس للحكومة، بهدف الحد من النشاطات المالية غير المشروعة التي يمارسها اليهود، والتي تهدد الاقتصاد الروسي بالخراب، مع أنهم لا يشكلون سوي نسبة 4.2% من سكان الإمبراطورية.

***

كان اليهوديّ الألماني تيودور هيرتزل يبث الشكوك عند اليهود، عندما يقوم بإعلامهم عن سياسة كارل ريتر اللاسامية، وكيف أنّها تنتشر بسرعة بين الشعب الألماني..

واقترح هيرتتزل إقامة منظمة يهودية تدعى “حركة العودة إلي إسرائيل” Jewish Back to Israel Movement باسم المحافظين من اليهود..

وكانت تلك بداية الحركة الصهيونية.

***

بعدما أصدر القيصر ألكسندر الثالث حكمه بلوم اليهود، وإلقاء المسؤولية علي عاتقهم في حالة الفوضى والخراب الاقتصادي في الإمبراطورية، قامت قيادات الحركة الثورية بإنشاء “الحزب الاشتراكي الثوري”..

وعهد بتنظيم هذا الحزب إلي رجل قاس لا يعرف الرحمة أسمه جيرشوني..

وكان تنظيم “القطاعات المقاتلة” من نصيب خياط يدعي يفنوا أرنف..

وشدد قواد الحركة الثورية علي ضرورة استجلاب غير اليهود إليها.

وبالإضافة إلي التسبب بالاضطرابات العمالية وخلق الأوضاع السيئة بين طبقات المجتمع الروسي، كانت الأحزاب الثورية فيما بين 1900 و 1906 تثير المتاعب الدينية، حتى أوصلتها إلي درجة الغليان..

وكانت القمة التي وصلت إليها تلك المتاعب حوادث القتل والاغتيال بالجملة..

وحدث الانفجار بشكل ثورة عام 1905.

كان من الشخصيات الرسمية الذين قام باغتيالهم قسم الإرهاب في الحزب الثوري، بوغوليبوف وزير التربية عام 1901..

وجاءت هذا الحادث تسجيلا لغضب اليهود علي السياسة التربوية التي تضمنتها قوانين أيار، فقد حددت عدد اليهود الذي يسمح لهم بالانتساب إلي مدارس الدولة وجامعاتها، بنسبة لا تزيد علي نسبة السكان اليهود إلي تعداد الشعب الروسيّ كله.

وفي العام التالي “1902” اغتيل وزير الداخلية سيباغين، تأكيدا لغضب اليهود علي سياسة قوانين أيار، والتي قضت بمنع اليهود من السكن خارج أحيائهم ومجمعاتهم الخاصة.

عام 1903 اغتيل بوغدانوفيتش حاكم يوفا..

وفي عام 1904 قتل رئيس الوزراء فيشيليف فون بيلف..

وعام 1905 انفجرت أول ثورة عامة في روسيا، واغتيل خال القيصر الدوق سرجيوس في 17 شباط..

وفي كانون الأول 1905 اضطهد الجنرال دوبراسو الثوريين، ولكنهم اغتالوه في العام 1906.

بعدما ألقي القيصر اللوم علي عاتق اليهود واتهمهم بالتسبب بالحالة المتردية في روسيا، تلقي البارون جينزبيرغ تعليمات بالعمل علي تفتيت الإمبراطورية الروسية..

وكان من ضمن الخطة خلق الفوضى والاضطراب بين صفوف الجيش الروسي في الشرق الأقصى، عن طريق تدمير خطوط المواصلات في سيبيريا..

وقد أدي ذلك إلي إيقاف الإمدادات والمعونات عن الجيش البري والبحرية الروسية.

ومن طرف أخر، أمر أحد ضباط البحرية الروس سفنه، بإطلاق النار علي أسطول من سفن الصيد البريطانية التي كانت في بحر الشمال..

وكان رد الفعل الشعبي في بريطانيا عنيفا..

وقد تطوع بعد هذه الحادثة عدد كبير من ضباط البحرية البريطانية ومن ملاحي السفن التجربة البريطانية لتقديم خدماتهم لليابان.

بخلاف أنّ أصحاب المصارف العالميين فرضوا عقوبات اقتصادية علي الإمبراطورية الروسية، وأوصلوها حتى الإفلاس تقريبا..

وضربوا حظرا علي التجارة والمبادلات الروسية..

وعام 1904 وبعد توريط روسيا في الحرب مع اليابان، نكثت مؤسسة روتشيلد بوعودها، ورفضت إمداد روسيا بالمساعدات المالية، بينما قامت شركة كوهن ـ لوب وشركائهما في نيويورك بإمداد اليابان بكل القروض التي طلبتها.

جاء في الموسوعة البريطانية طبعة عام 1947 في المجلد الثاني الصفحة 76 ما يلي: “وكان الوزير الروسي يسعي بكل جهده للحصول علي المال..

ودخلت الحكومة الروسية في مفاوضات مع دار روتشيلد للحصول علي قرض كبير..

ووقع الطرفان اتفاقا مبدئيا، إلا أن دار روتشيلد أبلغت وزير المال الروسي أنه ما لم تتوقف أعمال الاضطهاد ضد اليهود، فإن الدار ستتكون مضطرة للانسحاب من العقد..

وقد كانت الحاجة الملحة للخزينة الروسية واحدة من الأسباب التي دفعت للتحالف الفرنسي الروسي، تماما كما كان إنهاء معاهدة بسمارك للحياد المشترك”.

وكانت مؤسسة يعقوب شيف في نيويورك منذ العام 1897 تموّل حركات الإرهابيين في روسيا..

وعام 1904 ساعد في تمويل الثورة التي نشبت في العام التالي. وكما ساعد في تنظيم حملة عالمية لتمويل ثورة سنة 1917 التي أعطته وشركاءه أول فرصة لوضع نظرياتهم الديكتاتورية موضع التنفيذ.

لينين:

اشترك ألكسندر أوليانوف في المؤامرة التي هدفت إلي اغتيال القيصر ألكسندر الثالث..

وقد فشلت تلك المحاولة، وقبض علي ألكسندر أوليانوف وحوكم وحكم عليه بالموت..

وكان هذا هو السبب في أن أخاه فلاديميير نذر نفسه للقضية الثورية، ولمع نجمه وترقي في القسوة والسلطان، حتى أصبح رئيسا للحزب البلشفي، واتخذ لنفسه اسم “لينين”..

وقد أصبح فيما بعد الحاكم المطلق الأول لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.

تلقي لينين ثقافة جامعية..

وقام الطلاب اليهود بإقناعه أنه قد آن الأوان لقلب الطبقة الحاكمة لكي تباشر الجماهير حكم نفسها بنفسها.

ولمع نجم لينين كواحد من المثقفين المفكرين، وارتبط بقادة الحزب الثوري حين كان في أوائل العقد الثالث من عمره..

وفي العام 1895 سافر لينين إلي سويسرا ـ وكان عمره 25 سنة ـ لملاقاة بليخانوف، الذي فر من روسيا.

وفي سويسرا انضم لينين وبليخانوف، الذين كانا من غير اليهود، إلي فيرازاسوليتش و ب. أكسلرود ويوليوس تسديرباوم، وكانوا كلهم من اليهود، وألفوا جمعية ماركسية على نطاق عالميّ، أسموها “جماعة تحرير العمال”.

***

أقنعت المحاولة الثورية المجهضة عام 1905 لينين، بأن الطريق الوحيد للقيام بثورة ناجحة، هو تنظيم لجنة دولية تتولى الإعداد لتنفيذ الخطة التي يتفق عليها..

وهكذا أوجد لينين الكومنترن، وهي اللجنة المركزية الدولية للتخطيط الثوري.

***

بعد ما قرّ رأي لينين حول سياسته الخاصة، عاد إلي روسيا مع مارتوف لتنظيم حملة التمويل، التي تألفت من عمليات الابتزاز وسرقات المصارف وغيرها من الأعمال غير المشروعة..

واحتج لينين لذلك بأنه من المنطقي أن يأخذ أموال الناس الذين يخطط لقلب حكومتهم…

وأصر لينين علي أن يكون من برامج التدريب للمبتدئين في الحزب عمليات سرقات المصارف ونسف مخافر الشرطة وتصفية الخونة والجواسيس.

والحقيقة أن القادة القلائل الأول للشيوعية كانوا ينتمون إلي طبقة العمال..

وكان معظمهم من المثقفين ثقافة حسنة..

وفي عام 1895 تسببوا بسلسلة من الاضطرابات، تحوّل بعضها إلي أعمال شغب..

وهكذا أوجدوا واحدا من الأصول الأساسية في التخطيط الثوري “تطوير الحوادث الصغيرة حتى تصبح أعمال شغب، والتسبب في إحداث مواجهة فعلية مباشرة بين الشعب والشرطة”.

***

ألقي القبض علي لينين ومارتوف وعدد آخر من الثوريين وأرسلوا إلي السجن، وأنهي لينين سجنه عام 1897..

وهكذا أخذ لينين معه زوجته اليهودية الشابة وأمها، وذهبوا جميعا إلي المنفي..

وخلال فترة المنفى، اتفق لينين ومارتوف وبوتريسوف علي أن ينشئوا صحيفة بعد منفاهم، تكون جامعة لشتات المفكرين والطاقات العقلية في القوي الثورية، التي كانت ما تزال منقسمة إلي أحزاب عديدة.

وبعد أن أنهي لينين فترة الحكم بالنفي في شباط 1900، وأنشأ “الابسكرا” Iskra ومعناها الشرارة..

وكانت زوجة لينين سكرتيره مجلس تحريرها..

ولمدة من الزمن كانت تتم طباعة الجريدة في ميونخ بألمانيا، وكانت نسخ الجريدة تهرب إلي روسيا وغيرها من البلدان بواسطة الشبكة السرية التابعة لماسونيي الشرق الأكبر.

ودعت الصحيفة إلي إنشاء مؤتمر لتوحيد الجماعات الماركسية المختلفة، يكون مركزه في بروكسل عام 1903..

وتتمثل في هذا المؤتمر الديموقراطيون الاشتراكيون من روسيا، والديموقراطيون الاشتراكيون البولنديون التابعون لروزا لوكسمبورغ وجماعة تحرير العمل وجماعة “الماكسيماليين”..

ولكن الشرطة البلجيكية اتخذت إجراءات مضادة، مما دفع الأعضاء للتحرك إلي لندن..

ولهذا المؤتمر أهمية تاريخية، فخلاله حدث الانشقاق العقائدي بين الكتاب الذين يكتبون في “الشرارة”، وأصبح لينين زعيما لمجموعة البولشفيك الذين كانوا يشكلون الأكثرية، وأصبح مارتوف زعيما لمجموعة المنشفيك وكانوا الأقلية.

وقد قام المنشفيك بثورتهم عام 1905 في روسيا، بعد أحداث الأحد الدامي، الذي ألقي اللوم فيها علي القيصر..

ولكن الذين تحروا الحقائق وجدوا دلائل كافية علي أن الحادث كان مخططا له، ومنفذا من قبل الجماعات الإرهابية، بهدف إثارة الغضب والحقد ضد القيصر بين جموع العمال غير اليهود..

وقد مكنت تلك الحادثة زعماء الحركة الثورية من الاعتماد علي الألوف من الرجال والنساء من غير اليهود، الذين كانوا حتى ذلك اليوم الحزين يدينون بالولاء للقيصر ويدعونه “الأب الصغير”.

***

في الثاني من كانون الثاني قامت بعض الاضطرابات العمالية في معامل بوتيلوف الضخمة في بطرسبرج، ودعي للإضراب العام..

ولكن الأب جابون، قال إنه سيحل المشاكل المعلقة بالتحدث مباشرة مع القيصر..

وفي يوم الأحد 22 كانون الثاني نظم الأب جابون مسيرة سليمة كبيرة، اشترك فيها الألوف من العمال مصحوبين بنسائهم وأطفالهم..

واتجهت المسيرة إلي أبواب القصر..

وبحسب التقارير الصحيحة كانت المسيرة منظمة ومنضبطة تماما..

وكان المشتركون فيها يحملون لافتات كتب عليها عبارات الولاء للقيصر..

وعلي أبواب القصر، وبدون أدني إنذار، انهالت زخات الرصاص من البنادق والرشاشات حاصدة العمال، وناشرة الفوضى في المسيرة..

وذبح المئات من العمال مع عائلاتهم، وتحولت الساحة أمام القصر إلي فوضي موجعة..

ومنذ ذلك اليوم يعرف هذا التاريخ (22 كانون الثاني) بيوم الأحد الدامي..

هل كان نيقولا الثاني مسؤولا..

الحقيقة الثابتة أنه لم يكن في القصر، ولا حتى في المدينة في ذلك الوقت..

ومن المعلوم أن ضابطا من ضباط الحرس هو الذي أصدر أمر إطلاق النار إلي الجنود..

ومن المحتمل أن يكون هذا الضابط منفذا لأوامر رؤسائه الإرهابيين..

وكان هذا العمل بمثابة الشرارة التي تدير المحرك، وتلا ذلك وهج الثورة الشاملة.

بصرف النظر عمن كان المسئول، فقد كانت النتيجة أن انضم عشرات الألوف من العمال الذين كانوا يدينون بالولاء للقيصر، إلي الحزب الاشتراكي الثوري، وامتدت الحركة إلي المدن الأخرى..

وحاول القيصر أن يكبت المد الثوري، فأمر منذ مطلع شباط بإجراء تحقيق في الحادثة علي يد لجنة شيدلوفسكي..

وفي آب أعلن أن الاستعدادات جارية لتشكيل مجلس تمثيلي تشريعي ديموقراطي، وعرف هذا بعد تأسيسه بالدوما Duma..

وعرض أن يمنح عفوا شاملا لكل السجناء السياسيين..

وتحت مفعول هذا العفو، عاد لينين وزعماء البلاشقة إلي روسيا في تشرين الأول..

ولكن لم يستطع القيصر برغم كل ما فعله أن يلجم المد الثوري.
في العشرين من تشرين الأول 1905 أعلن اتحاد عمال السكك الحديدية الذي يسيطر عليه المنشفيك الإضراب العام..

وفي الخامس والعشرين من ذلك الشهر امتد الإضراب وشمل موسكو وسمولنسك وكيرسك وغيرها من البلدان..

وفي السادس والعشرين من الشهر تأسست حكومة بطرسبرج الثورية..

وكانت تلك الحكومة تحت سيطرة المنشفيك في حزب العمل الاشتراكي الديموقراطي الروسيّ، مع أن الحزب الاشتراكي كان ممثلا..

وكان أول رئيس له هو منشفيك سبوردفيسك. وقد تم

إبداله بسرعة بجورجي نوسار. وهذا بدوره خلع علي يد تروتسكي الذي أصبح رئيسا اعتبارا من التاسع من كانون الأول 1905..

وفي السادس عشر من كانون الأول ألقت قوة عسكرية القبض علي تروتسكي وعلي 300 من أعضاء الحكومة الثورية..

ولم يكن بين الموقوفين بلشفيّ بارز واحد.

ولم تنته الثورة..

في العشرين من كانون الأول استولي يهودي اسمه بارفوس علي السلطة في إدارة ثورية جديدة، ودعا إلي إضراب عام في بطرسبرج، فاستجاب لندائه 90.000 عامل..

وفي اليوم التالي أضرب 150.000 عامل في موسكو..

وفي الثلاثين من كانون الأول عادت بعض الوحدات وبعض الضباط الذين كانوا ما يزالون موالين للقيصر، واستعادوا السلطة بأعجوبة..

وهكذا وضعوا حدا للثورة..

وحافظ القيصر نيقولا علي وعده وتم إنشاء الدوما وانتخاب المجلس التشريعي.

***

في عام 1907 عقد المؤتمر الخامس لحزب العمل الاشتراكي الديموقراطي الروسي في لندن..

ودعا هذا المؤتمر لدراسة ثورة 1905 المجهضة..

وألقي لينين تبعة الفشل علي انعدام التعاون بين المنشفيك وبقية الزعماء الثوريين، ودعا إلي سياسة موحدة وإلي عمل موحد.

ورد مار توف الضربة للينين، واتهمه بأنه قصر في تقديم المعونة المفروضة عليه لثورتهم.. واتهمه خاصة بحجز المعونة المالية عنهم..

وكان ما يثير الإزعاج لدي ماروتوف وغيره من الزعماء اليهود مثل ابراهاموفيتش وزورا لوكسمبورغ، هو أن لينين قد استطاع تأمين المال اللازم لحضور هذا العدد الكبير من المندوبين في المؤتمر..

واتهموه بأنه يقوم بتمويل حزبه البلشفي عن طريق النهب والخطف والتزوير والسرقة..

ووبّخوه لرفضه أن يكتتب بجزء معتبر من أمواله المنهوبة لصالح منظمة الوحدة المركزية.

واتفق المؤتمرون في النهاية علي وجوب إيجاد تعاون أوثق بين القادة الثوريين وقرروا اختيار من سيقوم بتحرير صحفهم، وألقوا أهمية كبري علي الدعاية، مع التشديد علي أن كل ما ينشر في الصحف يجب أن يكون ضمن سياسة الصحيفة التي تلتزم بخط الحزب.

وفي العام 1908 بدا البولشفيكك إصدار صحيفتهم “البروليتاريا”..

وأصدر المنشفيك “جو لوس سوسيتال ديموقراطيا”..

بينما أصدر تروتسكي مطبوعة شبه مستقلة سماها “فيينا برافده” Vienna Pravda.

وفي العام 1909، حصل لينين علي التأييد غير المشروط من زعيمين يهوديين، هما زينوفييف وكامينيف..

وأصبحوا يعرفون “بالترويكا” أي الثلاثي..

واستمرت هذه الصداقة حتى وفاة لينين في عام 1924.

***

قرر لينين أن يختبر شجاعة ومدي إمكانية الوثوق بتلميذه الجديد ستالين، وأراد أيضا أن يُري القواد الآخرين في الحركات الأخرى أنه مستقل ماليا..

وللقيام بهذا العمل المزدوج كلف لينين ستالين بسرقة مصرف تيفليس..

واختار ستالين شريكا له في تلك المهمة أرمنيا يدعي بترويان، الذي أبدل اسمه فيما بعد فأصبح كامو..

وكمنا لعربة المصرف، وقذفها بترويان بقنبلة فجّرت كل ما فيها، ولم يبق صحيحا إلا الصندوق المتين الذي يحوي 250.000 روبل..

وقتل في هذا الحادث 30 شخصا..

وهكذا أثبت ستالين قدرة قيادية كافية فيه.

***

في نهاية ثورة 1905، شرع القيصر نيقولا الثاني بإجراء إصلاح جذري، وصمم على تحويل الملكية الروسية المطلقة إلي حكم ملكي دستوري علي الطريقة الانكليزية..

وبدأ مجلس الدوما بالعمل، وكان رئيس الوزراء بيتر أو كاديفيتش ستولين أحد المصلحين الكبار، وقد أصدر “قوانين ستوليين”، التي منحت الحقوق المدنية للفلاحين، الذين كانوا يشكلون نسبة 85% من مجموع الشعب الروسي..

وقد أدت إصلاحاته الزراعية إلي تأمين المعونات المالية الكافية للفلاحين، بحيث أصبح بمستطاع الفلاح شراء أرضه بنفسه..

وكان اعتقاده يتجه إلي أنّ الوسيلة الوحيدة لمحاربة دعاة الطريقة الشيوعية في الحياة، هي تشجيع فكرة الاستهلاك الفردي.

وكان هم الزعماء الثوريين هو الاستيلاء علي السلطة، ولم تكن تهمهم الإصلاحات في شيء..

وفي العام 1906 حاولت جماعة إرهابية اغتيال ستولين، فدمروا منزله بقنبلة..

وحيكت خطط عديدة للتخلص من رئيس الوزراء، الذي لم يكن الشعب الروسي ليحلم بأفضل منه..

وفي ليلة مظلمة من ليالي أيلول عام 1911، اغتيل أكبر وزير مصلح عرفته روسيا، بينما كان يحضر عرضا مسرحيا في مسرح كييف..

وكان القاتل محاميا يهوديا يدعي موردخاي بورغوف.

وقد حاولت الحكومة الروسية أن تطبّق إصلاحات ستولين بعد مقتله..

وفي عام 1912 أعطي قانونين تأمين العمال الصناعيين، تعويضا عن المرض وعن الحوادث، بنسبة ثلثي المرتب العادي عن المرض وثلاثة أرباع عن الحوادث..

وأعطيت صحف الحركات الثورية صفة شرعية لأول مرة بعد إنشائها..

واتسعت المدارس الحكومية وامتدت..

وأعيد النظر في قوانين الانتخابات لتضمن انتخابا أكثر حرية وأكثر تمثيلا..

وفي العام 1913 منحت حكومة القيصر عفوا شاملا لكل السجناء..

وفور إطلاقهم من السجن شرع هؤلاء في التآمر والتخطيط لقلب الحكومة الروسية. ودعا الإرهابيون إلي تصفية أفراد العائلة المالكة..

ولكن الإصلاحات كانت قد أقنعت الأكثرية الساحقة من الشعب الروسي..

وبدا في ذلك الوقت أن قضية الثورة أصبحت مسألة ميتة، فركز الثوريون مجهوداتهم في بلدان أخري، وعلي وجه الخصوص في أسبانيا والبرتغال.

وأخذت أجهزة الدعاية الشيوعية تبث ضبابا أحمر..

ونظمت حملة مدروسة من التشهير في روسيا، علي غرار ما جري في فرنسا وإنكلترا قبيل ثورتيهما..

وهكذا أصبح الإنسان العادي لا يتصور القياصرة والنبلاء الروس إلا وحوشا ملتحين، يستعبدون الفلاحين ويغتصبون نساءهم الشابات، ويخترقون أجساد الأطفال برماحهم في أثناء نزهاتهم علي ظهور الجياد عبر القوي..

ولكي تبرهن إن آخر القياصرة كان من المصلحين، فسوف نستشهد بكلمات لبرترام وولف وقد كان ضد القيصرية ومع الثورة..

يقول وولف في الصفحة 360 من كتابة “ثلاثة صنعوا ثورة”: “بين 1907 و 1914، وتحت قوانين ستولين للإصلاح الزراعي، أصبح 2.000.000 من الفلاحين مالكين لأراضيهم في القرى..

وقد استمرت حركة الإصلاح تلك حتى في سني الحرب 1914 – 1917..

وفي أول كانون الثاني 1916 بلغ عدد المنتفعين 6.200.000 فلاح..

ورأي لينين أنّه لو تأخرت الثورة عقدين من الزمان، فستحول الإصلاحات الزراعية وجه الريف الروسي، بحيث لا يعود قوة ثورية يعتمد عليها..

وقد كان لينين علي حق..

فعندما دعا في العام 1917 الفلاحين “للاستيلاء علي أراضيهم” كانوا هم قد ملكوا أكثر من ثلاثة أرباعها في ذلك الوقت”.

***

ومن سوء الحظ أن راسبوتين كان يمارس ضغوطا شريرة علي رجال ونساء البلاط الإمبراطوري..

وكانت الإمبراطورة واقعة بشكل كبير تحت تأثير راسبوتين، فقد كان الوحيد الذي استطاع وقف النزيف الذي أصاب ابنها الصغير.

ويبدو واضحا أن راسبوتين كان يتمتع بقوي نفسية مغناطيسية، الأمر الذي كان شائعا لدي فئة من الشعب الروسي..

وبدأ أنه استطاع أن يضع الإمبراطورة تحت سيطرته، لجعلها تجبر القيصر علي ما يريد راسبوتين أن يفعله، فكان هو الذي يحكم روسيا، الأمر الذي أدي إلي استياء الشعب الروسي.

ومن الثابت أيضا أن راسبوتين أدخل إلي دوائر البلاط رجالا ونساء كانوا يمارسون طقوسا وثنية، مثل التي كانت تنفذ سرا في البالية رويال قبيل اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789..

وكانت هذه الطقوس تستند إلي مبدإ تافه، يقول أن الأرواح لا تنجو إلا إذا انحدرت إلي الدرك الأسفل في الخطيئة!..

وأدخل راسبوتين المخربين إلي البلاط الإمبراطوري، مما مكنهم من الاطلاع علي أسرار الشخصيات الكبيرة، وبالتالي ابتزازهم وجرهم لفعل ما يأمرهم به رؤساء المخربين.

الحرب العالمية الأولى:

في كانون الثاني من عام 1910، اجتمع تسعة عشر قائدا من قواد الحركة الثورية العالمية في لندن..

ويعرف اجتماعهم هذا بـ “مجمع كانون الثاني للجنة المركزية”.

وقرر المجمع القبول بصحيفة “سوسيتال ديموقراطيا” صحيفة الحزب العامة..

واختار البلاشقة لينين وزينوفييف محررين في الجريدة، بينما اختار المنشفيك لتمثيلهم فيها مارتوف ودان..

وعين كامينيف مساعدا لتروتسكي في تحرير صحيفة “فيينا برافده”..

وكان علي الأعضاء أن ينشطوا للدعوة إلي مبادئهم الثورية الإلحادية.

***

اغتيلت إمبراطورة النمسا عام 1898..

واغتيل الملك هومبرت عام 1900، والرئيس ماكينلي عام 1901..

واغتيل الغراندوق رجيوس الروسي عام 1905..

واغتيل ملك البرتغال وولي عهدها عام 1908.

قرر قادة الحركة الثورية العالمية المجتمعون في جنيف بسويسرا أنه أصبح من الضروري إزالة الملك كارلوس ملك البرتغال لتأسيس جمهورية في تلك البلاد، وهكذا أصدروا الأمر باغتياله عام 1907..

وفي كانون الأول 1907 ذهب ميغالهايس ـ رئيس مجمع الشرق الأكبر الماسوني في البرتغال ـ إلي باريس، ليحاضر أمام المحافل الماسونية..

وكان موضوع محاضرته “البرتغال، محاولة قلب الملكية، وضرورة إنشاء نظام جمهوري”..

وبعد ذلك بأسابيع قليلة، اغتيل كل من الملك كارلوس وابنه ولي العهد.
وقال فيرغون ـ خطيب المجمع الماسوني للشرق الأكبر في أسبانيا ـ في 12 شباط 1911: “ألا تدرون ذلك الشعور العميق بالفخار الذي أحسسنا به لدي إعلان الثورة البرتغالية؟..

فقد تم في ساعات قلائل، الإطاحة بالعرش وانتصار الشعب وإعلان الجمهورية..

كان ذلك بالنسبة للمبتدئين بمثابة ومضة برق في سماء صافية. ولكننا نحن، يا أخوتي، نحن الذين نفهم..

نحن نعرف التنظيمات المدهشة لإخواننا البرتغاليين، كما نعرف حماستهم التي لا تفتر وعملهم الذي لا يتوقف..

ونحن نعلم سر ذلك الحدث المجيد”.
اجتمع قادة الحركة الثورية العالمية والمسؤولون الكبار في الماسونية الأوروبية في سويسرا عام 1912..

وقرروا في هذا المؤتمر اغتيال الأرشيدوق فرانسيس فرديناند، تمهيدا للحرب العالمية الأولي..

وفي 15 أيلول 1912، نشرت مجلة “ريفيو انترناسونال دي سوستيه سيكرت” التي يحررها (م. جوين) الكلمات التالية علي الصفحات 787 ــ 788: “قد يلقي بعض الضوء يوما علي هذا الكلام، الذي قاله مسئول ماسونيّ كبير في سويسرا، لدي بحث موضوع وريث عرش النمسا..

قال ذلك المسؤول: “إن الأرشيدوق رجل نبيه، ومما يؤسف له أنه محكوم عليه..

سوف يموت علي درجات العرش”.

وألقي الضوء علي هذه الكلمات خلال محاكمة القتلة، الذين اغتالوا وريث العرش النمساوي وزوجته في 28 حزيران 1914..

وكان هذا العمل الذي ارتكب في ساراييفو، الشرارة التي أدت إلي انفجار الحرب العالمية الأولي..

إن التقرير المختزل الذي كتبه فالروس حول المحاكمة هو وثيقة دامغة..

ويثبت هذا التقرير أن أصحاب المصارف العالميين استعملوا محافل الشرق الأكبر الماسونية لإشعال الحرب العالمية الأولى، تماما كما استعملوها بين 1787 و 1789 لتفجير الثورة الفرنسية..

وفي 12 تشرين الأول 1914 استجوب رئيس المحكمة العسكرية كابرينوفيك Cabrinovic، ملقي القنبلة الأولي علي سيارة الأرشيدوق.
قال رئيس المحكمة: “أخبرني المزيد عن البواعث..

هل كنت تعرف قبل القيام بالمحاولة، أن تانكوزيك وسيجانوفيك من الماسونيين؟..

وهل أثر علي قراراتك كونك ماسونيا مثلهم؟”.

كابرينوفيك: “نعم”.

الرئيس: “هل تلقيت منهم الأمر بتنفيذ الاغتيال؟”.

كابرينوفيك: “لم أستلم من أحد أمرا بالاغتيال..

وكل ما فعلته الماسونية هو أنها قوّت من عزيمتي..

والقتل مسموح به في الماسونية..

وقد أخبرني سيجانوفيك أن الماسونية كانت قد حكمت علي الأرشيدوق فرانز فرديناند بالموت منذ أكثر من سنة”.
أضف إلي ذلك الإثبات، البرهان الآخر الذي قدمه الكونت زيزين، وهو أحد الأصدقاء الحميمين للأرشيدوق..

قال: “كان الأرشيدوق يعلم أن محاولة لاغتياله وشيكة الوقوع، وقد أخبرني قبل الحرب بنفسه أن الماسونيين الأحرار قرروا اغتياله”.

***

وبعد النجاح في إشعال نار الحرب العالمية الأولى، حاول القادة الثوريون إقناع العمال والجنود أن هذه الحرب هي حرب رأسمالية..

وألقوا باللوم علي الحكومات في كل القضايا الشائكة.

لما كانت روسيا خارجة من حرب منهكة مع اليابان منذ سنوات قليلة، كان من السهل نسبيا خلق جو عام من الشك والقلق في نفوس العمال الروس، وحتى بين جنود القوات المسلحة في فترة 1914 ــ 1916..

وحتى كانون الثاني 1917، كانت الجيوش الإمبراطورية الروسية قد تكبدت ما يقارب 3.000.000 إصابة، وفقدت زهرة شبابها.

كان لينين ومارتوف في سويسرا، وهي البلد المحايد الذي توضع فيه كل المخططات والمؤامرات العالمية..

وكان تروتسكي يتولى تنظيم المئات من الثوريين الروس الذين لجأوا إلي الولايات المتحدة..

وكان قادة المنشفيك يمارسون نشاطهم التخريبي في روسيا..

وأتهم الفرصة في كانون الثاني 1917..

وقد حدثت عمليات نفذت بمهارة، أدت إلي تخريب أجهزة الاتصالات، ومركز النقل ووزارة التموين..

ونتج عن ذلك نقص خطير في المواد الغذائية في بطرسبرج..

وحدث هذا في الوقت الذي كانت فيه المدينة تشكو من تضخم عدد السكان، بسبب العمال الصناعيين الذين كانوا يفدون إليها، بسبب الاحتياج إليهم في المجهود الحربي.
وكان شباط 1917 شهرا رديئا، وعمل بنظام تقنين الطعام..

وكان القلق عاما في آذار..

وكانت صفوف المواطنين طالبة الخبز تتزايد باستمرار..

وفي آذار امتلأت الشوارع بالعاطلين عن العمل..

وكان القيصر ما يزال في الجبهة يزور الجنود.

وفي 7 آذار، نظم قادة المنشفيك اليهود تظاهرة نسائية في الشوارع، احتجاجا علي النقص في الخبز.

وفي 8 آذار قامت النساء بتظاهرتهنّ الكبرى..

وبعد ذلك تدخل الثوريون..

وكانت جماعات مختارة تقوم بمتظاهرات جانبية..

وظهرت زمر الأشرار هنا وهناك، تنشد الأناشيد الثورية وترفع الإعلام الحمراء..

وفي تقاطع نيفسكي بروسبكت وقنال سانت كاترين، قام رجال الشرطة والجنود بتفريق المتظاهرين بدون أي إصابة..

وبدا أن الأوامر المحددة كانت قد أعطيت للجنود لتجنب التورط مرة ثانية في حادثة مماثلة لحادثة يوم الأحد الدامي عام 1905.

في التاسع من آذار امتلأت المنطقة بين نيفسكي بروسبكت وسانت كاترين حتى محطة نيقولاي بالجماهير الحاشدة، التي أصبحت أكثر شجاعة تحت تحريضات مثيري الفتن والمشاعر..

وتولّت خياله القوزاق تنظيف الشارع..

ولم يستعمل الخيالة إلا باطن سيوفهم، ولم تستعمل الأسلحة النارية أبدا..

وأغاظ هذا التسامح الزعماء الثوريين، الذين أصدروا تعليماتهم للمحرضين بزيادة جهودهم، لإحداث مواجهة مباشرة بين الشعب وبين الشرطة والجنود..

وفي الليل ركب الثوريون مدافعهم الرشاشة في مواضع خفية من المدينة.

وفي آذار، حدثت حادثة مؤسفة..

فقد احتشد جمهور غفير أمام محطة نيقولاي..

وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر، مرت في تلك الساحة عربة فيها رجل مغطي بالفرو لحمايته من البرد القارس..

وكان الرجل عديم الصبر، فأمر سائقه بالمرور بين الناس..

وكان هذا خطأ منه في الحكم علي أعصاب المحتشدين.

سحب الرجل من عربته، وانهال الناس عليه ضربا..

وعندما استطاع الوقوف علي قدميه، جر نفسه إلي عربة متوقفة في الشارع، فلحقه قسم من الجمهور، حيث ضربة أحدهم بقضيب من الحديد علي أم رأسه..

وأثار هذا العمل شهوة الدماء عند الجمهور، فاندفعوا عبر شارع نيفسكي يحطمون النوافذ ويثيرون الشعب..

وبدأت المعارك، وعمت الفوضى..

وكان القادة الثوريون بحسب الخطط الموضوعة، يطلقون النار علي الجماهير من أماكنهم السرية..

وهاج الرعاع، وهاجموا الشرطة، متهمين إياها بالبدء في إطلاق النار عليهم، وذبحوا شرطيا مقابل كل رجل منهم..

ثم جري إطلاق سراح المساجين، ليشتركوا في حملة الدم..

وهكذا خلقوا الظروف الملائمة لحكم الإرهاب.

وفي 11 آذار، أدي إطلاق سراح السجناء والمجرمين إلي خلق حالة فوضي وشغب عامة..

وكان مجلس الدوما ما يزال يتابع محاولاته لتطويق المد الثوري..

وأرسلوا إلي القيصر رسالة مستعجلة، يخبرونه فيها أن الحالة خطيرة، ويشرحون بإسهاب حالة الفوضى السائدة..

ولكن الخلايا الشيوعية العاملة في حقل المواصلات أرسلت رسالة أخري..

ولدي قراءة القيصر لهذه الرسالة المزورة، أمر بحل مجلس الدوما!!..

وهكذا حرم نفسه من تأييد أكثرية الأعضاء الموالية له.

وفي 12 آذار، ثارت بعض الوحدات وقتل الجنود ضباطهم..

وفجأة استسلمت حاميات حصون سانت بيتر وسانت بول، وانضم معظم الجنود إلي الثورة.

وفور استسلام الحاميات، تشكلت لجنة من الدوما مؤلفة من 12 عضوا..

وقد استمرت تلك الحكومة الإقليمية في العمل، حتى قلبها بلاشفة لينين في تشرين الثاني من 1917..

وتولي القادة الثوريون تنظيم حكومة بطرسبرج الثورية، وسمحوا للحكومة الإقليمية بالعمل لأنها كانت تمثل السلطة الشرعية.

وتولي لينين أمر أَضعاف نفوذ الزعماء اليهود الثوريين في روسيا، ووعد بسحب الجيوش الروسية من الحرب مع ألمانيا، مقابل أن تساعده الحكومة الألمانية علي قلب الحكومة الإقليمية، وعلي السيطرة التامة علي السياسة والاقتصاد في روسيا..

وبعد الاتفاق علي هذه القضية، عاد لينين ومارتوف وراديك وفريق من 30 شخصا من البلاشقة إلي روسيا سرا، بواسطة عربة سكة حديد مغلقة..

ووصلوا إلي بطرسبرج في 3 نيسان.

وقعت الحكومة الإقليمية وثيقة وفاتها بيدها، عندما أصدرت عفوا عاما غير مشروط عن جميع السجناء السياسيين..

وكان العفو يشمل أولئك المنفيين إلي سيبيريا، وأيضا الذين طلبوا اللجوء إلي البلدان الأخرى..

وأتاح هذا الأمر لحوالي 90.000 من الثوريين الروس المتطرفين الدخول إلي روسيا، وكان العديد منهم قادة مدربين..

وجند لينين وتروتسكي هذا العدد الضخم في الحزب البلشفي.

فور عودة لينين إلي روسيا، شرع باستعمال وسائل الإعلام لمهاجمة الحكومة الإقليمية التي منحته وأتباعه العفو..

وفي أوائل نيسان كان المنشفيك يسيطرون علي الحكومة الثورية أي مجلس العمال..

وكان يأتي بعدهم في الأهمية “الإيسار” (الاشتراكيون الثوريون)..

أما البلاشفة فقد كانوا فئة الأقلية..

وكانت سياسة الحكومة الإقليمية تتجه إلي استمرار الحرب مع ألمانيا، لأن أكثرية الروس كانت تعتبر مطامع النازية الألمانية السوداء خطرا مباشرا علي سيادتها..

وكان تشيدز الذي تولي رئاسة الحكومة الثورية في بطرسبورغ بعد مارتوف مؤيدا لهذا الرأي بكل قواه..

وكان نائب الرئيس سكوبوليف مؤيدا لمتابعة الحرب، لأنه اعتقد أن الثوريين في حال متابعتهم الحرب وهزيمتهم للجيوش الألمانية، سيتمكنون من مساعدة الجماعات الثورية في ألمانيا وبولندا ضد الحكومات المهزومة.

كان هدف لينين الوحيد في ذلك الوقت، هو الحصول علي الزعامة..

هاجم سياسة الحكومة الإقليمية، واتهم أعضاءها بالعمالة للبورجوازية، ودعا علنا إلي الإطاحة بها..

وفي ذات الوقت لم يشأ أن يعادي حكومة المنشفيك الثورية، فأصدر تعليماته إلي المحرضين البلاشقة بدعوة عمال المصانع وجنود الحاميات إلي تدمير الحكومة الإقليمية.

وكان تروتسكي ضمن الألوف من الثوريين الذين عادوا إلي روسيا بعد العفو، وأخذ معه في طريق العودة المئات من الثوريين الذين هربوا من روسيا إلي أميركا وكندا..

وكانت غالبيتهم العظمي من يهود الأطراف الشرقية من نيويورك.

وساعد هؤلاء الثوريون لينين في الوصول إلي السلطة..

وكان معظمهم بعد إنهاء مهماتهم، يحكم عليهم بالموت أو بالنفي..

ولم ينقض وقت طويل حتى كان أعضاء المؤتمر العالمي الأول إما مقتولين وإما في السجن وإما في المنفى!

***

والإثباتات حول الدور الذي لعبه الصيارفة العالميون لمصلحة لينين في الثورة الروسية، نجده في “الكتاب الأبيض” الذي صدر في بريطانيا بإذن الملك في عام 1919 “روسيا رقم 1”..

ولكن الصيارفة العالميين العاملين من خلال مدراء مصرف إنكلترا “أقنعوا” الحكومة البريطانية بسحب الوثيقة الأصلية، واستبدالها بأخرى حذفت منها كل إشارة لليهود العالميين.

يقول فرانسوا كوتي في عدد الفيغارو في 20 شباط 1932:

“إن هذه الهبات التي كان يمنحها يعقوب شيف إلي حركات الفوضويين والثوريين في روسيا وسائر البلاد، ليست نفحات من الكرم الفرديّ..

وقد أسست في الولايات المتحدة منظمة روسية إرهابية علي نفقة شيف، مهمتها اغتيال الوزراء والحكام ورؤساء الشرطة وغيرهم”.

والنورانيون الذين يستعملون الشيوعية والنازية لتحقيق مطامعهم السرية الديكتاتورية يضعون العمل الثوري في ثلاث مراحل أو حركات:

1. تغيير شكل النظام القائم إلي دولة اشتراكية، وبالوسائل الدستورية إذا استطاعوا.

2. تحويل الدولة الاشتراكية إلى ديكتاتورية عمالية، بواسطة العمل الثوري.

3. تحويل الديكتاتورية العمالية إلي حكم مطلق، بتطهير كل الأشخاص الذين يقفون في طريقهم.

***

بعد عام 1918 انقسم اليهود الروس إلي قسمين: الثوريون المتشبثون بالنظريات الماركسية، العاملون علي إقامة اتحاد عالمي من الجمهوريات الاشتراكية (التروتسكيون)..

والقسم الآخر يحبذ العودة إلي فلسطين (الصهاينة)..

وتقول الآنسة ب. باسكرفيل في كتابها “اليهودي البولندي”، الصادر عام 1906، في الصفحات 117 – 118: “تهدف الصهيونية السياسية إلي تحويل الصهاينة إلي اشتراكيين قبل هجرتهم إلي فلسطين، وذلك لتسهيل إقامة الحكومة الاشتراكية..

وفي ذات الوقت يحاولون قلب الحكومات الأوروبية التي لا تعمل وفق مبادئهم..

ويحتوي برنامجهم المليء بالأفكار الاشتراكية علي تنظيم الإضرابات وأعمال الإرهاب”.
وفي آذار 1918 غير البلاشقة اسمهم، وكانوا قد سموا أنفسهم “حزب العمل الديمقراطي الروسي”، فصاروا يعرفون باسم “الحزب الشيوعي” ونقلوا مقرّهم إلي موسكو.

لم يقبل الحزب الاحتياطي الثوري الذي يقوده اليهود أن يصبح لينين الرجل الأول في روسيا، لذلك حاول اثنان من هذه الجماعة اغتياله في 30 آب 1918، فجرح لينين بينما قتل يورتزكي الذي عينه لينين قائدا لمنظمة شيكا..

وقد أخذ لينين هذا الحادث مبررا للقيام بأعمال إرهابية واسعة جدا وبدون أي توقف، فأصبحت الغارات الليلية تجري بشكل متواصل، حتى إن الذي كان يذهب لينام في فراشه لم يكن يدري هل سيعيش ليلقي الصباح أم لا!..

يقول دافيد شوب في كتابه المؤيد للماركسية “لينين”: “وقد ضيع القليل من الوقت في استقاء الشواهد وفي تصنيف الناس “المكدسة” نتيجة هذه الغارات الليلية..

ويقاد المساجين إلي مركز البوليس القديم بجانب القصر الشتوي، حيث يعدمون رميا بالرصاص”.

ولقد كان القتل والتعذيب والبتر والاغتصاب والحرق، كل ذلك كان الصخرة العقيمة التي قام عليها ما يدعي “بجمهورية السوفيات الاشتراكية”.

لقد مات الملايين من المواطنين الروس، كما أنّ هناك ما يقدر باثني عشر مليونا آخرين، حكم عليهم بخدمة الدولة عن طريق الأعمال الإجبارية حتى يطلق سراحهم بالموت.

#أحجار_على_رقعة_الشطرنج

#وليام_غاي_كار

أحجار على رقعة الشطرنج

Exit mobile version