جراثيم التعليم “فنلندية”.. !
د .نيرمين ماجد البورنو
رفعت فنلندا شعار “تدريس أقل؛ تعلم أكثر” وتخلصت من “جراثيم” التعليم متصدرة أفضل الأنظمة التعليمية, حيث حاز طلابها مراكز مرموقة عالمياً,
وكانت أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من “الجراثيم” كما يقول ” باسي سالبرغ”,
فقد اتخذت فنلندا خطوات فاعلة للنهوض بالتعليم والتخلص من المثالب المعرقلة للعملية التعليمية, واعتبرت أن أول عقبة في اصلاح العملية التعليمية هي تكثيف المواد
وهى أحدى أهم العواٌئق التي تقف أمام تطور التعليم في منطقتنا العربية وفق قاعدة التعامل مع الطالب بالكم وليس بالكيف.
أما نحن فنعتبر الطالب عبارة عن مخزن للمعلومات, والمهم في أنظمتنا التعليمية أن ننهي المنهاج بأي وسيلة,
وكم ينجز الطالب من الواجبات اليومية وكم من مره يتم اختباره وكأنه آلة لا ذاكرة لها,
حتى اذا حان موعد الاختبار أفرغ على الورق كل مخزونة الذهني الذي سرعان ما ينساه, وربما تجده يلقي بالكتاب جانباً, ببساطة: لأنه لا يحب المادة التي يدرسها.
اعتبرت فنلندا أن هذا الأسلوب هو الأخطر على التعليم لأنه يتعامل مع الطالب وكأنه مجرد خزان للمعلومات وليس ككائن بشري مفكر له عقليته الناقدة المتأملة.
والمعضلة الثانية التي تخلصت منها فلندا هي كثرة الاختبارات والامتحانات, فجنبت الطالب عن شبح الاختبارات المرعبة.
أما نحن فما زلنا محتفظين بأساليبنا التلقينية التقليدية التي لا تُعمل العقل ولا تحفز على حرية التساؤل والشك, والتمسك بالامتحانات “المرعبة” كمعيار للتقييم,
ليس للطالب فقط وإنما للأهالي لأنها مرتبطة بالمصير المستقبلي الذي يحدد تجاه أبنائهم. هل فكرنا للحظة بحال الطالب اثناء تقديمة للامتحان وكيف كانت نفسيته وهل كان مريضا أو قلقا أو يعاني من مشاكل أسرية أو عاطفية ونحكم عليه خلال دقائق وساعات ونحدد مصيره؟
لم تقتنع فنلندا بمردود سياسة الاختبارات, فحددت دور المدرس في مساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف دون ملاحقته بالامتحانات الطويلة والمفاجئة وتفادت مواسم الرعب.
الآفة الثالثة التي تخلصت منها فنلندا هي إطالة ساعات الدوام لأنها اعتبرت الساعات الطويلة إنهاك لصحة الطالب ذهنيا وإرهاقه جسديا مما يتسبب في ضعف التركيز وزيادة الملل وبالتالي كره المدرسة والمعلم, لذا رفعت فنلندا شعار تدريس أقل ,
تعلم أكثر” وهو ما يعني تقليل وقت التدريس مع تعلم أكثر لأنها ترى أنه لا توجد علاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق والابداع ولأنها تقتنع ان زيادة الساعات الدراسية مضيعة للوقت,
فقلصت ساعات الدراسة ما جعل الطالب أقل قلقاً وأكثر تفوقاً, فيما تصر طرائق التعليم العربية على تعظيم قيمة الساعات الطويلة في الدوام باعتبارها دليل على العطاء والإصرار.
أما العائق الرابع فهو الدراسة المنزلية وحل الواجبات حيث توصلت فنلندا الى قناعة أن للطالب الحق في الاستمتاع بوقته خارج وقت المدرسة ,
ولا يجب الاستحواذ عليه وان له الحق في قضاء الوقت مع أسرته واصدقاءه حتى ينشأ في جو متوازن ويبني شخصيته بشكل نفسي سليم ؛
فيما نحن ما زلنا نطالب بنسخ الجداول وحفظ النصوص والتأكد من سلامة الذاكرة, لا سلامة التفكير, ونرهق الطالب والأهل لمنتصف الليالي,
الذين يستعينون أحيانا بالجيران والاصدقاء لمساعدة أبنائهم في فك رموز الطلاسم والمعادلات.
أما الكارثة الأخطر فهي الدروس الخصوصية, وتعد أكثر المظاهر تفشياً في المجتمعات العربية, وترجع للعديد من الأسباب والتفسيرات المختلفة كل دولة حسب ظروفها,
فبعض الطلبة لا ينال حقه في الفصل بسبب كثرة العدد في الفصل الواحد والذي قد يتجاوز خمسون طالباً وطالبة,
أو بسبب تكدس المعلومات في المنهاج وتفاوت الذكاء بين الطلاب مما حذا ببعضهم الى الاتكاء على الدروس الخصوصية,
وفي بعض الأحيان يلجأ المعلم الى أساليب لكي يلزم ويجبر الطالب على زيادة الاعتماد على الدروس الخصوصية.
وأخيراً, تقف المواد المعقدة التي لا تغني ولا تسمن من جوع عائقاً أخر أمام العملية التعليمية, وهي مواد عالة على الطالب, لا تنفعه لا في واقعه ولا حتى في ميوله واتجاهاته, وهي ما يطلق عليها الدكتور” باسي سالبرغ” وصف “المعرفة المعزولة”,
ويعني بها المعلومات التفصيلية التي لا يتداولها الا أهل التخصص الدقيق, وهي مواد مسهبة لا يحتاج اليها الطالب في دراسته, تضيع وقته وقدراته في ما لا طائل ولا فائدة منها.
هذه “الجرثومة “ما زلنا نحسد عليها في مناهجنا العربية, متكدسة للحشو والتلقين وللتباهي,
مناهج تحتوي على مئات الصفحات, لا تدع مجالاً للإبداع. وإنما تعزز عمليات “الصم” والتلقين بعيدا عن الفهم والتفكير.
تلك مجموعة من العوامل التي تقف أمام عملية التعليم, ما زلنا نعاني من وجودها وقد آن الأوان للتخلص منها باعتبارها محددات أو معيقات أو “فضلات” أو “جراثيم” كما أسمتها فنلندا.
هل حقاً سنتخلص يوماً من تلك الاشكالات التي تقف كعقبات كأداء أمام التعليم والتنمية, ونقتدي بالنماذج الناجحة عالميا ؟
ام سنبقي بسبات ونغمض أعيننا ونشتكي للزمن ونلوم أنفسنا, ونتساءل عن أسباب تخلفنا,
ام سنلجأ الى اعادة بناء مناهجنا وأساليبنا التعليمية فيما يتوافق مع العصر والتطور والاستفادة من العبر التي توصلت لها دوله مثل فنلندا لا يوجد فيها أمّي,
وأن يصار الى صقل شخصية الطلبة وتنمية مهارات التفكير الابداعي والتواصلي والطلاقة الرقمية.
هل ستتخلص الدول العربية من هذه الآفات المنهكة للعملية التعليمية والتي أرهقت المعلم والتلميذ معا وأضعفت وأثقلت المنظومة التعليمية بالكامل ؟
إنها مجرد اسئلة ليس المطلوب من الأفراد الاجابة عليها, وإنما الاجابة هي باستجابة مؤسسات التعليم والتعليم العالي للإجابة على هذا الاسئلة والتي قد تحتاج في أوطاننا الى قرار سياسي.