العلم عند الله للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور

العلم عند الله

العلم عند الله للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور

العلم عند الله

تحصيله ــ المقدَّم منه والمتعين ــ خطته ــ نعيمه ــ الغاية القصوى

للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور

[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] التوبة: 122.

عَذَر الله _ تعالى _ المؤمنين في قعود فريق منهم عن طلب العلم، ولقاء رسول الله ”

لما علم ما سنّه ناموس الكون أنه لا يستقم نظامه إذا اتحدت غاية أهله في أعمالهم كيفما بلغت من الشرف.

وحسبك من شرف العلم اتفاق العقلاء وغيرهم أنَّه أعلى صفة يتحلى بها البشر، وأسمى غاية يقصدها الناس،

وصل ذلك إلى حد أن عَرَفَتْه العامة في أسواقها، وتهافتت على الاتسام بميسمه والتعوذ من ضده.

ولكن مع ذلك لو اقتصروا عليه لفسد نظام الكون كما لو اقتصروا على غيره؛

فأمرهم أن تنفر من كل فرقة منهم طائفة؛ لتحصيل العلم والتفقه بالدين؛

لأنَّ العلم لا يستقيم بدونه، ولأن وجود العلماء من بين الفرق تنبيه لها، ونبراس ينوس بين يدي صنعها في ظلمات الشك.

هب أنها وصلت من السقوط إلى حد أن كانت في صمم عن تلقي نصائحهم؛

فإنها لا تعدم في ضمن ذلك شعورها بحقائق الأشياء، وصد الباطل منها عن الحق سواء رضيها أم أسخطها .

ولا مرية أن إتيان الشيء بعد العلم بحالة ادعى للدوام عليه إن كان خيراً،

وأقرب إلى الانكفاف والتقهقر عنه في حكم سخافته وكراهته التي تنطبع في النفس مع العلم بحاله مهما غولطت تلك النفس في انطباعه، أو عرضت سحب وهمها لستر شعاعه .

الغاية الذي حض الله _ تعالى _ عليها الناس بلولا المتلوة بالفعل هي الفقه في الدين،

والفقه إدراك الأشياء الخفية، وهو بهذا المعنى باب الحكمة، أو هو الحكمة نفسها؛

ولذا نرى الله _ تعالى _ ينفي عن أقوام الفقه في مواضع الخفاء نحو ما قال[وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ]الإسراء: 44.

فهو تمهيد للعذر في الجملة، وينفي عن آخرين العلم في مواضع الظهور نحو لا يعلمون، وفرق مابين العلم والفقه .

كان الله _ تعالى _ ولا يزال حريصاً على المؤمنين أن يتلقوا الدين بفهم لخفاياه وأسراره؛

فأوصاهم في غير موضع بالفهم والاستنباط والعلم، مرة بالتصريح،

وأخرى بالإشارة حتى بترك البيان في مواضع،

وذلك أرشدنا إلى أن الغاية المطلوبة من العلم كيفما كان هي الوصول إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه بحيث لا يحتمل نقيضاً .

ولا يؤثر فيه تشككيك المشككين , ولا اعتراض أو سخط الواهمين .

سنَّ الله _ تعالى _ النفر في طلب العلم ,والعلم وإن كان ربما وجد في فسطاطك، بل في بيتك؛

فقد كان النفر والرحلة من أكبر ما يفيد قوته وكماله.

وبمقدار الرحلة إليه تحصل غايات شريفة من معانيه؛ لأن التعلم باعتبار المغبَّة يؤول إلى توسيع الرأي وقوته؛

ليكون رائد نفسه بنفسه, والعمل الذي هو موجب رسوخ الملكات في أصحابها ونموِّها في جانب العلم والرأي _ هو ملاقاة الآراء وتقادحها, حتى قيل: ما بين الرأيين رأي .

انظر إلى رجل يقرأ في بيته ما يقرأ الناس,كيف لا تجده على كمال نحو ما تجد المتعلم بالدروس العامة؛ لما يلقاه من مقادحة الأفكار ومبادلة الآراء.

وفي ذلك دَرَبَةٌ عقلية طبيعة تحصل بتدرج وخفاء حتى تنمو الملكة العقلية وتعتاد بالعمل التيقظ؛

إذ التشاور الفكري والتبادل النظري يجعل جليسك منبِّهاً لغفلتك عند حصولها ,

كما يجعلك له منبهاً حتى يصير التنبُّه إلى الحقائق سجيَّة لك متى كنت مجبولاً على التهيؤ لذلك، والرحلة بعد ذلك تفيد أكبر.

ولو ذهبت تعد الأفراد الذين سموا برسوخ القدم إلى مرتقى راق في قوة الرأي _ لرأيت فيهم من الراحلين أكثر مما ترى غيرهم؛

وما وصلت إلى قرطبة بعلمائها إلى تلك الغاية إلا بالرحلة ,

ولعلك تذكر الباجي، والأصيلي، وأبا بكر بن العربي، وبقيَّ بن مخلد، ومنذر بن سعيد البلوطي، وعبدالملك بن حبيب و…..

خص الله _ تعالى _ الفقه في الدين من بين العلوم كلها؛ لأنه يومئذ واليوم أكبر شيء تحتاج له الأمة؛

إذ لا يكون لها أن تعرف كنه شرعها الذي هو مستودع آدابها، وتعليماتها القانونية، والأخلاقية وملاك تقدمها إلا به.

وذلك ينبغي أن يكون الفرض الأول من تعليم المسلمين في أي زمان وأي مدرسة, وبدونه لا يستقيم لهم أمر كما لم يستقم.

ثم لما آل أمر العلم إلى قضاء الحاجة منه,وكان تعليم الأمة في كل زمان على مقدار حاجتها,

وربما تزيد على علم الدين, فمن المتعين عليها أو على من يدبر أمر تعليمها من سادتها وكبرائها الحكماء أن تضم إليه ما تحتاجه,

سواء في ذلك مبادئ الدين و هي علوم العربية: اللغة والنحو والبيان التي لا يمكن لغير العربي بالسجية أن يصل إلى معنى الفقه في الدين بدونها،

أم غيرها من العلوم التي يتوقف عليها كمالها؛

فالحاجة هي مقدر العلوم وهي شيء واحد ينطبق على كل زمان؛ عنيت بالحاجة أن يتوقف تقدم الأمة، ويتقلص ظلها،

ولا يمكنها مزاحمة غيرها من الأمم في خوض لجة الحياة بدون ما احتاجت إليه؛

فذلك العلم الذي يطلب منها في مرتبة فرض الكفاية, وهذا في كل زمان يتحول مع المحافظة على الأصل الذي نص الله عليه,

وهو الذي لا يحتوي إلا متى تحولت الأمة كلها, والحكيم قدير على أن يشرح هذا في دروس أو مقالات فائضة يتبع بعضها بعضاً.

نبَّه الله _ تعالى _ على أن فائدة المتعلم من علمه أمران مهمان:

أحدهما: تفقهه في نفسه الذي يرفع عنه رجس الجهالة، ويذيقه حلاوة الإدراك، ويخفف همه، ويعمر وقته، ويجيد عمله.

وثانيها: وهي الغاية العامة والمصلحة الشاملة إنذار قومه وأمته الداخل تحت عموم قوله _ تعالى _: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ]العصر: 3.

وقول رسوله: =الدين النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم+.

إنذار القوم هو أن يبلغ لهم أمانة الله _ تعالى _ مما علمه على ما هو معتقد غير مداهن في ذلك؛

لاستجلاب بشاشة الكبراء، أو قضاء مألوف العامة.

بل الذي أوجبه الله _ تعالى _ أن ينذرهم بما علمه على ما اعتقده سواء أرضى الأمة أم أسخطها،

متذكراً في ذلك قول رسوله الأمين ” في خطبة حجة الوداع =ألا هل بلغت اللهم فاشهد+ يكررها المرات .

أما التصميم في الرأي فهو الذي يُفْشل المكابرين، ويركد ريح الحاسدين،

والعاقبة بعدُ للمتقين قال الله _ تعالى _ [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] آل عمران: 146.

لسنا نطالبه أن يعض بالنواجذ على رأيه وإن كان خطأ؛

لأن هذه صفة المكابرة التي نتبرأ منها، والمجاحدة التي جاء الدين لإزالتها من نفوس الناس.

ولكنا نرغب أن لا يرجع إلاَّ إلى العلماء الحقيقيين متى أرجعوه بالدليل، ولا عليه أن لا تتقبل الأمة نصحه وعلمه؛

فييأس من غاية سعيه،

ويستأيس إن قد خاب أمله، ويرى أن لم تبقَ فائدةٌ في تذكير قوم كالأنعام أو هم أضل سبيلاً؛

فموافقتهم أولى من مخالفتهم، يتأول أن الله ما أمر بالمجاهرة بالحق إلا لتحصل الغاية منها،

فإذ قد انعدمت الغاية كان الواجب أن نسعى في مرضاة قومنا، فنحصل _ في الأقل _ على لذة المصافاة، هذا هو سوء التأويل.

إنَّ الإنذار بالحق يقذف في قلوب المنذرين علماً إن خالفوه أصيب هواهم بالمرار من النكد، أو شكاً يكشفه لهم ريب الزمان.

وتكرر الإنذار إن لم ينفث في قلوب المنذرين ما أُمَّل منهم لا يعدم أن يصدر عن أزدواجه نشأٌ ربما يطبق تكاثفه المُتَرَقَّبُ جو العقول،

ويمطر من مزنه على أرض قلوبهم الميتة، وليذكر ما أوصى الله به رسوله [إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ] الشورى: 48،

وقوله [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ] البقرة: 272،

وقوله [وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين]، [ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)]، [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)] الحجر.

نظراً لهذا المعنى حين علم الله _ تعالى _ عسر تحول الناس عن الفهم،

وانقلابهم عن جهلهم وشدة استمساكهم بضلالهم ما حقق لنا سبحانه لحصول الغاية _ وهو أعلم بالحال _ ولكنه جعلها في موضع الرجاء لا في موضع اليقين فقال: [لعلهم يحذرون].

فإن قال قائل من الذين يستمعون إلينا: إذا كان العلم كمالاً، واشتاقت النفوس إليه وأراد كل أحد أن يضرب بسهمه فيه،

حين يعلم بما وصفت حاله قبل من الرجس وسوء القصد _ فبأي وسيلة يمكن أن نكشف عنها هذا الرجس مع قضاء حق الكون من اختلاف الآيات والأعمال؟

وكيف نستطيع أن نجعل العلماء صانعين سواء كنَّا مدبري أمر الأمة أم بالأقل أمر أنفسنا وأبنائنا ومن يهمنا الأمر بحالهم من أصفيائنا ؟.

فجوابنا أن طريقة ذلك أن يسعى معلموهم في ثلاثة أمور إن تمت لهم.

الأمر الأول:

أن يقذفوا في قلوب الأمة جمعاء الإقناع بمبدأ واحد، وهو الشعور بأن تقدم أي صناعة يتوقف على إتقان علم تلك الصناعة، وتنوُّر عقل صاحبها؛

فإتقان علمها شيء ثانٍ وهو أن يمارس قواعدها سواءٌ كانت ممارسة مدرسية كلية،

أم تجريبية جزئية تفيد الاطلاع على غوامض تلك المهنة وتوسيع عقل الصانع، وتنوره هو المرتبة الأولى،

وذلك إعداد من الله غير أن الناس قادرون أن يسعوا فيه بوجه الجملة من حيث أن الله أعد كل إنسان بما هو إنسان لتلقي الكمال والنقصان بحسب همته،

وذلك بالأمرين التاليين،

وعن ازدواج هذين تتولد ملكة الاختراع في سائر الأشياء.

الأمر الثاني:

تعميم التعليم بين سائر أفراد الأمة، وجبر الناس عليه لا بإخراج التلميذ من بيته إلى المدرسة كرهاً,

ولكن باتفاق الأمة مع كبرائها على أن لا يعتمد بأي رجل لم يكن مستكملاً للتعليم الابتدائي الذي يجب أن يشترك فيه سائر الأمة,

فيلزّ الأب أو الابن في قرن هذا التكليف متى علم توقف مستقبله على التعليم.

أما تنشيط الكبراء وتعضيدهم للنابغين من أهل النشأة العلمية فهو الباعث الأكبر على المسابقة في حلبة النظر,

ولكنه _ ويا للأسف_ شيء لا ينشأ إلاَّ عن معرفة مقدار كدِّ الأفكار، وكفى بلذة العلم منشطاً لأصحابه وشاغلاً للقلب عن اطراحه دون عناية أمته واغترابه.

الأمر الثالث:

أن يصلوا بتعميم التعليم إلى مبادئ العلوم المحتاج إليها،

والتعود على النقد والـمَيْزِ بقدر حاجة العامة مع إبقاء مسلك تناجي منه الخطابةُ نفوسَهم؛

كي لا تنقطع منهم حاجة الإقناع في الأمور العامة، وأن ينهجوا أسهل طريق لإيصالهم إلى غاية ذوق حلاوة العلم في الجملة.

وينجم عن ذلك مصلحتان:

إحداهما: تَمَتُّع الجميع بالعلم، وتيقظ البصائر من سنة الوهم والجهل؛

فيكونوا أهلاً لإدارة أمورهم، وإدراك مصلحة جمهورهم.

وثانيها: أن يقدروا العلماء حق قدرهم، ويشعروا بحاجتهم إلى تسليم أمر تربيتهم، وإصلاح آدابهم، وعلومهم، وكتبهم إليهم مع الانقياد إلى أوامرهم وجعلهم ولاة أمرهم ومشورتهم،

حتى تكون الأمة بوجود العالم الحكيم فيها حكماء، ويكون ما تراه من مصالحهم وفوائدهم سريع الانطباع في نفوسهم؛

فيسهل عليهم مطالبة الحكام منهم بتقويم أمورهم،

وبذلك يرقب الحاكم الأمة، ويخشاها، وتأمن من اللهو عن مصالحها باتباع هواها، ويكشف عن العلماء عذاب محاولة إصلاحها، واصطياد هداها.

الهامش

() السعادة العظمى، العدد(4)، (16) صفر 1322هـ، المجلد الأول ص34 _ 39.

#الطاهر_بن_عاشور

#مقالات_عربية_رائعة

مقالات عربية رائعة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية (٣)

تعليقك يثري الموضوع