الوفاء عند الإنسان، لـ #مصطفى_لطفي_المنفلوطي يحاكي في هذا المقال حال #الإنسان في قصة رجل له زوجة صالحة أصيبت بالعمى فوسوست له نفسه بطلاقها بعد أن فقد لذة الاستمتاع بعشرتها ويستعرض معاني #الوفاء ولذته على #القلب ومواقف الرجال في نوائب الزمان مقال موجز رائع حسبك أنه بقلم عبقري المقالة .
المقال في 675 كلمة و 43 فقرة يستغرق ثلاث دقائق ونصف للقراءة الصامتة ستأخذك إلى عالم وجداني مذهل
الوفاء لمصطفى لطفي المنفلوطي
الوفاء (1) لمصطفى لطفي المنفلوطي(2)
يا صاحب النظرات(3):
تزوجت منذ سنة من زوج صالحة طيبة القلب والسريرة، فاغتبطت بعشرتها برهة من الزمان،
وقد عرض لها في هذه الأيام رمد في عينيها؛ فذهب ببصرها فأصبحت عمياء، وأصبحت أعمى بجانبها،
وقد بدا لي أن أطلقها وأتزوج من غيرها… فماذا ترى ؟
إنسان.
أيها الإنسان: لا تفعل، فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين، وجرم الغادرين،
وكن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم؛ لتستطيع أن تدخر لنفسك عند الله من المثوبة والأجر ما يدخر أمثالك من الصابرين المحسنين.
لا تقل: إنها عمياء فلا خير فيها، ولا غبطة لي بها؛ فإنك ستجد بين جنبيك من لذة المروءة والإحسان والجود والإيثار ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان، في مقاصير الجنان.
اجلس إليها صباحك ومساءك، وحادثها محادثة الصديق صديقه، بل الزوج زوجه، وتلطف بها جهدك، وروِّح عن نفسها ما يساورها من الهموم والكروب وقل لها:
لا تجزعي ولا تحزني؛ فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ونورك الذي به تهتدين.
أعيذك أيها الإنسان
أعيذك أيها الإنسان بالله ألا تجعل لهذا الخاطر السيء _ خاطر الطلاق والفراق _ سبيلاً إلى نفسك، فإنها لم تسىءْ إليك؛ فتسيءَ إليها،
ولم تنقضْ عهدك؛ فتنقضَ عهدها، فإن كنت لا بدَّ ثائراً لنفسك فاثأر من القدر إن استطعت إليه سبيلاً!
إنَّ عجزاً من الرجل وضعفاً أن يغضب؛ فيمد يده بالعقوبة إلى غير من أذنب إليه، ويعتدي عليه.
إن لم يكن احتفاظك بزوجك، وإبقاؤك عليها عدلاً يسألك الله عنه فليكن إحساناً تحاسبك الإنسانية فيه.
إنك قد خسرت بصرها، ولكنك ستربح قلبها، وحسب الإنسان من لذة وهناءة في هذه الحياة قلب يخفق بحبه، ولسان يهتف بذكره.
إنها أسعدتك برهة من الزمان، فليخفق قلبك رحمة بها، بقدر ما خفق سروراً بعشرتها.
لا أحسب أنها كانت تاركتك، أو غادرة بك لو أن هذا السهم الذي أصابها قد أصابك من دونها؛ فاحرص الحرص كله على ألا تكون امرأة ضعيفة أسبق منك إلى فضيلة الصدق والوفاء.
إلى من تعهد بها بعد فراقك إياها؟
وأي موطن من المواطن هيأته لمقامها؟
وما أعددت لها من الوسائل التي تستعين بها على عيشها؟ وتأنس بها في وحشتها ووحدتها؟
كيف يهنأ لك عيش، أو يغمض لك جفن؟ إذا أظلك الليل فذكرتها، وذكرت أنها تقاسي في وحدتها من الوحشة ما لا قبل لها باحتماله،
وأنها ربما طلبت جرعة ماء، فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز، فلا تجد من يدلها عليها،
أو ربما قامت من مضجعها في سكون الليل وهدوئه تتلمس الطريق إلى حاجة من حاجاتها، فأخطأ تقديرُها، فصدمها الجدار في جبينها صدمة أسالت دمها حتى امتزج بدمعها؟
أيها الإنسان: إن لم تكن عادلاً ولا وفياً ولا محسناً فارحم نفسك من هذا الخيال الذي لابدَّ أن سيساورك،
يفت في عضدك ويزعجك من مرقدك،
فإن لم تكن هذا ولا ذاك، فغيرك أخاطب؛ لأني لا أحسن إلا مخاطبة الإنسان.
كرام الناس وأوفيائهم
إني محدثك عن صديق لي من كرام الناس وأوفيائهم تزوج امرأة حسناء؛ فاغتبط بها برهة من الزمان،
ثم أصابها الدهر بمثل ما أصاب به زوجك،
ولم يترك لها من ذلك النور الذاهب إلا كما تترك الشمس من الشفق الأحمر في حاشية الأفق،
فلم يقنعه من الوفاء لها أَنِ استبقاها واستمسك بها، بل كان يحرص جهده على ألا تعلم أنه ينكر من أمرها شيئاً،
فكان يعتب عليها في بعض الأحايين في أشياء لا يؤاخذ بها عادة إلا الناظرون المبصرون؛
يريد أن يلقي في روعها أنه لا يزال يعدها ناظرةً مبصرة،
وأنه لا يرى شيئاً جديداً عليها؛ رحمة بها، وإبقاءاً على ما كانت تحب أن تحاوله من الاعتداد بنفسها، والإدلال بمزاياها.
ولقد قرأت جملة صالحة من نوادر العرب في آدابهم، ومكارم أخلاقهم، ورقة شعورهم، ولطف وجدانهم،
فلم أر بينها نادرة أوقع في النفس، ولا أجمل أثراً في القلب من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية،
وكان كفيف البصر:
اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين عاماً فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام بل يقول: اخرج معه يا غلام.
فإن كنت تريد أن يسجل لك من الوفاء في صفحات القلوب، ما سجل لأحمد بن أبي دؤاد(4) في صفحات التاريخ فلا تُطَلِّق زوجك،
ولا تنقم منها أمراً قد خرج حكمه من يدها،
وإن أبيت إلا أن تأخذ لنفسك حظها من لذائذ العيش فاعلم أنه ما من لذة يتمتع بها الإنسان في حياته إلا ويشوبها الكدر، أو يعقبها الألم، إلا لذة البر والإحسان.
الهامش
_____________________________
(1) مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة الموضوعة ص364_367.
(2) هو مصطفى لطفي المنفلوطي،
ولد بمنفلوط من أعمال محافظة أسيوط سنة 1293هـ، 1876م، ونشأ في بيت كريم جليل معروف بالعلم والقضاء،
وقد نهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم بالأزهر،
وكان ميالاً إلى علوم اللغة، وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل،
وقد برز في الكتابة أكثر من بروزه في غيرها؛ فصار في مصاف أكابر الكتاب في عصره،
وكان أديباً موهوباً، ذا أسلوب ساحر، وبيان عذب.
وجملة القول _كما يقول الزيات_ أن المنفلوطي في النثر كالبارودي في الشعر كلاهما أحيا، وجدد.
أما مؤلفاته فله
النظرات في ثلاثة أجزاء جمع فيها ما نشره في صحيفة المؤيد من الفصول في النقد، والاجتماع، والوصف، والقصص.
وله مختارات المنفلوطي من أشعار المتقدمين ومقالاتهم.
وقد ترجم له بعض أصدقائه من الفرنسية :
تحت طلال الزيزفون (مجدولين) لأفونس كار روبول سود فرجيني (الفضيلة) لبرناردي سان بيير، وسيرانود برجراك (الشاعر) لأدمون رستان،
فصاغها بأسلوبه البليغ الرصين صياغة حرة لم يتقيد فيها بالأصل؛
فأضافت إلى ثراء الأدب العربي ثروة، وكانت للفن القصصي الحديث قوة.
وقد جمعت كتاباته في المجموعة الكاملة _الموضوعة والمقتبسة_.
أما أخلاقه فكان كريماً عف الضمير، رقيق القلب، سليم الصدر.
توفي سنة 1924م عن 48سنة.
انظر تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات ص537_540.
(3) صاحب النظرات هو المنفلوطي
وصَدْرُ هذه المقالة سؤال وجه إليه، ورمز السائل لنفسه بـ: إنسان، وبعد ذلك أجابه.
(4) ولكن التاريخ سجل عليه ما لا ينسى من قيامه بتبني امتحان الناس
وخصوصاً الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن الكريم (م).
#المقالات_المختارة
#مقالات_في_الأخلاق
#مصطفى_لطفي_المنفلوطي