Site icon حديقة المقالات

الاستطراد من أساليب الشيخ علي الطنطاوي – دراسة تحليلية 13\5

أساليب الشيخ علي الطنطاوي

دراسة تحليلية

بقلم : عبدالعظيم بدران

الاستطراد

يعرف “علي الجرجاني” الاستطراد بقوله: هو “سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر وهو غير مقصود بالذات بل بالعرَض”[66]. ويقول المناوي: الاستطراد هو “ذكر الشيء في غير موضعه”[67]. أما القزويني فيقول: الاستطراد هو “الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني”[68]. ويقال: يُكْثِرُ فلان مِنَ الاسْتِطْرادِ في كِتاباتِهِ أي: يَنْتَقِلُ مِنْ حَديثٍ رَئِيسٍ أَو رَئيسِيٍّ إلى آخَرَ ثانَوِيٍّ لِـتَفْسِيرِ آرائِهِ وَدَعْمِها بِبُرْهانٍ. واسْتَطْرَدَ في الكلام: انتقل من موضوع إلى آخر[69]. ومن الواضح أن الاختلاف في هذه التعريفات إنما هو في ألفاظها دون معناها.

ويلحظ قارئ الطنطاوي أن ظاهرة “الاستطراد” حاضرة في كتاباته، أيا كان الموضوع الذي يكتب فيه، بل إنه يعترف بذلك، ويعتذر أحيانا عنها، ولكنه يقول بأن ذلك لا مفر له منه. ومما قاله في ذلك:

“… لقد خرجت عن الخط، ولكن لا كما يخرج القطار عن القضبان، فينهار ويسبب الهلاك والدمار، ولكن كما يميل المسافر إلى الواحة فيها الظل والماء، فيجد فيها الراحة والري. فعفوكم إن جرتني المناسبة إلى سرد قصة ليست من صلب الموضوع، ولكن أرجو أن يكون من سردها متعة أو منفعة. أعود إلى موضوعي…”[70].

ويحكي مجاهد ديرانية عن سلسلة “أعلام التاريخ” أن بعض هذه الكتيبات تجاوز حدود الترجمة الشخصية، حتى إنه ليحيط – على صغره – بموضوع واسع في فقرات معدودات. فكتاب “أحمد بن عرفان الشهيد” مثلا يعرِّف بشخصية نادرة في تاريخ الهند، ويكاد، مع ذلك، يلم بتاريخ الإسلام في الهند أو بطرف كبير منه في لمحات سريعة، بدءًا بدخول الإسلام إلى الهند وانتشاره فيها، وانتهاءً بحركة الجهاد التي قادها أحمد بن عرفان ضد السيخ والإنكليز.

كذلك كتاب “القاضي شُريك” يُعرِّف بالقضاء وفنونه وأصوله ومنزلته في الإسلام. وكتاب “الإمام النووي” يُلم بكثير من مصادر الفقه الشافعي وكتبه؛ كالمنهاج والروضة والمهذب، وشرحه “المجموع”، ويعرف ببعض كتب الحديث كالأذكار ورياض الصالحين، والأربعون النووية، وشرح النووي على صحيح مسلم[71].

بمن تأثر في الاستطراد؟

يرد الطنطاوي تأثره في هذا الاستطراد إلى كتب الأدب العربي القديم، يقول عن ذلك:

“… وعيب آخر عندي، هو عيب كتب الأدب العربي القديم، ومن نشأ عليها وألفها، هو الاستطراد، والخروج عن الموضوع. هذا كتاب الحيوان للجاحظ مثلا، أسأل من قرأه منكم: كم في أبوابه مما يدل عليه عنوانه؟ هل التزم فيه علم الحيوان (أي علم الحياة) أم ذهب به الاستطراد يمينا وشمالا، فتكلم في كل شيء؟ هذا هو أسلوب كتبنا الأدبية فلا تلوموني – وقد نشأت عليها – أن أسلك سبيلها”[72].

وقارئ الطنطاوي مع ما يلحظه من هذا الاستطراد يعلم أن “عليا” قد أحسن توظيفه في كثير من سياقات أحاديثه وموضوعاته، فدعم بها ما يريد ويرغب في تعميقه لدى قرائه ومستمعيه. يقول في حديثه عن بعض شيوخه:

“كانت حلقات الدروس في الأموي كثيرة، في علوم مختلفة، منها ما هو لطلبة العلم، ومنها ما هو مواعظ للعامة، ولكن درس الشيخ صالح كان يمتاز منها جميعا، بأنه كان موعظة، وكان أدبا، وكان تاريخا، وما أكثر ما حفظت فيه من أحاديث صحيحة، ومقطوعات من الشعر بارعة، وأخبار من التاريخ نادرة، وكان يلقي ذلك بلهجة تونسية، فصيحة المبنى، جامعة المعنى، كثيرة الأسجاع، تأتي معه عفوا بلا تكلف، لا يكتفي بأن يتكلم ونحن نسمع بل كان يسأل ويطلب الجواب، فيكون لنا من درسه – فوق ما نتلقى من العلم والأدب – تدريب على الخطابة، وتمرين على الكلام. وهذا فن عني به العرب قديما حين كان من خطبائهم من يدرب على ذلك الشباب، وعني به الأميركان حديثا، إذ يفتحون مدارس يتعلم فيها تلاميذهم – وجلهم من الكبار – فن مخاطبة الجماهير. ثم كنت تلميذه في المدرسة، وكنت أتلقى عنه فوق ذلك درسا خاصا، أمرني أبي به، وطلبه منه، وكان صديقه”[73].

وهذه لفتة طريفة من الطنطاوي، حيث نوه إلى مكانة الخطابة وأهميتها، وهو يقصد هنا من لفظة الخطابة فن التخاطب بأركانه وآدابه. وهي أيضا من استطراداته المفيدة في سياقات أحاديثه.

وإذا كان الاستطراد في جانب من جوانبه يعطي انطباعا سلبيا لدى بعض المتلقين، فإنه في جوانبه الأخرى يرسم صورة أكثر وضوحا لدخيلة الأديب، ومدى موسوعيته الثقافية. ولعل مما يدل على ذلك قوله:

“… انصرف الناس وبقيت حيران لا أنصرف، و(حيران) ممنوع من الصرف إذا كنتم لا تزالون تذكرون ما درستم من قواعد اللغة العربية. هنا، وعند شدة الضيق يأتي الفرج، جاء الفرج من البحرين، والنسبة إليها عند العرب (بحراني) ولكنهم – ولست أدري – لماذا لا يحبون أن يدعى أحدهم بها. وباب النسب عند العرب أكثره سماعي، فإن نسبوا إلى المدينة المنورة بنور الإسلام قالوا: مدني. فإن وجدتم بين المحدثين من اسمه المديني فهي نسبة إلى مدينة المنصور، أي إلى بغداد أول ما بناها، فإن قالوا: المدائني، فالنسبة فيها إلى مدائن كسرى. وكان رجلا عربيا كريما، تاجرا من البحرين…”[74].

الهامش

[66] – التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، ص35.

[67] – التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، ص58.

[68] – الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن سعد الدين بن عمر القزويني، ص328.

[69] – انظر: المعجم الغني، ومعجم “المحيط”، مادة “طرد”.

[70] – ذكريات، علي الطنطاوي، 1/196.

[71] – علي الطنطاوي، مجاهد مأمون، ص97.

[72] – ذكريات، علي الطنطاوي، 1/10.

[73] – ذكريات، علي الطنطاوي، 1/81-82.

[74] – ذكريات، علي الطنطاوي، 7/212.

المصدر

فهرس البحث

Exit mobile version