صدر حكم المحكمة الدستورية العليا كاشفا لاضطراب علاقة استطال أمدها بين المالك والمستأجر ، تلك العلاقة التي انحرفت عن إطار الحق فأصبحت سبباً لإسراء المستأجر وافتقار المالك الذي اعياه طول المعاناة وبات مغبوناً يرى بأم عينه المستأجر يتخذ من القوانين الاستثنائية ستاراً ليتعدى بها ويتسلط علي حقوقه ويورث ما لا يملكه لأبنائه بقيمة إيجاريه بخسه أقرب إلي العدم ، ففيما مضى وحينما كان الإيجار هو السمة الغالبة في العلاقة بين المالك والمستأجر استجاب المشرع للاعتبارات الاجتماعية وعدل عن طبيعة عقود الإيجار في الشريعة والقانون المدني والتي تعتبر حق الإيجار حقاً مقضيا بوفاة المستأجر أو تخليه عن العين، فبموجب القوانين الاستثنائية أمتد عقد الإيجار لورثة المستأجر الواحد تلو الآخر فباتت هذه العلاقة مساراً للإفتئات علي حقوق الملكية التي صانها الدستور ومرتعاً لضعاف النفوس الذين ارتدوا عباءة القانون ليتخذوه ذريعة للانقضاض والتحايل علي حقوق الغير.. لقد انتهى هذا المشهد المأساوي في نهاية المطاف إلي قيمة إيجارية أقرب إلي العدم وتشوه عمراني جلي وتهديداً مشيناً للثروة العقارية ، فضلاً عن تبديد هذه الثروة بعد أن كشفت الإحصاءات عن غلق مئات الآلاف من الوحدات السكنية التي تستغيث بالمشرع ليعيد لها الحياة من جديد.. بل الأكثر من ذلك حلول التباغض بين أطراف هذه العلاقة محل التعاون والتأزر، وأصبح مرفق القضاء مثقلاً بمئات الآلاف من القضايا التي تؤرق استقرار المجتمع.
ولكن ما السبيل لحل تلك المشكلة التي استعصت علي العديد من الحكومات المتعاقبة ..الواقع أن الحل ليس مستعصياً كما يتخيل البعض ، فبكل بساطة يجب- في البداية – تقسيم العقارات القديمة إلي قسمين رئيسيين: الأول الوحدات المغلقة غير المستغلة والقسم الثاني فيقتصر علي تلك الوحدات التي يقطنها مستأجريها ، أما القسم الأول والذي يتعلق بالوحدات المغلقة غير المستغلة فهو يعبر عن واقع ينطق باستغناء مستأجري هذه الوحدات عنها ،وعدم اتخاذها مأوي لهم ولكن بخس أجرتها يغريهم في الإبقاء عليها ولو لم تستغل منفعتها، فتلك الوحدات لا ضرر علي المستأجر أو المالك من أن تفرض لها أجرة توازي القيمة السوقية لها ، فلا جدوى من أي حلول تحيد عن ذلك الاتجاه، فذلك الحل يتفق في كل أجزائه مع حكم المحكمة الدستورية العليا بالدعوى 24 لسنة 20 بتاريخ 9/11/2024 فقد أقرت المحكمة بأن الأحكام الاستثنائية المتعلقة بالإيجار طابعها التأقيت و إن استطالت ومرجعها تكافؤ الفرص بين أطراف العلاقة الإيجارية فلا يجوز أن يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها ، وأردفت بأن تحديد القيمة الإيجارية لا يجب أن يكون سمتها الغلو والشطط استغلالاً لحاجة المستأجر في أن يأوي لمسكن يعتصم به.. فذلك المستأجر الذي أغلق وحدته ليس في حاجة لمسكن يأوي إليه و إنما امساكه لوحدته مرجعه بخس أجرتها فلا تركها لمالكها ينتفع بها ولا كان سبب تمسكه بها حاجته لسكن يأويه بحسب وصف المحكمة الدستورية العليا ، وأما القسم الثاني فيتعلق بالوحدات التي يقطنها مستأجريها ، وتلك الوحدات فيها العديد من التناقضات ففيها أصحاب الدخول المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة وأصحاب المعاشات، بالإضافة إلي أن بعضها يقع في العديد من المناطق التي يطلق عليها الراقية والبعض الأخر في الأماكن المتوسطة كما يقع البعض منها داخل الأماكن الفقيرة ، ومنها ما يقطنها المستأجر الأصلي ومنها من آلت إليه بعد وفاة مستأجرها الأصلي ،وهؤلاء جميعاً يجب ألا يضاروا من أي تعديلات تشريعية ولكن ذلك لا يعني استمرار وقوع الغبن علي المالك أو تحمله المزيد من الأعباء في علاقة يقوم فيها – دون إرادته – بدور الدولة في دعم السكن للمستأجر، فأما أصحاب الدخول المرتفعة والذين يقطنون مناطق راقية فلا مناص من دفع القيمة الإيجارية التي توازي قيمتها السوقية ، وهو الأمر التي يمتد إلي أصحاب الدخول المرتفعة أينما كانت وحدتهم السكنية ولو كانت بالمناطق الفقيرة، أما الطائفة الثانية وهم أصحاب الدخول المتوسطة والذين يقطنون مناطق راقية فهؤلاء يلتزمون بدفع ثلث القيمة الإيجارية للمثل علي أن يتدرج الإيجار صعوداً ليصل إلي قيمته السوقية خلال خمس سنوات وهؤلاء يجب أن توفر لهم الدولة وحدات سكنية من وحدتها الاستثمارية التي تطرحها بتسهيلات في السداد ومميزات تختلف عن مثيلاتها خلال مدة الخمس سنوات فإن قبلها المستأجر ردت وحدة الإيجار القديم إلي مالكها واستفاد المستأجر من الدعم المتاح له .. وذات المنطق يطبق علي متوسطي ومحدودي الدخل وأصحاب المعاشات ولكن هؤلاء تطرح عليهم وحدات تتناسب مع محدودي ومتوسطي الدخل.. هكذا يعود التلاحم بين نسيج الأمة ويحل التعاون والتضافر بين المالك و المستأجر ، فأما فيمن يدعي أنه دفع خلواً فهؤلاء لا يمثلون إلا نسبة قليلة ولكن عليهم أن يتذكروا بأن “خلو الرجل ” مجرم بحكم القانون وأنه قد درج فيما مضى أن يدفع المستأجر الخلو وبعد أن يتمكن من الوحدة ويستقر بها يقوم بتحريك دعوى قضائية ضد المالك ليسترد منه الخلو مرة أخرى لأن القانون كان يجرمه ،ولكنه في ذات الوقت كان يعفي المالك من العقوبة إذا بادر برد خلو الرجل للمستأجر ، وعلي كل حال فإن كان رفع الدعوى الخاصة “بخلو الرجل” حقاً يقرره القانون للمستأجر فإن عدم قيام المستأجر برفع الدعوى القضائية في مثل هذه الأحوال يعد تنازلاً منه عن حقوقه ومن ثم فلا يحق له بعد أن تنازل عنها أن يعود بالمطالبة به.
Be the first to comment on "الإيجار القديم في مصر .. مشكلة مزمنة"