مشهد واحد .. بعيون مختلفة بقلم منة حازم ،، مازال من الشئ المحير أن نستوعب كيف لنفس الموقف أن يحدث أمام إثنين بنفس القدر ونفس الظروف فيتصرف أحدهما بسلبية والآخر بإيجابية
مشهد واحد .. بعيون مختلفة
منه حازم
مازال من الشئ المحير أن نستوعب كيف لنفس الموقف أن يحدث أمام إثنين بنفس القدر ونفس الظروف فيتصرف أحدهما بسلبية والآخر بإيجابية ،
كيف لطفلين ترعرعا في نفس الجو القاسي الأليم، فكبرا حتى صار أحدهما طبيبًا والآخر سارقًا خلف الأنقاض!..
برغم أنه إن سألت ” مالذي أوصلكما إلى هذا؟ ” لقال كلاهما: ” مررت بظروفٍ قاسية ” ! .. نفس الظروف، خلقت شابًا ناجحًا مقاومًا والآخر يائسًا مستسلمًا.
أتذكر مرةً قرأت في كتاب “ملهمون ” لصالح بن محمد الخزيم .. قصة حقيقية بعنوان : نظرة إيجابية .. تقول :
” قام رئيس إحدى شركات الأحذية بإرسال أحد البائعين لديه في مهمة تستغرق أسبوعين إلى إحدى الدول النامية ليرى إن كانت هناك أي إمكانية لإقامة أعمال فيها،
استقل البائع الطائرة وجاب الدولة لمدة أسبوعين ثم عاد لرئيسه قائلًا : (أيها الرئيس، لا توجد لنا أي فرصة في هذه الدولة؛ إنهم لا يرتدون أية أحذية على الإطلاق) .
كان الرئيس رجل أعمال ذكي، فقرر أن يرسل بائعًا آخر لنفس المهمة لنفس الدولة، فاستقل البائع الطائرة في رحلة مدتها أسبوعين،
وعندما عاد، أسرع من المطار إلى شركته مباشرةً ودخل إلى رئيسه بحماس وقال :
(أيها الرئيس، لدينا فرصة رائعة لبيع الأحذية في هذه الدولة، فلا يوجد أحد يرتديها بعد) ” .
كيف لكل عقلٍ أن يقص صورة مختلفة من مشهد كامل ثابت لجميع الحاضرين، بحيث تتلائم كل صورة قُصَّت مع شعور كلٍ منهم، كي يكون دومًا الضحية، كي يخلق لروحه إطارًا من الألم والحزن والبكاء..
نفس المشهد قد يُسعِد أُناسًا ويدخل أناسًا أخرين في مصحاتٍ نفسية .. ابتسامة واحدة قد تملأ حياتك بهجةً وسعادة وأمل، وأخرى يُستدل منها على مكر وكذب ونفاق ..
لقد كان المشهد واحدًا.. نحن من حددنا وقعه علينا، نحن من رسمنا الخطط ووضعنا المبادئ، نحن من تأثرنا وأثرنا من خلال نظرتنا له.. نحن من كونّا الضغائن وبررنا الأخطاء وزيفنا الحقائق، نحن ولسنا سوى نحن.
أتذكرون تلك المرة التي أوقعنا فيها شيئًا ثمينًا ونحن صغار وكمّ المرات التي وُبِّخنا من أجل تلك المزهرية المكسورة أو اللبن المسكوب، أجرى أحد الصحفيين مقابلة مع عالم وباحث شهير استطاع صنع العديد من الإنجازات الطبية المبهرة، وسأله عن السبب الذي جعله متميزًا عن غيره؟
لقد كانت إجابته يومها مثيرة للعجب من وجهة نظرنا ، بل وخارقة لما اعتدنا عليه من المشاهد اليومية التي نعاصرها..
لقد أجاب بأن كل ذلك نابع من درس علمته له أمه عندما كان صغيرا، حيث كان يحاول إخراج زجاجة لبن من الثلاجة ولكن أفلتت يده الزجاجة فانسكبت بالكامل على أرض المطبخ،
وبدلًا من أن توبخه أمه قالت له : ( يا لها من فوضى رائعة تلك التي صنعتها ! ،
حسنًا يابني لقد وقع الضرر بالفعل، لا تقلق بشأن هذا، هل تريد أن تلهو معي قليلًا بينما نقوم بتنظيف هذا اللبن المسكوب؟
إننا عندما نصنع فوضى كهذه يكون علينا تنظيفها في نهاية الأمر، لذا كيف تحب أن نفعل هذا؟ يمكننا استخدام فوطة، أو اسفنجة، أو ممسحة، أيهما تفضل؟ ) ..
وبعد أن انتهوا من تنظيف اللبن المسكوب ، قالت : ( إن ما لدينا هنا هو تجربة فاشلة في حمل زجاجة كبيرة من اللبن بيدين صغيرتين، دعنا نخرج إلى الفناء الخلفي، ونملأ الزجاجة بالماء ونرى إن كان بمقدورك اكتشاف طريقة تحمل الزجاجة بها دون أن تُسقِطها )..
لقد أدت ” زجاجة اللبن المسكوب ” إلى إنارة الطريق لهذا العالِم وجعلت تلك التجربة العملية البسيطة حياته ناجحة، و أصبحت حياته مليئة بالنجاحات الطبية المدهشة التي استطاع تحقيقها بسبب تعلمه من أخطائه ..
وبشكل شخصي .. ما جعلني أكتب تلك المقالة اليوم هو مشهد من بساطته كان من المفترض أن يمر كما تمر كل المشاهد اليومية..
لكنه ظل معلقًا بذاكرتي حتى الآن، رأيت مرة عند سيري أمًا وابنها يعبرون الشارع، عبرت الأم مسرعة وصعدت سُلمًا ما، ف استند الطفل الصغير على سيارةٍ بجواره كي يستطيع صعود السلم، كانت السيارة مليئة بالأتربة، فاتسخت يداه، وعندما رأته أمه أخذت توبخه وتضربه في الشارع في غضب.. وأخذ يبكي.
نحن نعشق أن نظهر بصورةٍ كاملة.. تلك الرغبة في أن يكون كل شئ على ما يرام، لا أن نجعله على ما يرام..
فنحن نحمل من الأعباء ما لا يستطيع أحد حملها ولا نملك وقتًا لإصلاح تلك الثغرات!!، حتى وإن كان كل شئ على ما يرام فنحن لسنا كذلك، دومًا الصورة ناقصة.. دومًا – نراها – ناقصة.
كلنا نحمل نفس الأعباء، لا تحاول أن تثبت لنفسك عكس هذا، أنا مثلك وأنت مثلي ونحن مثلهم، أعطى الله لكلٍ منا أشياءً ومنع عنا أخرى.. بنفس القدر .. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها كما قال في كتابه الكريم..
لا تستحل لنفسك ظلم الآخرين بسبب شعورك بالظلم،ولا تجعل شخصًا يثير في نفسك الشفقة المفرطة تجاهه، قد تُحكى الحكاية بطريقتين فتتعاطف مع إحداهما وتضحك حامدًا الله على فضله من الأخرى، هي فقط نظرتنا للأمور التي تحدد ما ستؤول إليه حياتنا كلها فيما بعد ..
كلما رأيت أحدًا يسخر من أحد، أو يتكبر على سائلٍ يسأله في مادةٍ علميةٍ أو عن وصفٍ لطريق أو عن سلعةٍ يبيعها يود أن يعرف عنها معلومات أكثر،
و عندما يتحدث شخص بسيط أمام شخص متعلم، كيف يضحك منه بمجرد رحيله ويستنكر تفاهة أسئلته، ذلك أيضًا من ضمن الصور المقصوصة، ليس بُعد نظر .. بل بُعد بصيرة..
لم يفكر الساخر يومًا أن الله قد سخره لقضاء حوائج الناس دونًا عن باقي البشر،
اختصه أن ينير دربًا بسيطًا لرجلٍ بسيط قد يكون عكازًا له في حياته القادمة، بتلك المعلومةِ البسيطة التي استهنت بها وأخرجتها له تكلفًا وعلى مضض،
قد يمتن لك عمرًا بطوله وينفع الله بعلمك ليكون لك صدقةً جارية مهما مرت السنين، نعمة عظيمة نغفل عنها جميعًا،
هي عدم تقديرنا لمن يسألنا ويرغب في التعلم منا، لقد اعتدنا على قص المشاهد إلى الحد الذي لم يجعلنا نستطيع الآن بأي شكلٍ كان أن ندرك حجم المشهد واتساعه وتشعبه ..
كل ما نراه ما ضيعناه من وقتٍ في أمرٍ تافه لا يستحق، أو في مدى سخافة من لا يعلم تلك المعلومة العادية الواضحة الظاهرة لكل العيان!
نستخف بكلمةٍ طيبة، بالشكر، بالإمتنان، نستخف بالإبتسامة، بالسلام عليكم .. بتفاصيلٍ صغيرة علمها لنا ديننا ولم يعلمها لنا عبثًا، إنما هي مفتاح لحل كل الكروب ..
ولمسة حانية على أكتاف بعضنا البعض لنشعر أن في ابتلاءاتنا عطايا من الله عز وجل لن ندرك حكمتها الآن..
ليس من السهل إقناع أحدهم أن يكف عن قص الصور في حياته ليبرز المآسي .. من يقص لا يدرك أنه يقص، تذهب عيناه تلقائيًا على النقوص.. فيكبرها ويبلورها..
حتى تظهر الدنيا بجودة أقل من المعتاد.. ويسعى البعض للتفكير في مغادرتها والتخلص منها سعيًا إلى حياة نحو المجهول الذي بالطبع سيكون أفضل مما هم عليه!
الحياة هي الحياة، سنظل نمر بكل المواقف التي كتبها الله لنا غيبًا، سنظل نسقط ونقوم حتى يأتينا الأجل،
فلنجعل تلك اللحظات التي يُقّدَّر لنا أن نعيشها هي أفضل ما يكون، فلننتظر دومًا الحكمة من كل شئ،
لك ربٌ إن استشعرت وجوده وآمنت كل الإيمان بقدرته لمرت الأيام عليك خفيفة، لتعلمت كل يومٍ شيئًا جديدًا..
ولأحببت شمس كل نهار جديد، وشكرت الله أن وهبك فرصةً لتجربةٍ جديدة..
منه حازم
Photo by Jorge Guillen on Unsplash
Be the first to comment on "مشهد واحد .. بعيون مختلفة"