الأخلاق : للعلامة محمد الخضر حسين : متى انعطف الناقد البصير يبحث عن الوسائل التي تترقى بها الأمة إلى سنام السعادة القصوى لا تطمئن نظراته السامية إلا على أخلاقها؛ فبمقدار ما لها من المحافظة على محاسنها، يملأ منظرها أعين الملأ الذي لا يعبأ إلا بجلائل الأمور.
الأخلاق للشيخ محمد الخضر حسين
متى انعطف الناقد البصير يبحث عن الوسائل التي تترقى بها الأمة إلى سنام السعادة القصوى لا تطمئن نظراته السامية إلا على أخلاقها؛
فبمقدار ما لها من المحافظة على محاسنها، يملأ منظرها أعين الملأ الذي لا يعبأ إلا بجلائل الأمور.
والدليل على ما نقوله أن الامتزاج بمكارم الأخلاق يَجْبِيْ إلى صاحبه عِرْفانَ ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات؛ فلا يخلُّ _ حينئذ _ بواجب، ولا يدعى إلا بحق،
وذلك يدعو بالضرورة إلى شدة الارتباط، وكمال الالتئام الذي يجعل أفراد الأمة عضواً واحداً للتعاون على البر والتقوى،
والتعاضد على الأعمال التي تنتج لهم التقلب في عيشة راضية، وتحفظ لأعقابهم مستقبلاً حسناً.
وذلك السبب الذي دفع بنا إلى جعلها _ أي الأخلاق _ شُعبة من شُعَبِ ما تصدُع به هاته الصحائف وهذا أوانها.
الخلق: حال للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، وإن شئت فقل: هي حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.
وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
منها ما يكون في أصل المزاج كالإنسان الذي يستفزه أدنى غضب يعرض له، أو يَفْرَقُ من أدنى صوت يَقْرَعُ سمعَه، أو يُفْرِط في الضحك على أقل شيء يعجبه، أو يَغْتَمُّ من أيسر شيء يُلِمُّ به.
ومنها ما يكون مستفاداً بالتربية والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يصير ملكةً وخلقاً.
قوى الأخلاق
وللأخلاق ثلاث قوى متباينة:
أحدها القوة الناطقة: وتسمى بالملكية،
ثانيها القوة الشهوية: وتسمى بالبهيمية،
ثالثها القوة الغضبية: وتسمى بالسبعية،
فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة، وكان التفاتها دائماً إلى المعلومات الصحيحة _ نشأت عنها فضيلة العلم، وتتبعها الحكمة.
ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة بدخولها تحت سلطة القوة العاقلة، حدثت عنها فضيلة العفة، وتتبعها فضيلة السخاء.
ومتى كانت حركة النفس الغضبية معتدلةً منقادةً إلى النفس العاقلة بحيث لا تهيج في غير حينها، ولا تحمي أكثر مما ينبغي لها _ حدثت منها فضيلة الحلم، وتتبعها الشجاعة.
ثم يحدث باجتماع هاتِه الفضائلِ الثلاثِ فضيلةٌ رابعةٌ هي كمالها وتمامها وهي العدالة، وهذه الأربع أصول، وما عداها متفرع عنها.
ثم إن تلك الفضائل لا يمدح عليها صاحبها، ويتسمى بها إلا إذا تعدت إلى غيره، وانتشرت آثارها عند بني جنسه،
وأما إذا اقتصر بها على نفسه فإنه تُصْرَفُ عنه أسماؤها، ولا يذكر بمسمياتها.
فإذا لم يبسط الإنسان يده ببذل مال الله الذي آتاه في وجوه المصالح العامة، وخصص صرفه بمآربه الشخصية _ سمّي منافقاً(2)،
وإذا اقتصر بشجاعته على الذَّب عن حوزته دون أن يحمي ذمار المستجيرين أو يناضل على حقوق المستضعفين _ سمِّي أَنِفاً،
وإذا لم يتجاوز علمه إلى غيره سمِّي متبصراً.
#مقالات_عربية_رائعة
#مقالات_في_الأخلاق
#محمد_الخضر_حسين
مقالات عربية رائعة : المقالات المختارة لأبرز كتّاب المقالة العربية (٣)
الهامش
(1) السعادة العظمى _ عدد3 _ غرة صفر 1322 المجلد الأول ص25_27، وهو مما كتبه في مقتبل عمره.
(2) هكذا في الأصل ولعلها: منفقاً (م).