بين النقل والابداع مقال للكاتب فارس كمال محمد في موضوع المعرفة و الثقافة و الفلسفة الموضوع الثالث بعنوان الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل
بين النقل والابداع
فارس كمال محمد
الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل
عندما مر الحديث على ذكر (( كونفوشيوس )) لم يكن المعني به احياء ذكرى هذا الفيلسوف الحكيم والمربي العظيم والدعوة الى الاهتداء بتعاليمه وتثبيت القيم الروحية التي شاعت في مدرسته ،
فلدينا من القيم الروحية والأخلاق السامية والنظرة المتكاملة ما يغنينا عن الحاجة الى نصيحته ،
والمعني إذن هو اثارة السؤال عن الخيط الذي يربط كلاً من اطراف النقل والانشاء ، والاتباع والابداع ، والماضي والمستقبل ، والذكرى والاستشراف ..
وان الفكر الذي تركه كونفوشيوس للصين لم يكن نقلاً لأخلاق الذين سبقوه وتاريخهم وحسب ،
فلو كان الامر على هذه الصورة لم يخلّد اسم كونفوشيوس حتى عُبد،
واصبحت تعاليمه مدرسة يتناقل افكارها الصينيون ويعلمونها أولادهم طوال الفي عام حتى حلّ النظام الشيوعي الحديث ،
فالأجدر هو ان تُخلد أسماء أصحابها الأصليين فتطفوا ظاهرة على السطح وترددها الألسن .
لقد كان كتاب التاريخ الذي كتبه بيديه وتركه لاتباعه من بعده ،
خليطا من احداث حقيقية عاشتها الصين في اعظم مراحلها وخطب واقاصيص وضعها من نفسه ..
فكان عمله ابداعاً تفرد به لا صورة مستنسخة ، وقصصاً تاريخية وشّاها بزخرفه وفنّه في أسلوب الخطاب والعرض ، وعملاً فنيا يحمل بصمته .
انه مبدع في ادارته وانشاء مدرسته وكتابة مؤلفه .
الابداع ، عمل تجتمع فيه ابعاد عديدة
والمعني بعد هذا ان الابداع ، عمل تجتمع فيه ابعاد عديدة ،
الخبرة والتجربة ، الإشكال والحل ، المأساة والامل ، ظواهر العالم و ديناميات العقل و … و … و …
ولو اجلنا النظر في العمليات الفكرية ( الواعية ) وآلياتها عند الانسان بشكل عام
لادركنا ان ما قيل عن التأثيرات المتشابكة ( المؤثرة ) في صميم العملية الإبداعية
هي نفسها حاضرة في ديمومة الوعي وانتقاله عبر ابعاد الماضي والحاضر والمستقبل ..
ولو اجتزأنا الصورة التي تمر أمام اعيننا في هذه اللحظة من فلم سينمائي نشاهده واخضعناها الى التحليل ، لن نجد ابعاداً أخرى خارجة عنها ،
لا ذكرى للّحظة الماضية ولا إحساس أو توقع لما سيحدث لاحقا ..
اما عند الانسان فالأمر مختلف تماما .. اذ ان الوعي في كل لحظات مروره ، يتّكئ على ماضٍ مرّ به ويتطلع الى مستقبل آتيه لاحقا ،
انه في حالة دائمة من الارتكاز على الماضي والانعطاف نحو المستقبل ، بحسب تعبير ( برجسون ) .
ففي لحظة الوعي الحاضرة عند كل انسان ، يجتمع الماضي بالمستقبل ،
والاشكالات المستعصية بالحلول اللازمة لحلها ،
والآلام التي عاناها بالآمال التي يرتجيها ..
انها البِنية التي تشكل عقل الانسان وتحدد نهج تفكيره ، وتنتظم وفقها افكاره ..
ويتساوى في هذا كل واعٍ مفكر ، العادي والمتميز والفنان والعالم والمتبع والمبدع و المتخلف والعبقري ..
وما قيل عن لحظات الوعي ، يقال عن تلك الاوقات التي يُنشئ فيها المبدع موضوعه المتميز ،
فهو في كل الأحوال ابن بيئة يعيش فيها ، وارض يمشي عليها ، وأمة او جماعة ينتمى اليهم ويعيش بينهم ..
وله طفولة قضاها ، وتربية استوعب مراميها ، واخلاق تشرّبها كما تتشرب الأرض ماء المطر ، تداخلت وتشابكت في أعماق نفسه وتركيبة ضميره ..
للعملية الإبداعية فترة تمهيد واعداد وتأمل
كان ( فيكتور هيجو) من المؤيدين لفكرة ان للعملية الإبداعية فترة تمهيد واعداد وتأمل ،
وان للذكاء والذاكرة دور فاعل ومؤثر لا يتسنى لمخيلة المبدع ان تعمل بدونهما ،
وان الالهام عنده كالطائر الذي يخرج من البيضة ، لم ينطلق الا بعد ان مرت عليه فترة رعاية واحتضان ورقاد ..
وكأن هيجو يرد بهذا على من يرى ان في الابداع ضرباً من السحر والالهام الهابط من فوق او انفصالاً عن عالم الاهتمامات والانشغال بأمور حيواتنا اليومية .
وما ذهب اليه (هيجو) لم يكن بِدعا ، فهذا ( ادجار الان بو ) يصر على ان العملية الإبداعية موجهة في كل مراحلها
وان الوعي والتوجيه في صياغة العمل انما يجريان وفق اهداف وغايات محددة ، كأن يلهب في نفوس قارئيه مشاعر الفرح او الحزن
وان يضع لأشعاره قافية يحددها بنفسه ، ووقتاً يستغرقه العرض او الالقاء او القراءة اللازمة للعمل ..
وما يعنينا ان وعينا حينما يكون حاضرا في لحظات تفكيرنا المبدع فانه يدفع بأحداث ماضينا وتجاربنا التي مرت ،
ومستقبلنا وأمانينا المرتجات لان تتشابك وتتفاعل فيما بينها وفق مسارات ما نملكه من مرونة في التفكير وحدة في الذكاء وقدرة على الاستنباط ،
ليخرج العمل بعدها في صورة من الجدة والتفرد وكأنه إِلهام قد هبط علينا من السماء ونحن في غيبوبة وذهول .
وان الالهام – ونعني به الابداع ، فالإلهام مرحلة من مراحله – لا يعني خلقا من العدم ،
ولا هو شرارة تنقدح على حين فجأة في الرأس دون سبب .
مؤثرات في تكوين شخصية الفنان
( ويؤكد أصحاب النزعة الاجتماعية على ان للعوامل الوراثية والاجتماعية والتربوية والنفسية اثر بيّن في تكوين شخصية الفنان – المبدع – وفي تشكل ما ينتجه من عمل .
ويؤكدون على ان مفهوم الأصالة الخالصة وهم وقع فيه أولئك الذين نظروا الى الفنان باعتباره كائناً غير ارضي ، هبط علينا من السماء ويتلقى الوحي من لدن موجود علوي ..
وكلما وقعنا على تفصيلات حياة الفنان واهتدينا الى المصادر التي اخذ منها ، بدت نسبيته وصار عمله تأليفا بين أفكار قديمة وتعديلات على ما تلقاه من طرز فنية … )
وليس ادل على ما مر بنا من تلك المراحل التي حددها دارسو الابداع ،
فجعلوا للعمل المبدع مرحلة تهيؤ واعداد وتجميع للعناصر ذات العلاقة ، تأتي بعدها فترة ( اختمار )
يعاني فيها الفنان اشد لحظات القلق والتوتر لما يقوم به من جهد فكري – بوعي او بدون وعي –
في تحديد الحالة وتحليل عناصرها والتعرف على خصائص كل منها ،
ومن بعدُ ، الخروج باطار نهائي للفكرة ..
ثم يأتي الالهام هابطاً وكأنه ومضة برق خاطفة ،
انارت صفحة السماء واحالت الظلام الى نور يبهج القلب ويبعث السرور في النفس .
وماذا اذن عن الالهام الآتي الينا على هيئة حلم ونحن نائمون ، ساهون عن الواقع وشاردون ،
وفي غفلة عما نعانيه من مخاوف أو قلق .. ؟
لقد حدثنا ( كوليردج) عن قصيدته الشهيرة ( كوبلاخان) وبين انه قد كتبها تحت تاثير حلم رآه ..
وقال ( جوته) انه قد كتب روايته ( آلام فرتر ) وهو منصت الى هواجس آتيه اليه من أعماق نفسه ..
بل قيل ان ( لامرتين ) كان يؤكد للآخرين ، انه لا يعمل تفكيره بالمواضيع التي تستهويه وانما أفكاره هي التي تفكر ،
وماذا عن الاعمال الموسيقية العظيمة التي قدمها موزارت وهو في بدايات عمره ولم يتجاوز الرابعة عشر عاما بعد ..
ضروب من الالهام او الجنون الإلهي
اليس في الابداع شيء آخر هو غير الذي تحدثنا عنه ، غير الخبرة والتجارب و الماضي و المستقبل .
قيل ان اول من استفاض في دراسة موضوعنا هذا هو افلاطون فقد خرج بنتيجة مفادها ان الابداع ( الفني) ضرب من الالهام او الجنون الإلهي ،
((وعلى هذا جاء الذين بعده ، من المتأثرين بمدرسته ،
وراوا فيه الهاماً و سحرا واعجازا وقدرة غير عادية اختص بها اشخاص يتميزون بالاحساس المرهف والحدس اللماح والبصيرة الحادة والادراك النفاذ)) ..
لقد راى أصحاب هذا الرأي ان في الابداع شيئاً من الانفصال وقوة خارجة ( عليا فائقة للطبيعة ) ليست من مكونات العقل عند ذوي الالهام والابداع ،
وان المُلهم فيه لا يعدو ان يصير(( واسطة وأداة ، فهو حينئذ لسان حال القوة الفائقة هذه )) .
وبلغ بهم الحال ان يُعلوا من النزعة الذاهبة الى الإعراض عن المنبهات الاتية من المحيط وما يستتبعها من الضغوط المؤثرة على صفاء الذهن وانشراح النفس ،
والاستغراق في التركيز على الداخل ،
والاصغاء الى خطرات النفس الاتية من الأعماق ،
بل الاصغاء الى همسات الوحي الآتي من ربات الشعروالالهام ..
حتى ذهب الحال ببعضهم الى تناول العقاقير المهلوسة والمخدرات ،
لعلّهم يحظون بلحظات من النشوة والوجد وجيشان الالفاظ والمعاني والخواطر المتواردة على عجل