الميثولوجيا الأشورية وتأثيراتها على الأمم الأخرى.. مقال للكاتب فؤاد الكنجي، عيد رأس السنة الأشورية (اكيتو)، نموذجا الجزء 3 من 4
الميثولوجيا الأشورية وتأثيراتها على الأمم الأخرى..
عيد رأس السنة الأشورية (اكيتو)، نموذجا
فواد الكنجي
في اليوم الخامس من (اكيتو) ..يبدأ ومنذ مطلع الفجر حيث ينهض رئيس الكهنة ويتطهر بالماء المقدس من نهر (دجلة) و(الفرات) المحفوظ داخل المعبد، ثم يفتح أبواب المعبد لبقية الكهنة ليقوموا بتقديم وجبة الفطور لتمثالَي الإله (مردوخ – أشور) وزوجته (صربانيتوم(، بعد تقديم الصلوات والقرابين يقوم الكهنة بحمل مشاعل ومحارق الطيب لتطييب وتطهير أجواء المعبد ، كذلك تجري طقوس تطهير المعبد بماء (دجلة والفرات)، ثم تقرع الطبول وتتعالى أصوات الكهنة في دعاء جماعي مهيب، وتوقد الشموع والمباخر وتنار أرجاء المعبد ويقوم فريق خاص من الكهنة بمسح أبواب المعبد المقدس بزيت (السدر – شجرة النبق( ثم يقومون بذبح شاة والطواف بها في أرجاء المعبد، ثم مسح جدران المعبد المقدس بدمائها، وهو تعبير عن انتقال الذنوب البشرية إلى جسد الشاة المذبوحة، والتي سيتم فيما بعد رميها في ماء النهر الجاري الذي سيجرفها ويجرف معها كل ذنوب السنة المنصرمة وما حملت من مساوئ وأوزار وخطايا وذنوب، بعدها يصل الملك مركز المدينة قادما من مدينة (بورسيبا) وبصحبته إله ( نابو ) حيث سيتركه عند بوابة ( أُوراش ) في الجانب الجنوبي الشرقي، ويتوجه لوحدهِ إلى بوابة معبد (الإيساغيلا) ، حيث يقوم رئيس الكهنة بنزع كل شاراته الملكية وتجريده مؤقتا من (التاج) و(الصولجان) و(الحلقة) و(السيف)، ليتم الخضوع ملك (أشور) أمام إله (مردوخ – أشور)، حيث سيدخل الملك (الإيساغيلا) برفقة الكهنة، ويتجهون نحو المذبح، وهناك يتم صفع الملك بقوة حيث يركع الأخير ويبدأ بتلاوة الغفران وإعلان خضوعه لـ(مردوخ – أشور)، وبعدها يقف الملك فيعيد إليه الكاهن (التاج) و(الصولجان) و(الحلقة) و(السيف)، ثم يصفعه مرة أخرى بقوة على أمل أن يذرف الملك دموعه، لأن ذلك سيعبر عن المزيد من الخشوع لـ(مردوخ – أشور) والإجلال لسلطانه، وعندما يقوم الكاهن بإعادة التاج إلى الملك، إنما يعني ذلك تجديد السلطة من الإله (مردوخ – أشور).
في المساء يجلب إلى المعبد (ثور أبيض) يقوم الملك بذبحه بسكين التضحيات على مذبح المعبد ويرفعه كنذر للإله ، حيث كان تقديم التضحيات من أهم مظاهر العبادة.في اليوم السادس من (اكيتو) ..حيث تبدأ بانطلاق مواكب القادمة من مدن (الأشورية) من (أشور) و(أوروك) و(نيبور) و(أور) و(أريدو)، ولكل مدينة (إله) خاص يخصها تحديدا، بعض المواكب كان يأتي عن طريق البر إلى موقع الاحتفال، وبعضها عن طريق السفن في نهر (دجلة والفرات) ومن مختلف بقاء الدولة (الأشورية) للمشاركة في الاحتفال، يتقدمها موكب إله ( نابو) أبن (مردوخ – أشور) كذلك يقوم إله ( نابو) بزيارة إله الحرب ( ننورتا ) في معبده الخاص، ويتفقان على خطة لقتال إلهين من آلهة الظلام في محاولة لتحرير والده (مردوخ – أشور)، ويقومان بتنفيذ الخطة بنجاح، وشيئا فشيئا يزداد هياج الشعب وغضبه وعنفوان مشاعره وقلقه وشغبه أثناء مرور عربة إله (مردوخ – أشور) بخيولها، ولكن بدون إن يقودها أي شخص، في شوارع المدينة التي تضج بالناس الذين سلبتهم قوى الشر والظلام إلههم (مردوخ – أشور) وكانت العربة التي تسير بدون إن يقودها احد، ترمز لفوضى الكون قبل أن يقوم (مردوخ – أشور) بتنظيمه .
في اليوم السابع من (اكيتو) ..يتم فيه تقديم طقوس تخليص (مردوخ – أشور) من أسر العالم الأسفل، فيقوم إله (نابو) بتحرير الإله (مردوخ- أشور) بعد ثلاثة أيام من الأسر، حيث كانت الآلهة الشريرة قد أغلقت بابا كبيرا وراء (مردوخ – أشور) بعد دخوله بيته، ويتصارع (مردوخ – أشور) معها، لحين مجيء (نابو) الذي سيكسر الباب الصلب، وتبدأ معركة بين الفريقين ينتهي الأمر إلى انتصار الإله (نابو) وتحرير( مردوخ – أشور)، وبعدها تقوم الكهنة بتنظيف تمثال الإله (مردوخ – أشور) وبقية تماثيل الآلهة وإلباسهم حلة جديدة تحضيرا ليوم الغد السعيد .. يوم قيامة الإله المعظم .
في اليوم الثامن من (اكيتو) ..في هذا اليوم تجميع قوى جميع هذه الآلهة لتوهب مجددا إلى الإله (مردوخ – أشور) وهنا يأتي الملك ( أشور) راجيا جميع الآلهة للسير مع (مردوخ – اشور) إكراما له، وهذا التقليد يدل على خضوع كافة الآلهة إلى سيدها (مردوخ – أشور) .
في اليوم التاسع من (اكيتو) ..يقوم الملك (أشور) بقيادة مركبة الإله (مردوخ – أشور) تتبعها عربات بقية الإلهة، وبعد الطواف على جانب النهر يسير بهم الموكب إلى بيت الاحتفالات (اكيتو)، يعطي الملك أوامره لتبدأ الفرقة المقدسة بإنشاد التراتيل الطقسية، حيث يعبر هذا التقليد (موكب النصر) عن مشاركة عامة الشعب بالفرحة بتجدد سلطان الإله (مردوخ – آشور)، وتدمير قوى الشر التي كادت أن تتحكم بالحياة منذ البدء، حيث يسير موكب النصر وتقوم النساء بجمع باقات الورود وسنابل القمح الأخضر وتعليقها على مداخل البيوت ترحيبا بقدوم نيسان الخير، وهذا الطقس ما زال قائما إلى يومنا هذا، فان اغلب العوائل (الأشورية) تقوم منذ مطلع الفجر بوضع باقة من عشب الأخر على مداخل بيوتهم رمزا لقدوم الربيع .
في اليوم العاشر من (اكيتو) ..يقدم الملك (أشور) يده للإله (مردوخ – أشور) يطلب منه النهوض معه، من اجل مباركته لشرعية حكم الملك (أشور) على البلاد، وبعدها تقام ألاحتفالات و بعدها يذهب (مردوخ – أشور) الاقتران بعروسه ( صربانيتوم )، حيث يتم (الزواج المقدس) المرتبط بعيد (الأكيتو)، بينما يقوم الملك (أشور) بالزواج مع إحدى كاهنات المعبد (الإيساغيلا)، حيث يجلسان معا على العرش أمام الشعب ويبدآن بتبادل مراسيم خاصة بهذه المناسبة لإتمام وضمان تلقيح وخصوبة الأرض والحياة للسنة الجديدة .
في اليوم الحادي عشر من (اكيتو) ..في هذا اليوم تتجمع كل الآلهة في معبد (الإيساغيلا) الذي هو بيت الأقدار (أوبشو أوككينا) لتقديم الولاء مرة أخرى لإله (مردوخ – أشور) بمناسبة انتصاره وقيامه بتنظيم الكون .في اليوم الثاني عشر من (اكيتو) ..وهو اليوم الأخير من (اكيتو)، تقام مأدبة كبرى لتجمع عليها كل أبناء الشعب ويتخللها احتفالات ورقصات وغناء لحين إن تختم فعالية هذا اليوم بعودة الآلهة إلى معبد الإله (مردوخ – أشور) و تعاد تماثيل الآلهة إلى المعبد وتعود الحياة اليومية إلى كل المدن الآشورية.
لنستشف من خلال هذه (الميثولوجيا الآشورية) كيف أثرت على الأمم الأخرى والشعوب المجاورة لإمبراطورية (الأشورية) وكيف امتدت علوم والثقافة (الأشورية) إلى (الآراميين) و(الفينيقيين) و (الإغريق) ليتخذوا من رموز (الأشورية) رموز مماثله لهم وبأسماء أخرى، بعد إن تم سرقة تراث (الأشوريين) من بلاد الرافدين حضارة (العراق) ونسبته إلى حضارات وشعوب أخرى، كما إن الكثير من مظاهر الاحتفالات بيوم (اكيتو) في شهر (نيسان) والذي كان يعتبر الشهر الأول من السنة في بلاد (آشور) قد امتدت فكرته إلى (الافنيقيون) و(الحثيون) و(اليهود) و(اليوناني) و(الفرس) حيث احتفل به (الزاردشتيون) منذ القرن السابع ق.م ولكن تحت تسمية ( نوروز)، وهذا التأثير بالميثولوجيا (الأشورية) قد تم توضيحه في الكثير من بحوث الأكاديمية في ارقي جامعات العالم، بكون ما تم اكتشافه من الآثار (الأشورية) وتحديدا قصة الخلق أو( إنوما إليش( وهي (قصة الخلق الأشورية) والتي اسمها ( إنوما إليش) والتي تم اكتشفها (هنري لايارد) في 1849 في آثار مكتبة (أشور بنيبال) في مدينة نينوى العراق وطبعها (جورج سمث (في 1867، والتي تتألف من ألف سطر تقريبا على سبعة ألواح فخارية باللغة الأشورية القديمة، في كل لوح 115 إلى 170 سطرا، بالنص كامل تقريبا عدا اللوح الخامس والتي اكتشفت نسخة عنها في تركيا، ليستشف من إن أفكار (الأشوريين) القدماء عن قصص وملاحم (الخلق والتكوين) لم تكن أفكارا بدائيه بل أفكار متطورة ناضجة بالدرجة مليئة بأفكار فلسفية و معارف لدرجة التي أذهلت المدارس الأكاديمية لحجم تطور ونضوج عقلية الإنسان (الأشوري) في تلك الفترة من بداية حضارة الإنسان، ليثبتوا (الأشوريين) حجم وقوة مقدرتهم الفائقة على الملاحظة والتشخيص الدقيق والربط واستخلاص النتائج بمنتهى المعرفة والمنطق، لتظهر كل الدراسات الحديثة بان اغلب القصص التي تم تفسيرها وترجمتها من خلال بعثات الآثار وفك رموز الألواح الطينية التي اكتشفت في مكتبة الملك (أشور بنيبال) قد انتقلت إلى كل بقاع العالم ابتداء من جوار المحيط الإقليمي لوادي الرافدين (العراق) والى دول (أسيا الصغرى) وبلاد (اليونان) والى مناطق عدة في (جنوب إفريقيا)، مما ترك بصمات واضحة وأوجه شبه بين قصص (بلاد الرافدين) والقصص التي تتداول أو التي دونت بلسان تلك الأقوام، ولعدة أسباب منها:
أولا.. بحكم وقوع اغلب هذه المناطق تحت سلطة الإمبراطورية (الأشورية).
وثانيا.. نتيجة تأثر المجتمعات الغربية بالتراث الفني والحضاري والثقافي (الأشوري) بعد وقوع (العراق- بلاد الرافدين) تحت السيطرة الأجنبية ولفترة ليست بالقصيرة .
وثالثا.. تم نقل وسرقة ألاف قطع الآثار ولوحات الطينية ومخطوطات الأدب من القصص والملاحم البطولية والتي اليوم جلها موجودة في متاحف العالم خارج (العراق).
و رابعا.. ساهمت عملية الترجمة بعض قصص وملاحم (الأشورية) المكتوبة على الألواح الطينية إلى لغاتها المحلية وربما تم تناقلها بلغات الأقوام أخرى وتم نشرها إلى ممالك وأمم وشعوب مختلفة الذين تأثروا بشكل خاص ببعض العادات والمعتقدات والتقاليد (الأشورية) وبشكل عام تأثروا بفنون الأدب والثقافة والفن (الأشوري) في بلاد الرافدين (العراق الحالي).
ومن كل هذه الأسباب فان قيمة التراث (الأشوري) وتأثيراته في الفكر الإنساني كان عظيما، لدرجة التي اخذوا من التراث (لأشوري) الكثير من العادات والتقاليد ومنها الاحتفاء والاحتفال بطقوس احتفالات بـ(رأس السنة الآشورية – اكيتو)، كما ذكرنا سابقا ، و لهذا فان (الأشوريين) إن يحتفلوا بهذا العيد هو تعبير عن تمسكهم بإرث حضارتهم العريقة (حضارة الأشورية)، ولهذا أخذا هذا الاحتفال عندهم طابعا قوميا باعتباره علامة متميزة من علامات التواصل والتمسك بالهوية القومية (الأشورية) وارثها الثقافي والفني والحضاري الموغل في التاريخ والحفاظ على التقاليد الأمة (الأشورية) على مر الزمن أسوة بالأمم والدول المتحضرة التي تعتز بإرثها وتفتخر بحضارتها.
فواد الكنجي