الميثولوجيا الأشورية وتأثيراتها على الأمم الأخرى.. مقال للكاتب فؤاد الكنجي، عيد رأس السنة الأشورية (اكيتو)، نموذجا الجزء 2 من 4
الميثولوجيا الأشورية وتأثيراتها على الأمم الأخرى..
عيد رأس السنة الأشورية (اكيتو)، نموذجا
فواد الكنجي
فعلميا حلت محتويات هذه المكتبة – مكتبة (أشور بنيبال) الأثرية – محل (التوراة)، حيث اعتبروا بان (التوراة) ولقرون طويلة المرجع التاريخي الوحيد عن تاريخ المنطقة، وفي هذا الصدد أيضا أثار العالم ( فريدريك ديلليتش) ضجة إعلامية واسعة حين ألقى محاضرة حول (توراة بلاد آشور) تحت عنوان (بابل والكتاب المقدس) ، في عام 13/12/1902 في العاصمة الألمانية (برلين) بحضور القيصر (فيلهيلم الثاني)، أوضح فيها بـ((أن قصص (التوراة) مأخوذة من بلاد آشور)) مما سبب له التهديد من قبل بعض الحاخامات من اليهود المتشددين، وتم له أيضا التوبيخ الشديد من الكنائس الغربية المتطرفة.
وبهذا لاكتشاف واجه كل من اتجه من المفكرين والعلماء هذا الاتجاه حربا مع الكنائس الغربية واليهود، مما حاولت الجهات الصهيونية تكثيف جهودهم للحيلولة دون إظهار هذه الألواح (الأشورية)، وفعلا عبر موساد (الإسرائيلي) وأجهزة مخابرات واستخبارات الصهاينة؛ تم إخفاء العديد من الألواح (الأشورية) الهامة .
وباختصار، فان لملحمة خلق (إينوما إيليش) الكثير من المدلولات الفكرية الرصينة والتي تم الاقتباس الكثير من مضامينها في قصص (التوراة) فحين تسرد ملحمة الخلق ( إينوما إيليش – عندما في العلى)، بكون الجيل الأول لبداية التكوين حينما كانت الأرض معدومة حيث بدا الكون يتكون من العنصر (الذكر) والذي سمي (إله) المياه العذبة ( آبسو) والعنصر (الأنثى) التي هي (إلهة) المياه المالحة وسميت (تيامات)، وما بينهما يرفرف (إله) سمي بـ(ممو) وهو كان يمثل السماء أو (إله) السحاب، لتتشابه هذه الفكرة مع (سفر التكوين) في اليوم الأول إلى حد التطابق، ثم يتكون الجيل السادس من بداية الخلق حيث الإله (مردوخ – آشور) الذي يخلق (لالو) (الإنسان) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع، وهذا أيضا يتطابق تماما مع ما نص في (التوراة) حين ذكر فيه (خلق الله الإنسان في اليوم السادس واستراح في اليوم السابع – انظر إلى (سفر التكوين)، وفي قصة الخلق ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، فأن الإلهة (تيامات) التي على شكل (التنين) وهي تسبح في البحار، كانت تنوي التخلص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها( آبسو)، فأتت بالوحوش المخيفة استعدادا للمعركة، ولكن اعترضها إله (مردوخ – آشور) ويصارعها فينتصر على (تيامت) فيقوم بشطرها إلى نصفين، فيصنع من القسم الأول (السماء) حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني (الأرض) حيث يخلق الحيوانات والنباتات، وهذا أيضا يتطابق ما ورد في (التوراة) انظر إلى (سفر تكوين)، حيث ( يفصل الله بين مياه ومياه ويصنع السماء والأرض) وبعد أن ينتهي (مردوخ – اشور) من خلق؛ وذلك بخلق زوجا من الإنسان بواسطة الدم والطين وبني (مردوخ – أشور) بيتا له في بلاد (أشور) ليستريح فيه، كلما نزل إلى الأرض في (نيسان) وهذه القصة تتطابق مع ما ورد في (التوراة) تماما حيث ورد النص ( كما سيبني رب الجنود فيما بعد، بيتاً له في إسرائيل) انظر إلى (صموئيل الثاني) .
ولهذا اعتبرت ملحمة ( إينوما إيليش- عندما في العلى)، في التاريخ المعاصر من أهم مكتشفات العلمية والتاريخية المتعلقة بالفكر الإنساني ودياناتهم، فان قيمة هذه الأسطورة التي تعتبر من أقدم الأساطير الملحمية في التاريخ، كان عظيما في (بلاد أشور) وكان (الأشوريين) يجسدون طقوسها والاحتفال بهذه المناسبة سنويا في عموم بلادهم، فكانت مهرجانات ومواكب الملك تقام بشكل احتفالي كبير والشعب يحتفل ويقيم تلاوة طقوسها مجسدين فكرة (خلود سيد الآلهة وبداية الحياة)، حيث كانت الاحتفالات تبد في (الأول من نيسان) كل عام، وكان (العام الواحد) عندهم يتكون من اثني عشر شهرا، وكل (أربعة أشهر) يتكون موسم، ابتدأ من أول نيسان حيث الربيع ويعقبه الصيف ومن ثم الخريف والشتاء وهكذا دواليك، وما زال هذا التصنيف قائما إلى يومنا هذا، وكانت تسمى احتفالات التي تقام في الأول من نيسان (اكيتو)، وكان (الأشوريين) يعتبرون اليوم الأول من شهر نيسان البداية الحقيقية لدورة الحياة الطبيعية على الأرض كونه في نيسان تبدأ الطبيعة بالتجدد والانبعاث.
وهنا لا بد إن نذكر بأن تأريخ (اليوم الأشوري الواحد) منذ سلالتهم الأولى في (سومر) كان يعتمد ويؤخذ من عدة عناصر طبيعية وأهمها القمر وحرك النجوم، وقد استطاعوا (الأشوريون) من تحديد يوم الاعتدال الربيعي في شهر سموه (نيسانو) وما زال يسمى هذا الشهر بنفس الاسم، فقد كان معلوماتهم وحسب التقويم (الآشوري) يبد الاعتدال الربيعي في ليلة (الأول من نيسان)، كما هو موجود في مدونات الأثرية والتي كتبت في الألواح الطينية والتي تبقى هي المرجع الأول والأخير والتي ليوم موجودة في متحف (لندن) .ومن هنا تكمن قيمة التراث في الفكر القومي وخلفياته الفلسفية عند (الآشوريين) في الأول من نيسان، بسبب انبعاث الطبيعة و نزول سيد الآلهة إلى الأرض لتحارب الآلهة الشريرة ثم القضاء عليها وانتصارها ليتم زواجه من الإلهة (عشتار) لتبعث الحياة بتجددها في ببداية الربيع .
وكانت هذه الاحتفالات والتي – كما قلنا تسمى – بـ(اكيتو) وهو عيد (رأس السنة الأشورية) والذي يعد من أقدم احتفالات بمناسبة الأعياد التي عرفتها الحضارة الإنسانية منذ القدم، ويحدد تاريخ بداية هذا الاحتفال في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر حتى القرن الثاني منه، ليكون الاحتفال بهذا العيد ونحن اليوم في شهر نيسان من عام (2019- الميلادي) هو عام (6769- الأشوري)، ليقتبس من هذا العيد في المراحل لاحقة من التاريخ بعض الطقوس وبشكل معدل في احتفالات لدى الأقوام الأخرى بعد وصول طقوسها إليهم؛ كما نجدها في احتفالات التي يقوم بها (الفرس) و(الأكراد) و(المصريين)، والتي سميت لاحقا بـ( عيد الربيع و عيد نوروز أو عيد شم النسيم…الخ)
والذين يحتفلون في يوم 21 آذار وقسم الأخر يحتفل في الأول من نيسان كما عند أبناء وأحفاد (الأشوريين) القدامى في العصور الحديثة .
إن جوهر احتفال بهذا العيد تعود فكرته بان (من الموت تولد الحياة) وبان (الحياة تنتهي بالموت) بشكل (دايلكتيكي) ولادة وموت.. وثم ولادة وموت..
وهكذا تستمر الحياة ضمن دائرة كونية ﻻ تنتهي، والتي ترتب حلقات الحياة بشكلها المتوالي والتي انطبعت في عقلية حياة سكان (بلاد ما بين النهرين) سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، لذلك يكون الاحتفال بعيد (اكيتو) صورة لإعادة إحياء التراث والتاريخ الفكر الإنساني الذي يعرف الأمم على هوية (الأشوريين) .
وفعاليات احتفالات بعيد (اكيتو) تتمحور معطياتها الميثولوجيا وفق طقوس دينية تقام على شكل مهرجانات احتفالية ضخمة والتي كانت تقام سنويا في بلاد (أشور) ابتداء (من 21 آذار) وتنتهي في (الأول من نيسان) يشارك فيها كل أفراد الشعب ومن كافة الطبقات، و يستخدم الكهنة نماذج مجسدة تمثل الآلهة كوسيلة لتعبير ليس إلا، و تبدأ الاحتفالات على نحو التالي :اليوم الأول من (اكيتو) ..تخصص لتطهير النفوس وإقامة طقوس الحزن وتطهير وتنظيف المعابد يقوم بأدائها الكاهن (الإيساغيلا)، و(الإيساغيلا) هو (بيت إله مردوخ – أشور) بمشاركة كهنة المعبد، ويرد عليهم أبناء الشعب بترانيم باكية تعبيرا عن خوف الإنسان من المجهول، بغية تطهير نفوسهم من الذنوب .
اليوم الثاني من(اكيتو) ..يقوم الكاهن الأعلى (الإيساغيلا) في كل صباح الاغتسال من مياه (دجلة والفرات) لتظهير وطلب الغفران من إله (مردوخ – أشور)، راجيا إياه حماية مدن (أشور)عبر تقديم الصلوات والابتهالات.
في اليوم الثالث من (اكيتو) ..يتقدم الحرفيين من النجارين والصباغين والحدادين وصاغه الذهب لعمل عربات وتماثيل ورموز أخرى لتحضير للاحتفالات.
في اليوم الرابع من (اكيتو) ..يقرءا الكاهن الأكبر ( الشيشكالو ) ملحمة الخلق (إينوما إيليش – عندما في العلى) بتفاصيلها المؤثرة وبالنص الكامل، والتي تحكي ((عن بدء الكون وتكون الفصول وإتحاد قوة كافة الآلهة في الإله (مردوخ – أشور) بعد انتصاره على التنين (تيامات) وتعتبر تلاوة هذه الملحمة، تحضيرا لطقوس خضوع ملك بلاد (أشور) أمام (مردوخ – أشور)، ليتسلم الملك صولجانه من الكاهن الأكبر، ويذهب إلى مدينة ( بورسيبا ) حيث يعيش الإله ( نابو) أبن الإله (مردوخ- أشور)، حيث يقضي ليلة واحدة في ( أي زيدا) وهو معبد الإله ( نابو )، وفي الصباح يطلب مساعدة الإله ( نابو ) في مهمة تحرير أبيه الإله ( مردوخ – أشور ) من أسره وأغلاله في عالم الظلام الكوني)).
فواد الكنجي