إستراتيجية الرياضة الناعمة مقال للدكتور ميثاق الضيفي عن الجوانب السياسية والاقتصادية للمناسبات الرياضية الدولية وأثرها على ثقافات الشعوب
استراتيجية الرياضة الناعمة
بقلم/ الدكتور ميثاق بيات الضيفي
تُفهم “القوة الناعمة” في كثير من الأحيان على أنها القدرة على تحقيق الأهداف في مجال السياسة الخارجية عن طريق إقناع واجتذاب التعاطف من الجهات الفاعلة الأخرى
والقدرة على تحقيق المطلوب على أساس المشاركة الطوعية للحلفاء
وذلك باستخدام الجاذبية وليس الإعتمادات,
وهي بهذا تمثل قوة جاذبية النموذج الاقتصادي والسياسي والثقافة والتعليم والإنجازات العلمية والتكنولوجية وإن أحد العناصر الهيكلية الهامة في “القوة الناعمة” ودبلوماسيتها العامة هي بلا شك الرياضة,
التي تؤدي كظاهرة ذات نطاق عالمي العديد من الوظائف الاجتماعية والسياسية كنشر أساليب الحياة الصحية وذلك أمر مهم للغاية بالنسبة للاقتصاد
وللقدرة الدفاعية لأي قوة والعمل على ايجاد وظائف لتعليم وعمل جيل الشباب وتنشئته الاجتماعية وتطوير الشعور بالوطنية والصفات الأخلاقية والمشاركة في العمليات الاجتماعية
وان المساهمة بالنجاح الرياضي للدولة ككل يساهم هو الاخر في اقناع المواطنين بفكرة صحة الدور التي تنفذها الحكومة.
أصبحت الرياضة بالطبع عاملاً مهماً في السياسة العالمية ففي تشكيل الأجندة الدولية تؤدي الدبلوماسية الرياضية دورا متزايد الأهمية فهي تفعل وتنشط الهياكل الحكومية وغير الحكومية
في إطار تنفيذ السياسة الخارجية للدولة عبر تنظيم الأحداث الرياضية الدولية والمشاركة فيها،
ولابد إن تكون هناك عملية نشطة لتشكيل دبلوماسية رياضية كتكنولوجيا إنسانية فعالة من ترسانة استراتيجية “القوة الناعمة” القادرة على حل مهام الدولة على الساحة الدولية.
الأسباب الموضوعية
وتكتسب الدبلوماسية الرياضية زخماً شعبيا كبيرا مفعلة بعدد من الأسباب الموضوعية كالتغييرات الكبيرة في الدبلوماسية التقليدية وطرازها الكلاسيكي المنطوي على التفاعل الدولي وتحوله بشكل موضوعي إلى واحد من الأجزاء الرئيسية في العالم الحديث
وتزايد عدد المنظمات الرياضية ونشر تأثيرها في الساحة الدولية مما افرز تقاربا بين الرياضة والدبلوماسية من حيث قدرتها على بناء صورة إيجابية عن البلد في الخارج
إذ وبفضلها يمكن أن تتغير صورة بلد ما بسرعة كبيرة وسريعة والتي تكون في بعض الأحيان أقل شأنا حتى بالنسبة لنتائج الأعمال الدبلوماسية,
وإن جودة تنظيم الأحداث الرياضية الدولية الكبرى ومستوى تدريب الرياضيين ورغبتهم في الفوز والقدرة ليس فقط على الفوز بل في القدرة على مواجهة الهزيمة بشكل كاف
وكل ذلك يساهم في تكوين الصورة الإيجابية للدولة.
أن الرياضة لديها القدرة على جمع الناس معا بغض النظر عن الأصل والتعليم ومعتقداتهم الدينية أو الوضع الاقتصادي وتحفز على تنمية التبادل الثقافي والحوار بين الثقافات
وتوفر تفاهما دوليا أفضل وتظهر وحدة تطلعات الشعوب لمختلف الدول والقارات،
ولذا تعتبر الدبلوماسية الرياضية عنصراً هاماً في استراتيجية “القوة الناعمة”،
وبالنظر إلى أن مفهومها له طابع سياسي واضح فإنه ليس من المستغرب أن شعار “الرياضة خارج السياسة” يظل مجرد شعار لانها أداة قوية في صراع السياسة الخارجية
وطريقة التأثير السياسي مع الإمكانات الهائلة والفرص الفريدة,
وإن الرياضة أداة قادرة على التعبير عن جوهر العلاقات الدولية والتأثير في نموها فحتى النقاط والأهداف والثواني لها طابع سياسي
واعتمادا على نتائج أداء الرياضيين لبلد معين في الساحة الدولية يتم إنشاء فكرة عن الحالة العامة لنظام إدارة الدولة وليس فقط في مجال الرياضة
والتي لها تأثير ملموس على السياسة الخارجية للدولة وتشارك في تشكيل صورتها على المسرح العالمي وتشجيع العلامات التجارية الوطنية
إذ أن انتصار الرياضيين في المسابقات الدولية الكبرى يسهم في تنمية الدولة ويزيد من سلطتها في العلاقات الدولية،
كما وتعتبر الرياضة اليوم ساحة ليس فقط لتعزيز العلامة التجارية وانما أيضا للنضال السياسي.
قناة مهمة للتلاعب
والرياضة هي قناة مهمة للتلاعب فيما يتعلق بمجموعة من الناس الذين يشكلون جزءًا مهمًا من الحياة
وترتبط الرياضة الحديثة ارتباطًا وثيقًا بأنشطة مجموعة واسعة من الجهات الحكومية وغير الحكومية
ولا يمكن أن توجد رياضة محترفة تماما عن السياسة لأنها تخاطر بفقدان الهدف الرئيسي والخصائص المميزة،
ويتم تحديد قيمة البيئة الرياضية للسياسيين والقوى السياسية من خلال معيار الطابع الجماعي للرياضة والتفرع من المنظمات الدولية والإقليمية.
الرياضة ليس لها خصوم ولا أحد يعارضها فهي عالمية ويعترف بها الجميع عندما يتعلق الأمر ببطولة كأس العالم فإن الجميع يهتم به بغض النظر عن الجنسية
وتمحو الاختلافات بين أفراد الجمهور والسياسيين ويجري تنفيذها كدبلوماسية تقليدية وكوسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لدولة ما ولذلك هي وسيط قوي قادر على المساعدة في بناء العلاقات والتغلب على الاختلافات الثقافية والأخلاقية
مع رسالة إيجابية مفادها أنها تشارك قيما مثل الاحترام المتبادل والتسامح والتعاطف والانضباط وتكافؤ الفرص وسيادة القانون،
كما وتعتبر أداة أكثر فعالية في السياسة الخارجية من الجزرة أو العصا,
فتستند إستراتيجيتها الناعمة على العمل الجاد الذي يتترجم عبر الإكراه أو تهديد الإكراه وبمساعدة المكافآت والحوافز من خلال توفير فوائد اقتصادية معينة والمطالبة ،
كما إن لها جانبان على الأقل كجانب التقنية الإيجابية الذي يسمح بتحسين التفاهم المتبادل بين الدول والشعوب فهو وسيلة لتعزيز الإثراء الثقافي
وكسياسة لتعزيز المصالح الوطنية دون التدخل في اتخاذ إجراءات مدمرة عدائية ضد العناصر الفاعلة الأخرى وفرض القيم الخاصة بها باعتبارها عالمية,
وجانب تشويه خصومها جيوسياسيا والذي عبره يمكن أن تعكس المصالح المشتركة للدول والأمم المختلفة لتوحيد الجماعات المختلفة
بغض النظر عن الأصل العرقي والاجتماعي والتقاليد التاريخية والأفضليات السياسية
وكذلك تتشكل هي وكأنها مثابة للتأثير على الوضع في المجتمع والثقافة والسياسة والدبلوماسية,
لذا يمكن عبر ذلك كله أن تعزز التحالفات القائمة كما ويمكن لها أن تؤدي إلى تفاقم النزاعات بين الدول
وأيضا يمكن أن تكون بمثابة حافز للتنمية الاقتصادية وربما يمكن أن تكون أيضا بمثابة سلاح دعاية قوي.
الرياضة والسياسة
وهنا لابد إن نؤكد إن الرياضة لم تكن ابدا خارج السياسة ولا يزال التاريخ يعرف العديد من الحالات عندما ظهرت كعامل في تحسين العلاقات بين الدول ومساهمتها في تطوير علاقات حسن الجوار بين الدول
فهي لديها إمكانات إنسانية قوية فلذا يستوجب استخدامها بتوحيد جيش كبير من الرياضيين والمشجعين وممثلي الحكومات والأعمال التجارية ووسائل الإعلام كوسيلة فريدة لجذب انتباه البشرية إلى المشاكل العالمية
بوضع برنامج ثقافي وتعليمي خاص ونشر لفكرة التنوع الثقافي والتسامح الذي ما هو إلا التجسيد المرئي للـقوة الناعمة للدبلوماسية الرياضية.
غير انه وفي سياق التحديات السياسية وتحول النظام السياسي فإنها لا يمكن أن تبقى هي محايدة سياسيا وإن الدعوة إلى ترسيم الرياضة والسياسة لا معنى له
لأن مثل هذه المسابقات والألعاب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة العالمية حتى أصبحت مراراً وتكراراً ضحية للتسييس والشوفينية والدعاية،
وفي سياق الثورة الإعلامية والتواصلية اكتسبت الرياضة أهمية خاصة لتوفيرها فرصة فريدة للبلد المضيف لالعابها ولتعزيز صورته الخاصة في أعين المجتمع الدولي
من خلال تقديمه بقصة ملوّنة وفي شكل إيجابي ومشروع بنية تحتية واسعة النطاق وتحميله لقناع القيم الإنسانية.
المشاريع السياسية والاقتصادية
والأحداث الرياضية الدولية الكبرى ولا سيما الألعاب الأولمبية هي أهم المشاريع السياسية والاقتصادية
كونها أكبر المنتديات وأكثر المنتجات الترفيهية الشعبية ما تمنح الدولة المنظمة الفرصة لتشكيل ولتحسين صورة السياسة الخارجية والسمعة الوطنية فتعمل الألعاب الأولمبية كأداة قوية “للقوة الناعمة”
وإن الدول المهتمة بصنع صورة جذابة لمعارضيها الجيوسياسيين قد تتعمد تشويه المعلومات عن الألعاب من خلال تقديمها بوجوه ثانوية
ولذا أصبح من الواضح أنه في ظروف التقنيات الرقمية الحديثة من الممكن إعداد أكبر مسابقة رياضية دولية على المستوى المناسب
وفي نفس الوقت استخراج أقصى فائدة للصورة بسبب المزيد من الإجراءات النشطة في الفضاء المعلوماتي للاعبين المتنافسين,
وعلى الرغم من استخدام الأولمبياد لأغراض سياسية إلا أنه من المستحيل إنكار أن للأولمبياد إمكانات هائلة لأجل تحقيق “القوة الناعمة”
وهي ظاهرة اجتماعية فريدة تحمل مجموعة كاملة من الأفكار الإنسانية والتي تقوم على مسابقات رياضية سلمية ونزيهة
وإن عقدها في بلدان مختلفة في كل مرة يمنحها أصالة مشرقة عبر المشاركين والمشجعين لإمكانية الإثراء المتبادل للثقافات
وهي محفز قوي للتنمية الرياضية في جميع أنحاء العالم وتعزز أسلوب الحياة الصحية وتعزز التنمية الجسدية والروحية والأخلاقية للشباب
كما إنها تعد من أهم العوامل الاجتماعية التي تسهم في توطيد السلام العالمي وتنمية العلاقات الودية بين الدول وأن أية سلطة تدعي أنها تتمتع بوضع عالمي أو إقليمي في السياسة العالمية
هي ملزمة بوجود مجموعة أدوات “القوة الناعمة” والتي تشكل دبلوماسية الرياضة جزءًا لا يتجزأ منها
لذا يمكن استخدامها لبناء علاقات حسن الجوار وكحافز للإثراء المتبادل للثقافات وتكثيف التبادلات الثقافية والإنسانية
وحتى المساعدة في حل القضايا الدبلوماسية الرئيسية كوسيلة قوية للتلاعب السياسي والضغط على المنافسين الجيوسياسيين.
الدكتور ميثاق بيات الضيفي