العلماء و أولو الأمر للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين ، لا تعتصم الأمة بهدي الله، ولا تظهر في قوة ومنعة إلا أن يقيض الله لها علماء، يملأ الخوف من الله قلوبهم،
العلماء وأولو الأمر
للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
يقصد الإسلام لأن يخرج للناس أمة تجلها القلوب، وتهابها العيون، وإنما تجلها القلوب وتهابها العيون على قدر اعتصامها بهدي الله،
وعلى قدر ما تأخذ به من مظاهر القوة والمنعة.
ولا تعتصم الأمة بهدي الله، ولا تظهر في قوة ومنعة إلا أن يقيض الله لها علماء، يملأ الخوف من الله قلوبهم، حتى لا يدع فيها للخوف من مخلوق مثقال ذرة،
وتظفر مع هذا بولاة يحرصون على أن يقيموا العدل، ويستقيموا على طريق الرشد أكثر من حرصهم على ما تشتهي أنفسهم، وتلذ أعينهم من متاع هذه الحياة.
لهذا عُني الإسلام بأن يكون في الأمة علماء لا يكتمون عن أحد نصائحهم،
وأمراء يحبون أن يسمعوا كلمة الحق تتردد في مجالسهم.
والتاريخ الصادق يحدثنا أن بلاد الإسلام قد حظيت بعلماء يزهدون في زهرة الحياة الدنيا، ويبيعونها بكلمة حقٍّ يقولونها؛
ابتغاء أن يكون لها في إصلاح حال السلطان أثر كبير أو صغير.
وحظيت برؤساء يرتاحون لوعظ العالم الأمين، ويسيغونه إساغة الظمآن للماء القراح.
وبمثل هؤلاء العلماء والأمراء تسعد الأمة، ويعظم شأن الدولة.
والتاريخ الصادق قد حدثنا _ أيضاً _ أن في أهل العلم من فَتَنَتْهُ الدنيا بزخرفها،
فانطلق يجري وراءها، لا يرعى للحق عهداً، ولا لجانب الله حرمة.
وحدثنا أن في الرؤساء من يكون نصيب اللهو والانهماك في الشهوات منه أكثر من نصيب الجد والرُّشْد.
وإذا حدثنا التاريخ عن أمة ذلت بعد عزة، أو دولة سقطت بعد قوة فَتَبِعَةُ الذل والسقوط ملقاة على رقاب أولئك العلماء الذين لا ينصحون، أو الرؤساء الذين لا يحبون الناصحين.
نلقي نظرة على تراجم العلماء، فنجد حالهم مع الأمراء يجعلهم على ثلاثة أصناف:
أولهم: عالم يضع نصب عينه رضا الله، ويهمه أن يسير أولو الأمر في الناس على استقامة،
فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بمرأى ومسمع منهم غير مبال بأن يقع أمره أو نهيه لديهم موقع الرضا والقبول، أو موقع الكراهة، والإعراض عنه.
قيل لمالك: إنك تدخل على السلطان وهو يظلم ويجور؟
فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام في الحق؟!.
واجب النصيحة للأمراء
والعلماء الذين يقومون بواجب النصيحة للأمراء يختلفون في أساليب وعظهم؛
فمنهم من يسلك طريق الصراحة،
ويشافِهُ الأمير بإنكار ما يريد إنكاره على وجه التعيين؛ حيث يرى أن طريق التصريح والتعيين أبلغ وأقرب إلى نجاح الدعوة.
كان السلطان سليم أمر بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن؛
فبلغ ذلك الشيخ علاء الدين الجمالي فدخل على السلطان وقال له:
وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً؛
فعليك بالعفو عنهم، فغضب السلطان سليم،
وقال للشيخ: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك.
فقال: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي؛
فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم؛
فانكسرت سورة الغضب في نفس السلطان، وعفا عن أولئك الرجال الذين كان قد أمر بقتلهم.
ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح؛
إذ يراه كافياً في إبلاغ النصيحة.
قدم الشيخ أبو بكر بن سيد الناس حاضرة تونس في عهد المنتصر بالله، ولما دخل على الأمير أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن،
فقرأ [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]
فاستحسن المنتصر قراءته، وقصدَه، وكان ذلك سبب حظوته، ورفع منزلته عنده.
ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة، ويوطِّن نفسه على احتمال كل ما يمكن أن يلاقيه من أذى.
وقد صبر رجال من كبار أهل العلم أيام فتنة القول بخلق القرآن، على ما أصابهم في الدين من أذى، واحتملوا أشد العذاب،
مثل نعيم بن حميد الذي توفي في سجن الواثق، وأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتل في عهد الواثق، وأحمد بن حنبل الذي سجن وضرب في عهد المعتصم،
ومثل أبي يعقوب البويطي الذي حمل مقيداً من مصر إلى العراق حتى مات في أقياده.
العالم لا يقبل الاستسلام أو العزلة
ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت، وعدم التعرض للسلطان بأمر أو نهي،
ويصح أن يقال: إن هؤلاء قد أخذوا بالرخصة، وليس لهم من قوة الصبر على الأذى ما يحملهم على أن يأخذوا بالعزيمة،
ويجاهروا بالدعوة إلى حق أو إصلاح.
وإذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي؛
اتقاء لأذى لا طاقة له به فليس له أن يكتم الحق لمجرد الخوف من أن يجفوه السلطان، أو يبعده من مجلسه، أو يحرمه من ولاية منصب.
ثانيهم: عالم يذهب مذهب العزلة والبعد من ساحات الأمراء؛
حتى لا يقف بين يدي ذي نخوة وتعاظم،
ومن هؤلاء من يقول:إن صحبنا الملوك تاهوا عليناواستخفوا كبراً بحق الجليسفلزمنا البيوت نستخرج العلمونَمْلا به بطون الطُّروسوملاقاة النخوة والتعاظم ليست عذراً يبيح للعالم القعود عن إسماع الأمراء النصيحة،
فقد دخل موسى _ عليه السلام _ على فرعون؛
ليدعوه إلى الحق وكان فرعون متكبِّراً جبَّاراً.
وقد يبتعد العالم عن الأمراء الذين لا يعنون بتنقية ساحتهم من أقذاء النكرات؛
كراهة أن يشاهد منكراً.
وقد يكون هذا الابتعاد حكمة متى عرف العالم أنه لا يستطيع النصح بإزالة ذلك المنكر، وأنه لا يجتني من رؤيته إلا حسرة وأسفاً.
وقد يكون الاقتراب خيراً من الابتعاد متى قصد بالاقتراب إيصالَ النصيحة إليهم، عسى أن تجد أذناً واعية أو نفساً زاكية،
وكان أبو الحسن الأشعري يقصد إلى مجالس المعتزلة؛ ليناظرهم،
ويقول: هم أولو رياسة منهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليَّ،
فإذا لم أسر إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن لأهل السنة ناصراً بالحجة؟
ثالثهم: عالم يتردد على ساحة الأمراء، ويميل مع أهوائهم،
وربما بلغ به الإغراق في ابتغاء مرضاتهم أن يحرِّف أحكام الله عن مواضعها.
ومثل هذا الصنف من العلماء لا يرجى منهم أن يبسطوا ألسنتهم إلى السلطان بنصيحة.
ولهذا الصنف جنايات على الدين، وعلى الأمة، وعلى الأمراء أنفسهم؛
أما جنايتهم على الدين فلأنهم يختلقون أحكاماً يلصقونها بالدين وليست من الدين.
جناية العالم المنهزم
وأما جنايتهم على الأمة فلأنهم يسهلون على الولاة السير بالسياسة في طريقة عمياء.
وأما جنايتهم على الأمراء أنفسهم فلأن الأمة إنما تَفْتَحُ صدورها لمحبة أمرائها، وتبذل لهم حسن الطاعة من جميع أفئدتها متى ساروا في رَشَد، وساسوا الناس بقوانين العدل.
ونحن نعلم أن العصور تتغيَّر، وأن مقتضياتها تختلف، ولكن الحق هو الحق، والكرامة هي الكرامة؛
فلا يأتي عصر يفقد فيه الحق جلالَه، ولا يأتي عصر يبيح للعالم أن يداهن السلطان، ولا أن يغمض عن شيء من كرامته.
وإنما هي التربية الدينية الصحيحة تُرِي العالمَ وجهَ الحق مشرقاً؛
فلا يرضى إلا أن يحميه بيده أو لسانه، وتريه منزلتَهُ شامخةَ الذُّرى؛
فيأبى أن ينزل عنها، ولو وضعت الشمس في يمينه، والقمر في يساره.
يحدثنا التاريخ القديم أن بعض المنتمين إلى العلم كانوا يتملقون أولي الأمر من المسلمين، وقد يفتونهم بغير ما أنزل الله،
ويحدثنا التاريخ غير القديم أن من المنتمين إلى العلم من يتملق بعض المخالفين الغاصبين،
ويرضى أن يكون جسراً يعبرون به إلى قضاء مآربهم التي يكيدون بها الإسلام، والمسلمين.
وقد يسمي هذا العالمُ تَمَلُّقه للمخالفين الغاصبين مُداراة؛
ليقضيَ بعض حاجات شخصية، وربما زعم أنه يقضي بهذا التملُّق مصالح وطنية.
والواقع أن اتصال العالم بالمخالفين الظالمين، وهو يستطيع أن لا يتصل بهم وصمة في عرضه لا يغسلها ماء، وجناية على الدين خاصة، والأمة عامة.
أما أنه وصمة في عرض ذلك العالم فلِمَا عُرِف من أن المخالف الغاصب لا يقبل بوجهه، ولا يضع يدَ الصداقة إلا في يد مَنِ اختبر سرائرهم، ووثق من إخلاصهم له.
وأما أنه جناية على الدين فلأن ذلك الاتصالَ الآخذَ اسمَ الصداقة خروجٌ عن الدين الذي ينهى عن مودة أعدائه.
وأما أنه جناية على الأمة عامة فلأن هذا العالم لا يتحامى أن يرضى أولئك المتغلبين المخالفين بالمساعدة على أعمال يفسدون بها على الأمة أمر دينهم أو دنياهم.
حال الأمراء مع العلماء
ونلقي بعد هذا نظرة في حال الأمراء مع العلماء الذين يجاهرونهم بالنصيحة، أو يؤثرون الحق على أهواء الأمراء،
فنجدهم ثلاثة أصناف:
أولهم: أمير تلقى إليه النصيحة فيأخذه التعاظم بالإثم، ويقابل الناصحين بوعيد أو بعقوبة المجرمين.
وقد يدعو بعض الأمراء بعض العلماء إلى حرام، فلا يجيبه إلى ذلك، فيناله بالعقوبة،
ويتلقاها العالم بصبر جميل: دعا أحمد بن طولون القاضي بكار ابن قتيبة لخلع الموفق من ولاية العهد للخلافة، فامتنع، فحبسه،
وما زال يكرر عليه القول وهو لا يجيبه إلى ذلك، حتى مرض ابن طولون وأمر بنقل بكار من السجن إلى دار اكتُريت له.
ثانيهم: أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظةَ تأتي على غير ما يهوى، ولكنه يهاب مكان العالم؛
فلا يقابله بأذى: استدعى أبو جعفر المنصور عبدالله بن طاوس بن كيسان ومالك بن أنس،
فلما دخلا عليه أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاوس، وقال له حدثني عن أبيك،
فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله _ تعالى _ في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك أبو جعفر ساعة،
قال مالك: فضممت ثيابي؛
خوفاً أن يصيبني دمه، ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة، قال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له لم لا تناولني؟
فقال: أخاف أن تكتب بها معصية؛
فأكون قد شاركتك فيها!فلما سمع ذلك قال: قوما عني،
قال: ذلك ما كنا نبغي!قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم.
ثالثهم: تأخذه اليقظة وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق وشكر الدعاة إليه: دخل عز الدين بن عبدالسلام إلى السلطان أيوب نجم الدين وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: لم أبق لك ملك مصر ثم تبيح الخمور! فقال: هل جرى هذا؟
قال: نعم، الحانةُ الفلانية تباح فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
ابن شهاب والوليد
ودخل ابن شهاب على الوليد بن عبدالملك، فسأله الوليد عن حديث:
إن الله إذا استرعى عبداً لخلافة كتب له من الحسنات ولم يكتب له من السيئات
فقال له: هذا كذب، ثم تلا [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] الآية.
فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
ولما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة كتب طاوس بن كيسان إليه: إن أردت أن يكون عملك خيراً فاستعمل أهل الخير.
فقال عمر: كفى بها موعظة.
ومن الأمراء الذين كانوا يوسعون صدورهم لنصح العلماء عبدالرحمن الناصر؛
فقد كان القاضي منذر بن سعيد يواجهه بإنكار ما يراه من أعماله منكراً، كخطبته التي ألقاها على مسمع منه في إنكاره عليه الإسراف في الإنفاق على بناء القصور وزخارفها.
ومن مواقف منذر بن سعيد في هذا السبيل دخولُه على الناصر،
ومخاطبتُه بالبيتين:يا بانيَ الزهراء مستغرقاًأوقاتَه فيها أَمَا تمهللله ما أحسنها رونقاًلو لم تكن زهرتها تذبلولم يزد الناصر على أن قال: إذا سقيت بماء الخشوع،
وهب عليها نسيم التذكار، لا تذبل إن شاء الله.
ولقبول الأمراء لنصح العلماء فضل لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الأمراء،
فإن النفوس ولاسيما الشاعرة بما لديها من قوة ومقدرة على البطش شأنها النُّفورُ مِنْ أن تُؤْمَرَ بمعروف أو تُنْهَى عن منكر؛
تتخيل أن ذلك الأمر أو النهي يتضمن نسبتها إلى الجهل، أو القصد إلى ارتكاب أمر قبيح؛
فإن تَلَقَّى الأميرُ نصيحةَ العالمِ الأمين، وأساغها على ما فيها من مرارة _ دلَّ ذلك على أنه يُجل الحقَّ، ويبتغي الخير،
ويريد أن يفتح لحرية القول باباً طالما أغلقه المستبدون الظالمون.
ولا تبلغ الأمم مراقيَ المنعة والسيادة إلا أن يكون باب الحرية مفتوحاً في وجوه الدعاة المصلحين.
يُقْدِمُ العالمُ الأمينُ على نصح ذي السلطان؛
غيرة على الحق، وحرصاً على أن يكون ذو السلطان كاملَ السيرة طيب السمعة.
وكثير من الأمراء مَنْ يفهم وعظ العلماء على هذا القصد، ويكون في نفسه نزعة إلى الاستقامة؛
فيتلقى الإرشاد بارتياح وشكر.
الأمراء المستقيمون
الأمراء المستقيمون يرتاحون لوعظ أهل العلم، ومنهم من يطلب من أتقياء العلماء أن يزودوه بالوعظ، كما كان عمر بن عبدالعزيز وأمثاله يفعلون ذلك.
يعظ العلماء المستقيمون الأمراء؛
فيساعدونهم على أن يكونوا أمراء راشدين، ويستطيع الأمراء أن يلاقوا العلماء بما يساعدهم على أن يكونوا علماء مصلحين، وسبيل هذه المساعدة أن يُجِلُّوا العلماء،
ويُفْهِموهم أنهم يُجِلُّونهم لعلمهم واستقامتهم،
ثم إذا استفتوهم في واقعة طلبوا منهم أن يبينوا لهم حكم الله الذي تدل عليه نصوص الشريعة أو أصولها دلالةً تطمئن إليها النفوس.
وإذا استبانوا أنَّ عالماً فقد الخشية من الله،
وأخذ يبتغي مرضاتهم بتحريف النصوص أو تلقط الأقوال الساقطة _ عدوه في جماعة المنافقين،
وأشعروه بأن مثل هذا النفاق لا يزيدهم عندهم إلا حقارة،
ثم كانوا منه على حذر.
وبمثل هذه السيرة يصل الأمير العادل إلى أن يرى المعاهد العلمية،
والمحاكم الشرعية طافحة بعلماء تزدهر به مملكتُهُ ازدهارَ السماء بالكواكب النَّيِّرة.
(1) رسائل الإصلاح _ 1/223.