الإسلام والعلم للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
الإسلام والعلم للعلامة
طَلَعَ الإسلام، فوجد طرقاً من الباطل مسلوكة، ومظاهر من الفساد مألوفة، فجاهد تلك الأباطيل حتى زهقت،
وكشف عن قبح تلك المفاسد حتى هجرت، قوم النفوس حتى استقامت على توحيد الله _ تعالى _ والعبادات التي يتقبلها، ويجزل المثوبة عليها،
وعلَّمها بعد هذا كيف تعيش في هذه الدنيا عالية الهمم، نبيلة الأعمال، عزيزة الجانب، محفوظة الكرامة مأمونة العواقب، سديدة الأنظار، رشيدة الآراء، متواصلة القلوب.
وتفاضل الشعوب على قدر أنصبائها في هذه الخصال والمزايا التي لا تتحقق المدَنِيََّةُ الفاضلة إلاَّ بها.
دعا الإسلام إلى تلك المقاصد السامية، وأخذ في دعوته بإقامة الحجة، وإلقاء الحكمة، وضرب الأمثال، وإيراد القصص العامرة بما فيه عبرة.
نَشَأَ هذا الدين الحق بين خصوم يناصبونه العداء، ويأتمرون به؛ ليطفؤوا نوره ويقطعوا السبيل دونه،
وما كان إلاَّ أن خاب سعيهم، فسطعت حُجَّته، وعَلَتْ كلمته،
ومع سطوع حجته وعلو كلمته يَلْقى في كل عصر طوائفَ يأكل الزيغُ قلوبَهم، فيطعنون فيه علناً، أو يذهبون في الكيد له مذهب التأويل الفاسد وهم يعلمون.
ولم يفقد بتوفيق الله _ تعالى _ في كل عصر طائفة من ذوي العقول الراجحة لا يخشون في الذود عن موارده لومة لائم، فيزيحون من طريق هدايته ما يلقيه أولئك الجاحدون أو الـمُرَاؤون.
ومن هذه الطوائف الخاطئة من يزعم أنَّ الإسلام لم يبعث الدواعي إلى طلب العلم.
والواقع أنَّ الإسلام قد رفع قدر العلم، ونوَّه بشأن العقل، وسلك بطلاب العلم مسالك النظر والاجتهاد، وعودهم على نقد الآراء، و تمييز زائف الأخبار من صحيحها،
فلما نُقلت العلوم النظرية إلى اللغة العربية وجدت منهم نفوساً تَلَذُّ العلم، وعقولاً تنشط للمناظرة، وألسنةً تعرف كيف تقرر الحجة؛
ففتحوا لها صدورهم، ووضعوها تحت سلطان أنظارهم، ولم يمنعهم إعجابهم بها، وتنافسهم على التَضَلُّعِ من مواردها أن يطلقوا الأَعِنََّةَ في مناقشتها، وتقويم الـمُعْوَجِّ من مذهبها،
فَسَدُّوا ثغوراً يأتي من قِبَلها الباطل، وذَلَّلوا لطلاب العلم الطريق الذي تَفَيَأوا فيه ظلال الرشد، وتُدْني فيه الفلسفةُ المعقولةُ قطوفها؛
فقامت للعلوم على اختلاف موضوعاتها سوقٌ نافقة، وأصبحتَ ترى علوم الشريعة وعلوم الفلسفة المعقولة يلتقيان في النفوس المطمئنة بالإيمان،
وتَسَنَّى للتاريخ أن يحدثك عن كثير من علماء الإسلام، ويصفهم بأنهم جمعوا بين العلوم الشرعية، والعلوم الفلسفية، كالغزالي، وابن رشد، وأبي عبيدة مسلم ابن أحمد الأندلسي،
وهو أول من اشتهر في الأندلس بعلم الفلسفة، وكان مع هذا صاحب فقهٍ وحديث.
ومن الظن الخاطئ ما تَخُطُّه بعض الأقلام من أنَّ هذه العلوم المادية قد تشد أزر الإلحاد، و تجعله يظهر على دين كدين الإسلام؛
فإنَّ النظر الصحيح في هذه العلوم لم يأت بما يؤازر الإلحاد، وليس في نصوص الدين الإسلامي وأصوله ما يتعارض مع العلم الصحيح حتى يستطيع الإلحاد أن يتخذ منه قوة.
وإنما الآراء التي تدفعها الحجة قد تقع في يد من لا يحسن نقدها، ولا يميز رأسها من عقبها، فيعارض بها آية من كتاب الله، أو حديثاً صح عن رسول الله” ويذهب في الحيرة أو الضلالة إلى مكان بعيد.
وقد تكون آفة الرجل من عدم تفقهه في الدين، وتخيله أن معنى الآية أو الحديث يخالف ما أثبته العلم الصحيح.
فبلاء أبناء المسلمين الآن من أحد رجلين: رجلٍ يتعلق بآراء المنتمين إلى الفلسفة، لا يُفَرِق بين جَيِّدِها وزائفها،
حتى إذا لَقِيَ في الدين ما لا يوافق تلك الآراء الزائفة خالطه الريب أو الجحود، ورجلٍ يدرس الفلسفة ولكنه لم يدرس الدين في طمأنينة، ولم يبحث في حقائقه بنظر فاصل؛ فيتوهم أن بعض نصوص الدين أو أصوله لا يطابق المعقول.
ماذا يكون مَبْلَغُنَا من الحكمة إذا لم نَزِنْ آراء علماء الغرب بالقسطاس المستقيم، ولم نُفَرِّق بين ما ينبني على علم أصيل، وما يقولونه على وجه الفرض، أو يتعلقون فيه بشبه واهية،
وعمدنا إلى كل نص يظهر لنا أنه مخالف لرأي من آراء أولئك العلماء؛ فنذهب في تأويله إلى معنى يطابق ذلك الرأي،
حتى إذا انكشف الحق وظهر للملأ أنَّ ذلك الرأي خيال في خيال، عُدْنَا إلى ذلك التأويل فمحوناه بأيدينا، وكذلك يفعل من يستهويه كل ناعق، ويفتنه كل جديد؟!.
لم يخلص الدين من مبتدعة أو زنادقة افتروا عليه مزاعم باطلة، وذهبوا في تأويله مذاهب فاسدة.
وقد قام علماء الشريعة الذين يردون منابعها العالية؛
فبينوا بطلان تلك المزاعم وفساد تلك المذاهب، فما كان لأحد أن يأتي إلى أمثال هذه الأقذاء التي نفاها أهل العلم من قبل، ويتخذ منها شبهة على أن في الدين ما لا يقبله العقل أو لا يرضى عنه العلم.
فإنْ بدا لك أنَّ في قسم العبادات ما لم يصل العقل إلى حكمته الخاصة وهو ما يقول فيه بعض العلماء: هذا الأمر تعبدي،
قلنا: معنى هذا أن في الشريعة أحكاماً قد تخفى على العقل حكمتها المعينة، كما أنه لا يستطيع إنكارها إنكاراً يستند إلى وجه معقول.
وهذا النوع _ على قلته في شريعة الإسلام _ ليس بموضع خلاف بين الدين والعلم أو العقل، وإنما يرينا أن من أحكام الدين ما لا يدخل العقل في تفصيل حكمته، ولا في نفي حكمته.
ولكن الآيات القائمات على أن الدين حق هي الآيات البَيِّنَات على أن هذه الأحكام مطوية على حكمة بالغة،
وإن لم ندركها بوجه خاص؛ فإن الدين الحق لا يدعو إلاَّ لما فيه خير [وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] الأحزاب: 4.
(1) مجلة نور الإسلام الجزء السادس، المجلد الرابع ص67_69
#محمد_الخضر_حسين