Site icon حديقة المقالات

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، وتجدد إحساس الإنسان للصورة المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيلاً.

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية

قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية (١)

للعلامة الشيخ: محمد الخضر حسين

في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، وتجدد إحساس الإنسان للصورة المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيلاً.

ولِتَجَدُّدِ إحساس الصور المسمّى تخيلاً أو تصوراً، أسبابٌ، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس، المماثلة، ويليه التضاد، ثم الوحدة المكانية، ثم الوحدة الزمانية.

والتماثل أن يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة،

فمن رأى الماء الصافي تذكر المرآة الصقيلة، ومن رأى القمر تذكر طلق المحيا، ومن رأى النرجس تذكر العيون،

ومن جلس إلى كاذب تذكر مسيلمة الكذاب، ومن سمع أن معتوهاً ادّعى أنه نبي أو أن باطنياً حرف آيات الذكر الحكيم عن مواضعها تذكر زعيم طائفة القاديانية، أو زعيم طائفة البهائية.

وانظر إلى أبي الإصبع، كيف يخطر في باله ريق المرأة وثغرها فيذكر ما بين العذيب وبارق،

ويخطر في باله قدها، ومدامعها تجري لفراقها، فيذكر مَجَرَّ الرماح، ومجرى الخيل، أخبر بذلك في قوله:

إذا الوهم أبدا لي لماها وثغرها

تذكرت ما بين العذيب وبارق

ويذكرني من قدها ومدامعي

مجر عوالينا ومجرى السوابق

والتضاد أن يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل، كالسرور والحزن، والضحك والبكاء، والشجاعة والجبن، والإخلاص والرياء،

فإذا خطر في البال أمر تبعه ضده، فمن حضر في ذهنه الشتاء تذكر المصيف،

ومن وقع في خاطره التقوى انتقل إلى معنى الفسوق، ومن هذا الباب ترى شخصاً، فتذكر خصمه المبين،

وترى آخر في بلاء، فتذكر العافية، ولهذا عدَّ علماء البلاغة التضاد من علاقات المجاز.

والوحدة المكانية أن تحس الشيئين في مكان، وإن اختلف الإحساس،

كأن ترى شخصاً في مكان صباحاً، وترى شخصاً آخر في المكان نفسه مساءاً،

فمن كثرت مشاهدته لشخصين في مكان، ثم رأى أحدهما حضرت في ذهنه صورة الآخر.

ارتباط الخيال بالمكان

ويتصل بهذا أن يجري ذكر الواقعة، فينتقل ذهنك إلى مكانها، أو تشاهد المكان فيحضر في ذهنك صورة الواقعة،

ومما يجري على هذا قول ابن الرومي:

وحبّب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالك

إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرَتْهُمُ

عهودَ الصبا فيها فحنوا لذلك

والوحدة الزمانية أن تحس الشيئين في زمن واحدة، فإذا وقع بصر الإنسان على شيئين في وقت واحد،

ثم رأى أحدهما بعدُ تذكر الآخر، بل إذا حدَّث عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورة في قوة الحافظة،

ثم رأى أحدهما أو جرى ذكره في المجلس حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر.

ويدخل في هذا الباب تذكر الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند أسبابها، كتذكر النار عند ذكر الحرارة، أو الدخان،

وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عدّ علماء البلاغة من علاقات المجاز السببية والمسببية.

ومما ينبهك على أن اقتران الشيئين في الزمان يجعل حضور أحدهما داعياً إلى حضور صورة الآخر قول الخنساء:

يذكرني طلوع الشمس صخراً

وأذكره بكل مغيب شمس

فإنها تذكره عند طلوع الشمس؛ لأنها كانت تراه وقت الطلوع في مظهر الشجاعة والتهيؤ للغزو،

وتذكره عند مغيب الشمس؛ لأن وقت المغيب وقت توارد الضيوف عليه، وإطعامه الطعام في الغالب.

وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط؛ ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة أخرى، ومن هذه الصورة إلى غيرها،

وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصور المتماثلة أو المتضادة أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد.

فإذا شاهدت مصادفة ثلجاً على شجرة حول رمل، وفي منتهى الرمل بحر_فقد يخطر ببالك الثلج في وقت آخر، فتنتقل منه إلى الشجرة، ومن الشجر إلى الرمل، ومن الرمل إلى البحر.

ولو كنت شاهدت في البحر سفينة لكنت تنتقل من الرمل إلى البحر، ومن البحر إلى السفينة.

سلسلة أفكار

ولو شاهدت الثلج مركوماً في الشارع، والشارع محاط بمبان ذات نوافذ مفتحة_لكان لك عندما يذكر الثلج سلسلة أفكار، حلقاتها الثلج والشارع والجدران والنوافذ المفتحة.

ولو اتفق لك أن كنت شاهدت في زمن آخر نوافذ يشرف منها وجوه بيض، لانتقلت من النوافذ إلى الوجوه البيض،

ومن الوجوه البيض إلى الوجوه السود، ثم إلى البلاد التي يكثر فيها الوجوه السود، فتصل هذه السلسلة في التخيل للسلسلة الأولى.

فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليه،

وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقها في أسباب ارتباط هذه الحلقات،

ثم يفترقان في غيرها من الحلقات فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.

ومثال هذا أن يجري في حضرة المولع بالخمر، والقائم على أدوات الطعام ذكر الكأس،

فينتقل المولع بالخمر من الكأس إلى الخمر، ويذهب متنقلاً فيما يتبع الخمر من لهو وفسوق.

أما القائم على أدوات الطعام، فإنه ينتقل من الكأس إلى الملعقة، إلى الشوكة، إلى الطبق، إلى المنديل،

حتى يضع سلسلةً من هذه الأدوات وما يتصل بها غير السلسلة التي صنعتها مخيلة المولع بشرب الخمر.

وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء؛

فأفكار البدو لا يطول تسلسلها، لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور،

بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلتُهُ مسارح بعيدة المدى.

فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور،

ويتفاضلون في التخيل _ أيضاً _ من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات.

فالناشئ في مدينة كبيرة يفوق في التخيل الناشئ في بداوة أو ما يشبه البداوة،

وما ذلك إلا لكثرة ما يجده في حافظته من الصور المساعدة له على تأليف المعاني الجيدة.

تفاضل قوة التخيل بحسب المكان

وإذا وجدت رجلين يعيشان في بيئة واحدة منذ المنشأة، ورأيت في أحدهما براعة في نحو الشعر والصناعة قد فاق بها صاحبه _ فإن وجه فضله عليه من جهة قوة الانتباه لما بين صور الأشياء من المناسبات.

وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تحس أحدهما ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر _ ما في ذلك الأمر الذي أحسته من معنى يجلب اهتماماً شديداً من حزن أو سرور.

وانظر إلى الشاعر حين أراد التنبيه على أن ذكر حبيبه لا يفارقه قط، كيف أخبر أنه يذكره في أشد حال من شأن الإنسان أن يذهل فيه عن كل غائب، فقال:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وسيف الهند يقطر من دمي

ثم إن المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى غير قصد إلى غرض، ومن غير أن تكون تحت رعاية العقل، فتسمى مخيلة آلية،

وقد يكون انتقالها صادراً عن إرادة ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقته، فتسمى مخيلة علمية،

وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة، فتسمى مخيلة إبداعية.

فالمخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلى جهة خاصة أو غرض معين،

كأن يحصل للإنسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى إلى آخر، ويجول في جملة من صور الاشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام ولا قصد إلى استنتاج.

ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة؛ حيث يزول الانتباه ولا يبقى للإرادة سلطان،

فتجري المخيلة طلقة من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبة أو لذيذة أو مؤلمة.

ومن المرائي ما هو إلهام إلهي، كما ثبت قي نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.

والمخيلة العلمية هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها،

حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها على قانون المنطق إدراك حقيقتة كانت خافية.

مخيلة عالم

ويقول المتحدثون عن العالم ( نيوتن) إن مخيلته العلمية قد انتقلت به من مشاهدة تفاحة قد سقطت على الأرض وانساقت إلى النظر في قانون الجاذبية.

والمخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة إما محسوسة كما يفعل الصانع الماهر، أو معنوية كما يفعل الشاعر المجيد، فالصانع يفسح المجال لمخيلته،

فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء ويساعد ذوقه على أن ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صور جديدة.

وكذلك الشاعر يبعث مخيلته فيما عنده من صور الأشياء، وما زال على صورة بعد أخرى حتى يجتمع عنده ما يمكنه أن يركب منه صورة معنى لا عهد للأذهان به من قبل.

أما أثر التخيل في التربية فإنك إذا لقنت الناشئ الأخلاق الحميدة، والأعمال الصالحة،

وذكرت له ما يترتب عليها من خير وسعادة _ وجدته لا يذكر تلك الأخلاق والأعمال إلا وقد حضر في ذهنه ما يقع عَقِبَها من الخير والسعادة، فينهض لها بقوة،

وهذا شأنه حين تذكر له السير القبيحة، وتبين له ما يتصل بها من عواقب تعود عليه بالضرر والتهلكة؛

فإنه لا يخطر بباله شيء من الخلق الرذيل أو العمل القبيح إلا وقد حضر في ذهنه ما يعقبه من ضرر، فيدعوه ذلك إلى الكف عنه.

ولا ريب أن من لم يلقن فوائد الآداب الفاضلة والأعمال الصالحة ويكون خالي الذهن مما يترتب على الأعمال المكروهة من فساد _ تجده يذكر الفعلة القبيحة،

فلا ينتقل ذهنه إلى شيء يردعه عنها، فيأتيها إجابة لداعي الشهوة.

ومتى كان تعليم الأخلاق وتقويم السير من جهة الدين رأيت الناشئ يذكر جلال الله في كل وقت يهم فيه بأمر نهى عنه ذو الجلال، وفي ذلك عصمة أي عصمة.

الهوامش

(١) مجلة الهداية الإسلامية عدد 6، مجلد 8، الصادر في شهر المحرم 1355هـ، وانظر كتاب: هدى ونور للشيخ الخضر عناية الأستاذ علي الرضا الحسيني ص133 _ 137.

 

#اسماء_مقالات_مميزة

#مقالات_في_اللغة_والأدب

#محمد_الخضر_حسين

Exit mobile version